RSS

Monthly Archives: July 2013

هل يؤسس جمال مبارك حزب المستقبل؟

 (6) هل يؤسس جمال مبارك حزب المستقبل؟ – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من مصر

مع الصعود الذي حققه الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية والذي اعتبره البعض مفاجئاً لدوائر القرار السياسي، وإخفاقاً للحزب الرسمي للدولة (الحزب الوطني) في الحصول على أغلبية الثلثين اللازمة للتحكم بأي تعديلات دستورية محتملة، ولتمديد حالة الطوارئ.. واضطرار الحزب الحاكم إلى خطب ود المستقلين وضمهم إليه، بعد أن اقسم الطرفان: الحزب والمستقلون بأن طلاقهم بائناً.. وكانت صفقة مربحة لكليهما.. يؤمن الحزب الحاكم بها أغلبية الثلثين، ولا يظهر أمام الشعب بأنه حزب هزيل حصل على 33% فقط من الأصوات رغم كل ما استعمله من وسائل يندى لها الجبين في محاربة الآخرين.. ويؤمّن المستقلون (بهذه الصفقة) مصالحهم التي ترشحوا من أجلها.

جمال مبارك

وبهذه المناسبة بدأ الحديث عن رغبة نجل الرئيس جمال مبارك بإنشاء حزب جديد باسم حزب المستقبل.. وأنى لجمال مبارك الذي لا يعرف الحقائق إلا من خلال مؤسسة الرئاسة التي تحتكرها أسرته.. أنى له أن يعرف الأمور على حقيقتها.. ونحن بهذه المناسبة نحب أن نذكره ونذكر غيره ببعض الحقائق.

1- بداية القصة كانت أيام جمال عبد الناصر في أعقاب انقلاب 23 يوليو 1952.. كان حيث يذهب يقابل بهتافات الله أكبر ولله الحمد.. وكان يخطط أن تكون علاقته بالشعب المصري.. أن يقف هذا الشعب إذا قال له جمال عبد الناصر: قف، وان يجلس  إذا أمره بالجلوس.. فأنشأ حزباً باسم حركة التحرير.. ووضع على رأسه أكبر الشخصيات وألمع الأسماء، وحاول إقناع الإخوان بالانضمام إليه.. وعبثا حاول الإخوان أن يشرحوا له أن الحزب لا يبنى بقرار.. وأن الحزب الذي تبنيه الدولة لا ينضم إليه إلا تجار المبادئ الذين يريدون أن يصعدوا على ظهر الحزب.

وتعرض الإخوان للأهوال: للقتل والقمع والسجن وكل ما يتصوره الإنسان من إذلال.

وانتهى حزب حركة التحرير الذي خرج أبطاله إلى الشوارع ينادون بسقوط الحرية وسقوط الديمقراطية.. وبقي الإخوان فكراً يعلو ولا يعلى عليه.. ورموزاً شامخة هي القدوات التي يعيش على التأسي بها جيلنا والأجيال التي ستأتي بعدنا.

2- وفي سوريا كان هناك برلمان وانتخابات ودستور فنكبت البلاد بالإنقلابات.. كان الأمريكان الذين خططوا ونفذوا.. يريدون قرارات سريعة مثل تسليم بعض القرى والبلدات في المنطقة المنزوعة السلاح إلى إسرائيل.. وإتمام صفقة التابلاين.. ولما استعصى على الأمريكان الحصول على قرارات سريعة تناسبهم من الحكومة السورية، قام انقلاب حسني الزعيم في مارس 1949م.. فحصلوا في جرة قلم واحدة على كل ما يريدون. وجاء أديب الشيشكلي وقام بانقلابه، وأراد أن يتعلم من خبرة جمال عبد الناصر فأنشأ حزب حركة التحرير.. ودعا الأحزاب للانضمام لها.. انضم لها المرتزقة.. والوصوليون.. وتجار السياسة.. ودخل الأحرار السجون.. وفي حوار بين الشيشكلي ومصطفى السباعي (رحمه الله) قال الشيشكلي: لماذا لا تتعاون معنا يا دكتور..؟ فأنا أحب الإسلام مثلك تماماً.. وانتهى أديب الشيشكلي.. ولا يذكر أحد حزبه.. وبقي مصطفى السباعي شامخاً.. وبقيت دعوته رمزاً لكل الحركات التي لا تبيع نفسها لحاكم.. أو لأجنبي!

3- ويوم أسقطوا السلطان عبد الحميد (رحمه الله).. وتسلم حزب الاتحاد والترقي الحكم.. ومزقوا الدولة.. وألغوا الخلافة.. وأقاموا جمهورية علمانية تحارب الإسلام.. شكلوا حزب الشعب.. كجزء متمم في ديكور الديمقراطية المزيفة.

وقبل الشعب أن يدفع الثمن.. نصف مليون شهيد يدافع عن دينه.. وعندما أثخنته الجراح.. وأرهقه الإذلال.. لجأ إلى الله يدعوه أن يخلصه من هذه المحنة.

وفي عام 1950 شكل عدنان مندريس حزبه الديمقراطي.. وأعلن نهاية المحنة.. بمثل هذه الإشارة سقط حزب الطغيان وحصل مندريس على كل الأصوات..؟

من يعتبر من التاريخ القريب والبعيد..؟ ويعلم أن البقاء للأصلح..

(وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

4- موقف أخير.. في هذا المقال الصغير.. عندما جاء اربكان من المجهول وطالب بتشكيل حزب اسمه حزب النظام عام 1970.. اشتم الطاغوت من اربكان رائحة الإسلام.. فاستشاروا عصمت انينو رئيس الجمهورية السابق، ورفيق أتاتورك.. فنصحهم بقبول تشكيل الحزب الجديد.. وعندما سألوه: وكيف ذلك؟

قال: ليحاولوا.. وسيجدوا أنا حرثنا الأرض جيداً.. فلم يبق فيها إسلام.. لقد طلبنا من (الله) أن يرحل من بلادنا.. ولقد رحل..

سنة واحدة وعدة أشهر.. استطاع اربكان القادم من المجهول والذي لا يستطيع أن يتلفظ بكلمة واحدة عن الإسلام بصراحة.. أن يكتسح الساحة.. فكان انقلاب عام 1971 وإلغاء الحزب..

وأخيراً.. أريد أن أخبر جمال مبارك.. أن حزب المستقبل هو الحزب الذي ينبثق من أشواق الجماهير.. من عقيدتها ودينها وتراثها.. ومن معاناتها ولقمة عيشها ومدرسة أبنائها..تبذل دماءها دفاعاً عنه.. وعندما يقتلهم الطغاة يعدهم ربهم بأنهم أحياء عنده يرزقون.

وأريد كذلك أن أقول للمتعجلين: اقرأوا التاريخ أولاً.. ثم امضوا على بركة الله.

2006/1/4م

 
 

الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

(5) الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من مصر

الأستاذ محمد مهدي عاكف

أحداث متلاحقة.. كلها تؤثر في مسيرة الدعوة والحركة.. فقد تم الإعلان عن وفاة المرشد العام محمد مأمون الهضيبي.. الرجل الذي وصفه زملاؤه بأنه كان مثالاً  في الانضباط والحكمة، متفانياً في عمله، محباً لإخوانه، مهتماً لأحوال أمته، يتألم لآلامها ويفرح لفرحها، وكان حريصاً على متابعة أخبار العالم كله، وخاصة تلك التي تهم المسلمين.. والمسلمون اليوم يواجهون تحديات كبرى فقد وضعتهم قوى الاستكبار العالمي في قفص الاتهام.

ولم يكن أمام أحد من المسلمين، وخاصة إخوان الفقيد وأحباؤه، إلا التسليم بقضاء الله، والدعاء للفقيد بالرحمة والغفران.

وسرعان ما أُعلن أن الأستاذ محمد هلال المحامي هو من سيقوم بأعمال المرشد العام للإخوان المسلمين إلى أن يختار الإخوان مرشدهم الجديد.. ولقد أعلن الأستاذ محمد هلال يوم 14 يناير 2004م أن إجراءات انتخاب المرشد العام الجديد قد تمت وفقاً لأحكام النظام الأساسي للجماعة وتم اختيار الأستاذ محمد مهدي عاكف مرشداً عاماً للإخوان.

وكما حزن الإخوان في أنحاء الدنيا لفراق مرشدهم الهضيبي.. الذي كان متميزاً بعطائه وحكمته.. فقد تفاءلوا بالمرشد الجديد.. الذي عرفوه في ساحات العمل المختلفة.

ذكرياتي مع المرشد الجديد

كنت أسمع عن الأستاذ عاكف من خلال مواقفه وهو مسؤول عن قسم الطلبة، وعن قوته في إدارة ملحمة الجهاد ضد قوات الاحتلال في القنال.. وعن جرأته أيام السجون والمعتقلات في كل العهود.. كنت اسمع عن ذلك.. ومع كل ملحمة يزداد جيلنا إعجاباً بهذه الدعوة المعطاء.. وبهذا الجيل الفريد الذي ربّاه الإسلام فأحسن تربيته وأوقد شعلة الحماس فيه الإمام الشهيد حسن البنا.. على هدي الدعوة الأولى.

أول لقاء لي مع الأستاذ عاكف فقد كان في الندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض، فقد كان مسؤولاً عن مخيمات الندوة التي أقامتها في مختلف أنحاء العالم.. وكنت عضواً في الأمانة العامة للندوة، وكان طبيعياً أن نلتقي ونتحاور ويزداد إعجابي بالرجل.. سمعت منه العبارة التي أثّرت في شخصيته وأثّرت فيّ كذلك وهي (من أراد الجنة فلا يرى لنفسه حقاً على أحد.. ولا ينقص من أقدارنا أن يهاجمنا بعض الناس، ويتهموننا بالباطل، ولكن الذي ينقص من أقدارنا هو أن نخطئ نحن..).

أكثر هذه المخيمات أثراً في نفسي كان مخيم جنة قلعة في تركيا الذي عقد في سبتمبر 1980 قبيل الانقلاب العسكري الذي قاده رئيس أركان الجيش التركي كنعان أفرين ضد مجموعة حزب السلامة الإسلامي الذي كان يتزعمه الدكتور نجم الدين أربكان.. أصرّت الحكومة التركية أن لا يحضر أربكان المخيم.. وأصرّت إدارة المخيم أن يحضر ويحاضر.. وعندما جاء وتحدث حصل زلزال في أرض المخيم من كثرة الهتافات والتحيات.. قلنا يومها هكذا تكون القيادة!

