(2) عالم النباغية – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من موريتانيا
حديث النباغة لم ينته بعد!
وكيف ينتهي هنا.. وهو موصول بالفؤاد.. وحسب المفتون بحب المعرفة أن يرى عجبا في زمن انقضت فيه الأعاجيب.
الرجل متوسط القامة، نحيف الجسم، حاد قسمات الوجه، العيون تنطق والنظرات تعبر والأنف يشهد لك أو عليك .. الشعر أشيب، والملابس بسيطة علق بها الغبار الذي طال ثورانه فما ترك مكانا لم يعلق به، والرجل في حدود الخمسين وقد نضج علما ووعيا وحكمة.
تحلقنا حوله.. نريد أن نسأله.. وهل يجوز الصمت بعد أن قطعنا مئات الأميال في هذا الطريق الصحرواي الذي كنا نموج على طريقه كما تموج السفينة في لجة البحر المحيط..؟
يتصور المحب أن الصمت بليغ.. وشتان بين بلاغة الصمت وفضيلة الكلام عندما نطق به هذا العالم المتواضع.
سألته: وكيف ترى دور العلماء في هذا الزمن الذي اختلت فيه الموازين وأمر فيه بالمنكر ونهي فيه عن المعروف؟
وأجاب.. للعلماء دور وللآخرين دور، وكل إنسان يعرف أمرا فهو عالم فيه.. فهل إذا رأيت إنسانا يشرب الخمر.. تقول لا أستطيع أن أنهاه لأني لست عالما؟ أنت تعرف حكم شارب الخمر فأنت إذن عالم في هذه المسألة.. وواجبك أن تتصرف فيما تعلم.. صحيح أن العالم يجب أن يتقدم الركب وأن لا يبقى في ذيل القافلة.. وعليه أن يؤدي ضريبة علمه حتى لا يتحول إلى مجرد إنسان يحمل أسفارا.. ولكننا في كل الأحوال لن ننتظر .. فالأوضاع ساءت ولم تعد تحتمل الانتظار.. (وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).. كل في حدود علمه وكل في حدود قدرته.
وكيف تنظرون لهذه الدعوات التي ترفع شعار القومية العربية.. وجميع روادها –
من غير المسلمين..؟
وأجاب.. كل دعوة قومية أو عربية لا تتخذ الإسلام مبدءاً ومنهجاً وهدفاً فهي جاهلية وصفها النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنها منتنة.. هذا من ناحية المبدأ.. أما في التطبيق فإن أمتنا لم تنكب إلا يوم تعالت الصيحات الجاهلية القومية.. رفعها المستعمر في بلادنا ليفرق العربي عن أخيه البربري، ورفعها المستعمر ليفرق المسلم التركي عن المسلم العربي، ورفعها العربي نفسه ليفرق بين القطر والقطر.. هي الجاهلية المنتنة فاحذروها.
وماذا تقولون في التصوف..؟
التصوف له وعليه.. فالتصوف الذي يوافق الكتاب والسنة، ويكون همه تزكية النفس واستقامة الأخلاق وصيانة القلب من الأمراض.. فهو من التصوف الذي لا غبار عليه.. بل هو مطلوب وبخاصة للدعاة.. أما إذا سار التصوف في طريق آخر.. وجاء بأمور لا يقرها كتاب الله أو سنة رسوله، فهذا من المنزلقات التي على الدعاة أن يتجنبوها.
وسألته عن دعوة الإخوان وعن الشيخ حسن البنا.. وتعجب مني أن أسأل مريداً عن شيخه!!
ودعت الرجل العالم الذي حبس نفسه في هذه البقعة النائية البعيدة ليشرف على جامعة النباغية حيث يعيش مع طلاب جاءوا من مختلف أنحاء أفريقيا ليدرسوا على يديه القرآن والتفسير والفقه والحديث.. والدعوة.
هذا بقية من سلف هذه الأمة المعطاء… حبس نفسه على تربية الأبناء.. ليقوموا بدورهم في قيادة الأمة وتوجيهها.
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ..) (التوبة- 122).
لاس بالماس – جزر الكناري 4/2/1984م