(5) الإسلاميون والمشاركة السياسية (كلمة ألقيتها في الملتقى) – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من الجزائر
عبد المجيد مناصرة
بدعوة كريمة من الأخ عبد المجيد مناصرة المسؤول السياسي في حركة مجتمع السلم في الجزائر للمشاركة في ندوة سياسية حول (الإسلاميون والمشاركة السياسية). كان لابد لي من الاستجابة لدعوته لأسباب، بعضها عاطفي للعلاقة الحميمة التي ربطتني مبكراً مع هؤلاء الشبان الذين أصبحوا قادة وعلى رأسهم شيخهم محفوظ نحناح، وبعضها شخصي فقد كنت من أوائل من كتب في موضوع المشاركة في كتابي الفكر الحركي بين الأصالة والانحراف وقد وقف الإسلاميون يومها في أغلبهم موقفاً سلبياً تجاه أفكار الكتاب بل واعتبروها نوعاً من الهرطقة.. واعتبرت الأمر طبيعياً.. فصبرت.. وكتبت كتاباً آخر حول الموضوع ذاته وبجرأة أكبر.. هو كتاب التحديات السياسية التي تواجه الحركات الإسلامية.. في هذه المرة تأكدت أن الكاتب إذا صبر على فكره فلابد من أن يفهمه الناس ولو بعد حين. فقد قدر البعض أفكار الكتاب واعتبروها دراسة سياسية مهمة.. ونشروها على حلقات في مجلة الدعوة التي يصدرها الإخوان المسلمون في مصر.. وأعيدت طباعة الكتاب في الجزائر.
اشتراك الإسلاميين في الحكم، ودخول بعض شخصياتهم الوزارة، والمصالحات التي عقدوها مع بعض الأنظمة، والأحلاف التي أقاموها مع بعض القوى السياسية، أمور أثارت في السنوات الأخيرة كثيرا من المناقشات والاعتراضات في داخل الحركة الإسلامية وخارجها.
وإذا كانت قوة الهيمنة الخارجية تنظر للأمر بشيء من الاستغراب والتشكيك، فإن الآراء داخل الحركة متباينة في هذه القضية تتراوح بين القبول والرفض ولقد غالى بعضهم في رفضه إلى درجة تكفير كل من يقترب من هذه الشجرة المحرمة.
إن دراسة هذه الظاهرة ومناقشتها أمر ضروري يفرضه الواقع المتشابك والآراء المتباينة والحرص على المصلحة.. وفي كثير من الأحيان تتفاقم المشكلة عندما يسكت عنها أصحابها.
في النقاش النظري حول هذه القضية، يقول البعض أن الأصل في المشاركة هو الحرمة، وبعضهم يقول أن الأصل هو الحِلّ.. وأنا لا أرى موجباً لهذه الخلافات.. ففي كل المواقف التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل كان قوله: (سهل إن شاء الله).
في المدينة المنورة بُعيد الهجرة بأيام أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم وثيقة دستورية بين المسلمين واليهود وبقايا الشرك في المدينة. اعترفت هذه الوثيقة بأن جميع سكان المدينة مواطنون.. يتعاونون ويتناصرون.. وعندما ذُكر حلف الفضول أمام النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت).. على الرغم من أنه حلف صاغته قريش لمصالحها وامتيازاتها.. ومن أجل الجانب الإنساني الذي فيه.. ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو دُعي إليه في الإسلام لأجاب.
ولقد شهدت السنوات الأخيرة نمواً ملحوظاً في تقدم التيار الإسلامي في كل الانتخابات التي خاضها هذا التيار سواء كانت انتخابات طلابية أو نقابية أو بلدية أو برلمانية.. ويرجع بعضهم هذا التحول الشعبي نحو الإسلاميين إلى سببين رئيسين:
الأول داخلي نتيجة فشل الأنظمة والأحزاب القومية والعلمانية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية وانحدار مفاهيم حقوق الإنسان والحريات.