والتقيت مع الأستاذ عاكف في ميونيخ عندما أصبح مديراً للمركز الإسلامي هناك.. وعاكف بابتسامته المشرقة وهمته العالية ودأبه الذي لا نظير له.. حوّل هذا المركز الجميل الخامل إلى خلية نحل تضجّ بالحركة والعطاء.

وأهم هذه المواقف يوم جاءني لأعمل معه في قسم الطلاب.. وكنت متردداً لأسباب تخصني.. فأنا من الصنف الذي أعرف وأنكر.. وأقبل وأرفض.. وإذا كنت جندياً ألبي النداء.. وألتزم الصف في كل الظروف.. إلا أن طبيعتي هذه ألبّت عليّ الكثيرين.. احتضنني وطمأنني ولم أستطع أن أرفض،، وكل ما فعلته أن بكيت بشدة وهو يحتضنني.. لقد كان معي الأب والأخ معاً.

لقد صدق وعده.. وشعرت بالأمان معه.. ولم أشعر بمثل هذا الحنان منذ زمن طويل.. ومع الأمان كان العطاء الكبير الذي امتد على ساحات العالم وما زال يمتد.. والفضل في ذلك لله.. وللأخ الكبير محمد مهدي عاكف الذي يحسن التعامل مع أطياف الناس، يطمئنهم، ويستخرج منهم أقصى عطائهم.

وأصبح أربكان رئيساً للوزراء.. وأصبحنا معاً عاكف وأنا.. مسؤولين عن التجمعات الإسلامية في العالم.. نلتقي مع كل حركة أو حزب أو تجمع إسلامي في العالم.. ندرس أوضاعه، ونتعرف على مشاكله، ونعمل على حلها ما وسعنا الأمر..

ما أجمل تلكم الأيام التي قضيناها في استانبول.. يأتيني عاكف ماشياً فما زال يعتز بفتوته وشبابه وذكرياته.. نلتقي على ساحل بحر مرمرة الجميل نتذاكر في شؤون وشجون المسلمين..

كنت معه في المدينة المنورة قبيل اعتقاله الأخير بسبب حزب الوسط.. حدثني عن الحزب.. وأخبرني بأنه سيعتقل فور عودته.. هؤلاء هم صنّاع الأحداث لا يهربون من المعارك.. بل يواجهونها مع إخوانهم بمنتهى القوة والوضوح.

ويخرج الأستاذ عاكف من السجن.. ونتواعد على اللقاء في مكة المكرمة.. ألا ما أجمل السويعات التي قضيناها في رحاب الحرم.. فما زالت لذائذها تملأ جوانحي.. وما زال الحب الذي ربط قلبينا في أعلى درجات تألقه..

وأخيراً.. أعلنت القاهرة اختيار الأستاذ محمد عاكف مرشداً عاماً للإخوان المسلمين..

فهل أقول أنه اختيار موفق؟ هذا الأمر يعرفه جميع الإخوان على اختلاف مواقعهم ومستوياتهم وأعمارهم..

وهل أقول أنه شديد الاعتزاز بهذه الدعوة المعطاء المباركة؟ إنه تحصيل حاصل يعرفه ضباط السجون.. وقضاة المحاكم العسكرية.. ويعرفه الإخوان في العالم الذي التقى بهم الأستاذ عاكف في تطوافه عليهم.

وهل أقول أنه متفائل.. لا يعرف اليأس ولا القنوط؟ وهذه صفة يحتاجها كل قائد يتصدى للأمر الجلل..

وأخيراً هل أقول أنه يمثل بالنسبة لي الأخ والأب.. ويمثل اليوم المرشد العام الذي نؤدي إليه التحية ونقول له بلغته: حاضر أفندم؟

 
 

الإمام حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين

(4) الإمام حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من مصر

الأستاذ حسن الهضيبي

عندما يتحدث الشباب المسلم عن دعوة الإسلام في العصر الحديث، فإنهم يتحدثون تلقائياً عن الإمام المؤسس حسن البنا رحمه الله، يتناولون سيرته ويستشهدون بكتاباته ورسائله.. ويجدون دائما القائد الراشد، والمرشد الأمين.. والرائد المبدع.

وعندما يصل الأمر إلى الإمام حسن الهضيبي.. تراهم، مع حبهم الشديد لشخصه، وإعجابهم بصموده وصبره.. يصمتون في أكثر الأحيان، فمعلوماتهم عن الرجل قليلة، ماذا عساهم يعرفون عن الرجل وقد انتقل من محنة إلى محنة إلى محنة حتى توفاه الله يوم الحادي عشر من نوفمبر عام 1973م.

في 8 ديسمبر 1948م أصدر رئيس وزراء مصر النقراشي قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها جماعة إرهابية تهدف إلى قلب نظام الحكم في البلاد.. وفند الإمام حسن البنا دعوى الحكومة فقال: (مستحيل أن يكون الدافع الحقيقي لهذه الخطوة الجريئة من الحكومة مجرد الاشتباه في مقاصد الإخوان، أو اعتبارهم مصدر تهديد للأمن والسلام، وهو ما لم يقم عليه دليل ولا برهان، ولكن الدافع الحقيقي فيما نعتقده هو اللقاء الذي عقده سفراء بريطانيا وامريكا وفرنسا في فايد وكتبوا لدولة النقراشي باشا في صراحة بأنه لابد من حل جماعة الإخوان المسلمين).

وكان في وسع دولته أن يزجرهم عن مثل هذا التدخل في شأن داخلي بحت.. ولكنه بدلا من ذلك استجاب لهذه الرغبة الآثمة وأصدر قرار الحل، فأشمت الأعداء، وأحزن المؤمنين الأتقياء.

وبدلا من أن تتراجع الحكومة عن خطئها.. فقد تمادت وتآمرت وقتلت الإمام حسن البنا في 12 فبراير 1949م، فصار الإخوان بين شريد وطريد، وبين معتقل أو سجين.

في هذه الظروف العصيبة بدأ تفكير الإخوان يتجه إلى ضرورة انتخاب مرشد جديد للجماعة. فلا يجوز بحال أن تبقى السفينة بغير ربان.. وبخاصة إذا كانت العواصف هوجاء والظلمات حولها تمتد من كل جانب.

تداول الإخوان في هذا الأمر ووقع اختيارهم على الأستاذ حسن الهضيبي.. وعندما فاتحوه اعتذر في البداية بشدة وقدم لذلك أسبابا عدة أهمها أنه كان بعيدا عن صفوف وتنظيمات الجماعة، وكذلك عدم معرفته بكثير من الأفراد، غير أنهم تمسكوا به مفندين لهذه الاعتذارات واعدين أنهم سيكونون سندا له وعونا في قيامه بهذه المسؤولية الخطيرة، وأخيرا قبل على أن يكون هذا الوعد أحد الشروط ،والشرط الآخر هو موافقة أعضاء الهيئة التأسيسية بالإجماع على اختياره.

وتم اختياره فعلا من الهيئة التأسيسية بالإجماع في أكتوبر سنة 1951م.

وقد دلت حادثة اختياره على أن الرجل حريص على الشرعية، فلابد من انتخابه من الهيئة التأسيسية.. وحريص على وحدة الجماعة.. فلابد لانتخابه أن يكون بالإجماع.. وكان واضحا عند الرجل أنه سيترك منصبه الكبير في القضاء، وسيصبح مرشدا عاما للإخوان المسلمين، مع ما يستتبع ذلك من مهمات وتبعات، خاصة والجماعة مازالت تحت وطأة قرار الحل وكثير من أعضائها ما يزالون في السجون.. ومع ذلك فلقد كان اعتذاره في البداية واشتراطاته في النهاية كلها لمصلحة الجماعة ووحدة صفها، ولم يشترط لنفسه أو لأسرته أو لموقعه أو لراتبه أو لأمنه أية شروط على الإطلاق.

وللمرشد في نفوس الإخوان مكانة المعلم للتلاميذ، والأب للأبناء، والسياسي في موطن السياسة، والكاتب في ميدان الكتابة، والخطيب الذي لا يشق له غبار في موطن الخطابة.

كان أحدهم إذا رزق بمولود قدم من الصعيد إلى القاهرة ليسأل الإمام المرشد عن اسم يختاره لابنه.. فالمرشد في نظره كل شيء.. هكذا كان حسن البنا.. وهكذا انتظر الإخوان من حسن الهضيبي أن يكون.

وبدأ الإخوان يفدون إلى حسن الهضيبي، كل يحدثه بما يراه من خطأ يلزم إصلاحه في نظام الجماعة أو في رجالها.. وكان هؤلاء في شأن.. والإمام الهضيبي في شأن آخر.. فهو ليس مرشدا مؤسسا يستمع لكل الناس ويتحدث في كل مناسبة، ويقول رأيه في كل الأحداث، يسافر ويناظر ويحاور.. بل هو مرشد آخر جاء والجماعة تملأ شعبها مصر وفي كثير من البلدان العربية الأخرى.. وتعاني من تآمر الغرب وأذنابه عليها، وتخوض محنة الحل والسجن.. وتنظر إليها جميع القوى العالمية بحذر، فهي التي تريد اقتلاع النفوذ الغربي، وتطالب بتحرير فلسطين.

كان الرجل قاضيا في المحكمة.. وكذلك أحب أن يبقى.. وما أحوج الجماعة في هذه المرحلة إلى مرشد في منصب قاض.

وإذا كان حسن البنا هو المناسب للمرحلة الأولى.. فمما لاشك فيه أن حسن الهضيبي هو رجل المرحلة التالية.. ولكل مقام مقال ورجال.

في زيارته لسوريا عام 1954م تحدث إلى شباب الإخوان في مدينة حماة عدة جمل.. بل عدة كلمات لو وزنتها بالذهب لرجحت عليه.. ولكن جماهير الشباب كانت تريد الخطيب.. وكان يدرك ما يريدون فقدم لهم سعيد رمضان ليطربهم بخطاب يناسب حماسهم وقوتهم.

وإذا كانت لكل مرحلة ظروفها ووسائلها.. فقد عمل الإمام الهضيبي على إعادة تشكيل الأمور.. وإعادة النظر في بعض الوسائل بما يناسب المرحلة الجديدة..

ولقد تحمل الأستاذ المرشد في هذه المرحلة من إخوانه الشيء الكثير.. تمردوا عليه، واحتلوا المركز العام، وطالبوه بالاستقالة، وكان له هنا موقف.. كما كان له هناك موقف آخر.

موقفه الاعتذار يوم عرضوا عليه، وموقفه هنا التماسك والثبات ومعالجة الأخطاء وفصل المتطاولين.. فهو راع ومسؤول.. وسيحاسبه الله عن مسؤوليته وعن رعيته.

وعندما حانت ساعة تنفيذ انقلاب 23 يوليو 1952م اتصل الضباط الأحرار بالإخوان المسلمين وسألوهم عن مدى استعدادهم للقيام بدورهم في الانقلاب.. وعندما عرض الإخوان ذلك على الإمام حسن الهضيبي، وجه إليهم عدة استفسارات أهمها مدى تمسك هؤلاء الضباط بالإسلام، ومدى التزامهم في قولهم بالعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وهل تم الاتفاق في وضوح وصراحة على هذا الأمر؟

وهل اتفق على المشاركة الكاملة بين الإخوان والضباط الأحرار في الانقلاب والمسؤولية إزاءه.. والتعاون في تنفيذه وبعد نجاحه.. وفي النهاية أعطاهم المرشد موافقته المشروطة بالأمرين السابقين.

وأقسم الضباط على الشروط.. وجددوا بيعتهم التي أدوها منذ سنوات..

لم يكن حسن الهضيبي ممن يؤمنون بالعنف، أو بحرق المراحل والانقلابات، ولكنه كان يعلم أن الانقلاب العسكري أمر واقع.. وأن التفاهم مع ضابط الاستخبارات الأمريكي كوميت روزفلت قد تم.. وكانت موافقة الجماعة قضية شكلية لا أكثر(يراجع في ذلك كتاب لعبة الأمم لمايلزكوبلاند).

وفي يوم 30 يوليو – وبعد الانقلاب- تم اللقاء بين المرشد العام وعبد الناصر، ودار الحديث بينهما من منطلق ما اتفق عليه.. غير أن عبد الناصر بدأ يتنصل شيئا فشيئا من بعض الالتزامات التي تقتضيها المشاركة المتفق عليها.

أبدى المرشد العام عقب انصرافه من اللقاء عدم اطمئنانه إلى اتجاه هذه الحركة، وعدم ثقته بالقائمين عليها.. فلا مجال للثقة بمن ينقض العهود أو يكذب في المواثيق.

وكانت نظرة الهضيبي ثاقبة في هذا المجال.. ففي الوقت الذي اندفع فيه بعض الإخوان بلا حدود في تأييدهم لحركة الجيش.. كانت الصورة واضحة جدا أمام الرجل.. وفي يوم 13 يناير عام 1954م صدر بيان مجلس قيادة الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين.. وبزج قادتهم في السجون.. وكان على راسهم بالطبع الإمام حسن الهضيبي.. وكرر التاريخ نفسه، فليس هناك فرق بين طغيان يلبس الطربوش.. وبين طغيان يلبس قبعة العساكر.

كان سلوك عبد الناصر مع الإخوان يتلخص في كسب الوقت مع محاولة إيجاد ثغرات في صفوفهم لينفذ من خلالها لضربهم وتصفيتهم.

حاول ذلك عن طريق أخذ بعض شخصيات الإخوان في الوزارة بدون علم الجماعة.. فاجتمع مكتب الإرشاد وقرر عدم الاشتراك في الوزارة.. وعندما قبل الباقوري المنصب فصله الإخوان.

وحاول الاتصال بعبد الرحمن السندي وكان مسؤول الجهاز الخاص الذي فصله الهضيبي.. في محاولة لشق صف الجماعة وضرب فريق بفريق.

وحاول إيهام الناس بأن للإخوان علاقة بالأجانب وأنهم يتآمرون مع الإنكليز.. واحتقر الناس هذا الكلام.. فلا يمكن للشعب أن ينسى وبهذه السرعة كتائب الإخوان تجاهد في القنال.. أو كتائب الإخوان تقاتل في فلسطين.

حاول ضرب الإخوان بهيئة سياسية مصطنعة أسماها هيئة التحرير، وليس لها من قيمة الهيئة أو الحزب إلا بمقدار ما كان ينفق عليها من أموال الدولة لتجميع المحاسيب والقيام بمظاهرات تهتف بسقوط العلم والمتعلمين، وسقوط الحرية والأحرار.

كان الاتفاق المشبوه الذي وقعه قادة الانقلاب العسكري مع الإنكليز، وكانت معارضة الإخوان العلنية للاتفاق، الشعرة التي قصمت ظهر البعير بين الإخوان والثورة..

ولقد ذكر الإخوان في معارضتهم أنهم يطالبون بجلاء الإنكليز من مصر بدون قيد أو شرط.. وأن قبول المفاوض المصري بإبقاء عدد من القواعد العسكرية صالحة ومعدة للاستخدام تعود إليها القوات البريطانية إذا ما هوجمت دولة من دول معاهدة الدفاع المشترك أو تركيا! بل وإن الاتفاق الذي اباح للإنكليز العودة إلى مصر لم يحدد لخروجهم بعد ذلك أمدا طويلا أو قصيرا.. ثم ذكر الإخوان في بيان اصدروه رفضهم لهذا الاتفاق، ويصرون على أن أي اتفاق بين الحكومة المصرية وأية حكومة أجنبية لا يجوز أن يتم دون أن يعرض على برلمان منتخب.. فما كان لأحد أن يتحكم في مصائر الشعب دون الرجوع إليه.

لقد كانت نظرة الإخوان صائبة سديدة فلم تتخلص مصر من الإنكليز إلا بعد معركة عام 1956م.. وهو ما كان يؤكده الإخوان من أن هؤلاء لا يخرجون بغير قتال.

1983/12/12م

 
 

المحنة في حياة حسن البنا

(3) المحنة في حياة حسن البنا – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من مصر

 الإمام الشهيد حسن البنا

تكاد تجمع الأمة في العصر الحديث على الدور الرائد الذي قام به الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله). فهو مؤسس الحركة الإسلامية في العصر الحديث.. أنشأها في مصر وانتقلت منها إلى جميع أطراف الدنيا.

ولقد كتب الله عز وجل على يد هذا الرجل من التوفيق الشيء الكثير.. حتى إن معظم الإسلاميين هذه الأيام لا يكادون يجمعون على أمر أكثر من إجماعهم على احترام شخصية الإمام حسن البنا.. وحتى أولئك الذي يخالفون طريقه وفكرته ينسبون أنفسهم إليه.

ولقد شق الإمام حسن البنا – شأنه شأن جميع المصلحين- طريقه في غاية الصعوبة. وإذا كانت شخصية الرجل، وقوة حجته، وعمق تفكيره، وأناته، وصبره، مكنته من التغلب على الكثير من التحديات والمصاعب التي واجهته، فإن ذلك لا يعني إهمالنا لهذا الجانب الهام والخطير في حياة الدعوة والدعاة.

والمحنة من مستلزمات الدعوة. قال الله تعالى: (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(العنكبوت (1-3)).

وقال أيضا: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)(الأنعام- 112).

وطريقة معالجة المحنة والخروج منها من أهم المواصفات الي ينبغي أن تتوافر في القيادات.. فالمحن واقعة لا محالة.. وعلى حكمة القائد وصبره وحسن تدبيره تتوقف النتيجة.. فتتحول المحنة إلى كارثة أو إلى فائدة.

منذ الأيام الأولى.. عندما قامت الدعوة بالإسماعيلية وأخذت تكتسب كل يوم موقعا جديدا على أرض الواقع وفي نفوس المخلصين الخيرين من ابناء هذه البلدة والبلدان المجاورة، بدأ شياطين الإنس بتدبير المكائد وإشاعة قالة السوء.. ولنترك الإمام يحدثنا عن بعض هذه المواقف:

(فإنه ما كان يظهر إعجاب الناس بالدعوة والتفافهم حولها، وتقديرهم للعاملين لها حتى أخذت عقارب الحسد والضغينة تدب في نفوس ذوي الأغراض، وراحوا يصورون الدعوة والداعين للناس بصور شتى: فهم تارة يدعون إلى (مذهب خامس)، وهم أحيانا شباب طائش لا يحسن عملا ولا يؤتمن على مشروع، وهم أحيانا نفعيون مختلسون يأكلون أموال الناس بالباطل وهكذا)(مذكرات الدعوة والداعية، ص-(74-75)).

(وعندما استطاع الإخوان أن يبنوا مسجدهم وآذن بالنهاية الموفقة، اشتدت تبعاً لذلك الدسائس والفتن، وقام المغرضون من كل مكان يريدون الحيلولة دون تمام هذا العمل النافع، فلم يجدوا سلاحاً إلا الدس والوشايات والعرائض المجهولة فكتبوا بهذا إلى السلطات المحلية بالإسماعيلية من البوليس والنيابة وغيرها.

ولما لم يجدهم ذلك نفعاً كتبوا عريضة بتوقيع لفيف من أهالي الإسماعيلية إلى رئيس الحكومة رأساً ضمنوها أموراً غريبة منها: أن هذا المدرس شيوعي متصل بموسكو، وهو وفدي يعمل ضد النظام الحاضر(مذكرات الدعوة والداعية، ص-80)، وعندما قدمت هيئة قنال السويس تبرعا بمبلغ 500 جنيه لمشروع المسجد (ثارت ثورة المعترضين وانطلقت الإشاعات تملأ الجو (الإخوان المسلمون يبنون المسجد بمال الخواجات) وآزرتها الفتاوى الباطلة ممن يعلم وممن لا يعلم).

وعندما اقترح أحد الإخوان أن نحيي هذه السنة ونقوم بصلاة عيد الفطر في ظاهرة المدينة قامت حملة عنيفة.. (ومن الذي يقول: إن الشارع أفضل من الجامع.. وكانت حملة ويا لها من حملة..).

ولم يكتف المعترضون بذلك.. (بل وأشاعوا بأن الإمام البنا يقول للناس في دروسه اعبدوني من دون الله. وأن الإخوان المسلين يعتقدون بناء على ذلك أن الشيخ البنا إله يعبد وليس بشراً ولا نبياً ولا ولياً ولا شيخاً.. ولقد تحرينا مصدر الإشاعة فعرفنا أن الذي يذيع هذا شيخ عالم يشغل منصباً دينياً ويصدقه الناس فيما يقول)(مذكرات الدعوة والداعية، ص-(104-105))، ويوم قرر الإمام حسن البنا ترك الإسماعيلية والانتقال للقاهرة اقترح على إخوانه أن يتولى الشيخ علي الجداوي مسؤولية المركز من بعده فوافقوا عليه بالاجماع في فرح شامل وسرور عجيب بهذا الاختيار.. (واغتاظ من هذا الاختيار شيخ أريب أديب عالم فقيه لبق ذلق اللسان واضح البيان.. وكان محترما من الجميع فتطلع إلى أن يكون رئيسا للجماعة في الإسماعيلية.. ولم يسلك إلى تحقيق هذه الرغبة طريقها الطبيعي وهو الإخلاص في العمل والتفاني في خدمة الدعوة، ولكنه سلك إليها الطريق الملتوية، طريق الدس والتفريق والوقيعة. هل يستوي الشيخ على الجداوي (النجار) مع الأزهري الذي يحمل العالمية!، وتعلل هؤلاء أن الإخوان لم يكونوا جميعا حاضرين، وكانت الدعوة مفاجئة، لم يكن المقصود منها معلوما!.. وبعد الاقتراع الثاني.. انفرد كذلك هؤلاء الأربعة والذين أرادوا أن يفرضوا رأيهم على أكثر من خمسمائة أخ. ولكن النفوس إذا تمكن منها الهوى في ناحية فإنه يعميها عن الخير ويصم أذنها عن الحق وكذلك كان..

فبدأ هؤلاء يذيعون عن الدعوة والجماعة السوء في ثوب النصيحة والإشفاق.. ولما فشلوا تقدموا للنيابة ببلاغ يقولون فيه: (إن حسن أفندي البنا رئيس الإخوان المسلمين يبعثر في أموال الجماعة!. وتلت ذلك البلاغ بلاغات وإشاعات انتهت وانتهوا معها فكل من يفقد إدراكه لسمو الدعوة ويفقد إيمانه بها لا خير فيه في صفها..)(المصدر السابق، ص-(106-113)).

أما الفتن في القاهرة فكانت أدهى وأمر.. فبينما كانت الجماعة في أزهى ايامها تشق طريقها بثقة، وتكتسب كل يوم موقعا جديدا، إذ بالأخ أحمد رفعت يعترض على كل ما تتخذه الدعوة من أساليب، ويدعو الإخوان إلى أساليب أخرى.. ويتجمع حوله نفر من الإخوان فلا يدعون اجتماعا عاما أو خاصا ينعقد في المركز العام إلا وفرضوا أنفسهم عليه وتحدث فيه أحمد بالأسلوب المهاجم الذي لا يقبل مناقشة ولا معارضة، فتعطلت بذلك الاجتماعات والدروس وحتى حديث الثلاثاء.. ولقد حددت هذه المجموعة مطالبها في ثلاث بنود:

الأول: أنه يرى أن الإخوان تجامل الحكومة وتتبع معها سياسة اللف والدوران ويجب على الإخوان أن يواجهوا الحكومة بالحقيقة التي قررها القرآن في قوله: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).

الثاني: موضوع المرأة وإلزامها حدود الإسلام في الاحتشام وعدم التبرج، يرى أحمد أن الإخوان لم يتخذوا إجراء ما في شأنه مكتفين بدعوة المرأة إلى ذلك بالنصيحة والكلام دون العمل. ويرى أحمد أن يسلك الإخوان بصدد هذا الأمر الخطير مسلكا عمليا بأن يوزع الإخوان أنفسهم في شوارع القاهرة ومع كل منهم زجاجة حبر كلما مرت أمامه فتاة أو امرأة متبرجة ألقى عليها من هذا الحبر حتى يلطخ ملابسها فيكون هذا رادعا لها.

الثالث: موضوع فلسطين، يرى أحمد أن وقوف الإخوان في مساعدة مجاهدي فلسطين عند حد الدعاية وجمع المال لهم هو تقصير في حق هذه القضية وقعود عن الجهاد وتخلف عن المعركة وعلى الإخوان أن يتركوا أعمالهم ويتطوعوا في صفوفهم وإلا كانوا من الخالفين) (المصدر السابق، ص-(106-113)).

ثم كان انشقاق آخر تكونت على أثره جماعة شباب محمد في سنة 1939م، وقد أذاعت هذه الجماعة برنامجها في العدد الأول للنذير (مجلة الإخوان) (أحداث صنعت التاريخ، 1: (200-202)) بعد أن آلت ملكيتها لشباب محمد، وقد حصر هذا البيان أوجه الخلاف بين الجماعتين في أربع نقاط هي:

1- الشورى: ويرى المرشد العام للإخوان المسلمين أنه لا شورى في الدعوة وأن الدعوة إنما ينهض بها فرد واحد له أن يأمر وعلى الجميع أن يطيع.

وقد خالفناه في هذا الرأي وأصررنا على موقفنا لأن في رأي فضيلته مخالفة للنظام السياسي للإسلام وتحديا لمصدريه العظيمين الكتاب والسنة ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

وقد حاولنا أن نتفاهم مع فضيلته كثيرا فأبى إلا أن يكون رأيه الفصل ولو كان في ذلك لإقصاء للمخلصين من الإخوان المسلمين ثم عاد إلى التعلل أخيرا بأنه لم يجد في الإخوان من هو أهل للشورى وهذا ما لا نقره عليه.

2- العمل تحت لواء الحاكمين بغير ما أنزل الله: من مبادئ الإخوان المسلمين أنه لا نجاح للدعوة إلا بقوة الشعب الذاتية وتوجيه الرأي العام توجيها إسلاميا خالصا دون الاعتماد على الحكام، ولكن الأستاذ – يقصد البنا- حاد عن هذا المبدأ القويم معلنا أن نجاح الدعوة مرهون بإرضاء الحكام والعمل تحت ألويتهم الحزبية، وأخذ يسلك سبلا متفرقة ما بايعنا الله عليها (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) متناسيا ألا أمل للإسلام فيهم وأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله ( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ). عارضنا هذا بكل قوة مرددين أقوال فضيلته بأننا إسلاميون غير حزبيين وأننا نعمل لله ولرسوله لا لزعيم ولا لحزب.. فأبى إلا العمل برايه والمضي فيه ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا).

3- التلاعب المالي: طلبت من فضيلته تكوين هيئة قوية لمراقبة المال والمحافظة عليه لتكون مسؤولة أمام الإخوان فأعرض فضيلته وأصم أذنيه عن هذا القول الذي نعده طلبا عادلا يتفق مع أبسط مبادئ الإدارة وكان من نتيجة عدم الأخذ بهذا الرأي أن أنفقت أموال كثيرة لا نقول في أغراض شخصية ولكن على ألأقل في غير الأغراض التي جمعت من أجلها.

4- تطهير الدعوة: ألححنا على فضيلته ورجوناه غير مرة أن يحرص على طهارة الدعوة بإقصاء كل الأعضاء الذين تشوب أخلاقهم الشوائب ليسلم هذا البناء الذي كنا ومازلنا نفتديه بأنفسنا وحتى يسمو عن المظان والشبهات وكان من بين هؤلاء الأعضاء أشخاص اعترف فضيلته في أحاديث متعددة بعد أن تبين من تحقيقات أجراها بنفسه بأن وجودهم مضر بسمعة الدعوة من الناحية الخلقية، ولكنه أصر على بقائهم فضلا على أنه أسند إليهم أعمالا رئيسية وأخذ يشيد بذكرهم في رحلاته إلى الصعيد وغيره).

ثم راحت جريدة النذير تتهم البنا شخصيا بحبه وسعيه لألقاب التقديس والزعامة والقيادة وأن نفسه تحدثه بالجاه والسطوة والسلطان قبل أن تحدثه بالجهاد والتضحية والصبر على المكاره، وأنه لا يرضى أن يعمل بجانبه من يحس منه المنافسة في الزعامة والإمامة).

وشهد عام 1947 انشقاقا آخر في صفوف الإخوان.. وكان من أخطر ما واجهته من فتن في تلك الفترة (.. ففي الوقت الذي كان فيه البنا يجمع جهوده في مقاومة الأحداث يلجأ السكري ومعه الدكتور إبراهيم حسن إلى صحيفة الجماهير اليسارية لينشرا مقالات هجومية ضده وضد جماعته ويتهمانه بالعمالة لصدقي والنقراشي وهي نفس التهم التي توجهها التنظيمات اليسارية والوفد، ويتهم السكري البنا بالغدر به ويلوح بأن تقاضى أموالا من الإنكليز).

هذه نماذج من الفتن التي تعرض لها الإمام الشهيد حسن البنا من داخل الصف.. فكان وقعها عليه أشد بكثير من الفتن التي واجهها من أعداء الدعوة.. وفرق بين عدو تنتظره فتهيئ نفسك للقائه.. وبين عدو قريب يعرف مقاتلتك فيؤذيك ويخدعك بقربه منك.

ولقد تجلت عبقرية الإمام البنا بالأسلوب الأمثل الذي عالج فيه هذه المحن واستطاع بفضل الله ثم بفضل  إخوانه أن يجنب الدعوة الكثير من المطبات التي أحكمها الأعداء بايدي الأقربين.

وفي هذه المناسبة نقول لجميع الشباب المسلم – ولهم في أخيهم حسن البنا عبرة قريبة- إن الداعية المسالم الذي يكتفي من الدعوة بمجاملة الجميع هو إنسان يعيش لنفسه وسلامتها.. أما ذك الشاب المسلم المندفع لخدمة دعوته الذي يريد أن يسجل لها كل يوم نصرا وفي كل أرض أفقا جديدا وفي كل مجال طموحا وتقدما فسيواجه المحنة من أقرب الناس إليه، من رفاق صفه، ومن إخوان دربه، ممن يمارسون صفة الصلاح والتقوى، سيقولون عنه: إنه يؤسس جماعة جديدة.. كما قالوا لأخيهم حسن البنا من قبل أنه يدعو إلى مذهب خامس!

سيقولون له: إنه شاب طائش لا يؤتمن على عمل، نفعي مختلس يأكل أموال الناس بالباطل، تماما كما قالوا للقائد حسن البنا مثل ذلك..

وسيقولون له: إنه متحرك له اتصالات واسعة بل خطر على الأمن أبعدوه من كل الأرض حتى نسلم.. تماما كما قالوا للقائد حسن البنا من قبل..

وسيقولون له: إنه يعبد ذاته، ويتحرك في إطار زعامته، باع نفسه للحكومات حتى يصبح من اصحاب السلطان، تماما كما قالوا للقائد حسن البنا هذا القول..

سيجتمعون ويتآمرون، على شخصه فهو يستحق الموت..

وعلى فكره الذي يعلنه وهل بقي في هذا الزمان فكر..

في هذه المناسبة نقول للشباب المسلم الصابر المجاهد – إن لهم في أخيهم حسن البنا عبرة قريبة- فبدون الصبر لا يدرك الحق.. وبدون المحنة لا يكون النصر.. والنصر أساسا  صبر ساعة!

1985/2/12م