والسبب الثاني خارجي نتيجة تزايد الهجمة العلمانية والأمريكية والصهيونية ومحاولة إذلال الأمة واستباحتها.. واستسلام الحكام لهذه الهجمة.. فلا تجد الشعوب الممانعة إلا عند الإسلاميين.
من التاريخ القريب..
ففي مصر مركز الحركة الإسلامية المعاصرة.. لم يدخل الإخوان المسلمون السلطة في يوم من الأيام.. وإن كانت علاقاتهم بالسلطة منطقية: لا يعادون ابتداء، ولا يكفرون حاكما، ولا يستعدون نظاما، ولا يطلبون صراعا.. ولقد تعاون حسن البنا (رحمه الله)مع شخصيات دينية وسياسية متباينة في هيئة وادي النيل العليا لإنقاذ فلسطين. وفي النضال الوطني ضد الاحتلال البريطاني لمصر.
وتفاهم الإمام البنا مع حكومة صدقي.. وكتبوا بينهم صيغة تفاهم علني، مؤداها أن يدعم الإخوان الحكومة مقابل موقف قوي منها ضد الإنكليز الذين كانوا يحتلون قناة السويس. وربط الإمام البنا استمرار التعاون بهذا الشرط.. فلما أخلت حكومة صدقي به، أعلن الإمام البنا وقف دعم الإخوان للحكومة باعتبارها أخلت بالحد الأدنى للشروط المتفق عليها.
وكذلك فعل خليفته الإمام الهضيبي عندما أبرم تفاهما مع رجال الثورة عام 1952م، أما المرشد التلمساني ومن جاء بعده.. فقد عقدوا اتفاقا مع حزب الوفد العلماني مرة عام (1984م)، ومع حزب العمل والأحرار مرة أخرى عام (1987م).
ولقد استطاع الإخوان في مصر في كل هذه المشاركات مع الأحزاب أو مع الحكومات أن يطوروا مواقفهم السياسية.. وهم اليوم – بالرغم من الاضطهاد الذي يعانونه- الرقم الأصعب في ساحة العمل السياسي المصري.. ولو أعطاهم النظام (5%) من الحرية أكثر مما أعطاهم… لحصلوا على نصف أعضاء البرلمان على الأقل.
أما في سوريا فقد كان الوضع مختلفا.. فعندما دخل الدكتور مصطفى السباعي مؤسس الحركة (رحمه الله) البرلمان شكل الكتلة الاشتراكية الإسلامية وتعاون مع الأحزاب الأخرى لإقرار الدستور السوري الذي اعتُبِر نصرا كبيرا للمسلمين، فقد نصت مادته الأولى أن الإسلام هو دين الدولة والمصدر الرئيسي للتشريع… وعندما أصبح الاستاذ عصام العطار مراقبا عاما للإخوان المسلمين في سوريا شكل في البرلمان الكتلة الإسلامية التي شاركت في أوائل الستينات الأحزاب الأخرى اليمينية واليسارية في تشكيل الوزارة وكان للإخوان فيها ثلاث وزارات.. وفي فترة لاحقة شارك فريق من الإخوان في سوريا في التحالف الوطني مع أحزاب علمانية كانت تحاربها من قبل.
لقد كانت مواقف الحركة سلمية.. تقوم على مشاركة الآخرين في العملية السياسية وتشكيل الحكومات المتعاقبة.. وصياغة المواقف والسياسات الوطنية.
وفي عام 1955 قاطعت الحركة الإسلامية الانتخابات البرلمانية.. بحجة أنها تريد أن تعكف على التربية.. فسقطت الحركة سياسياً.. وظهرت الأحزاب السياسية الهزيلة مثل حزب البعث.. وقامت حكومة الوحدة الوطنية التي صنعت مع جمال عبد الناصر الوحدة.. ودخل الإخوان في نفق مظلم، وصعدت على حسابهم الأحزاب الأخرى. وارتكب الإخوان في سوريا خطأ سياسياً آخر.. يوم تصوروا أنهم يستطيعون إسقاط النظام بقوة السلاح.
فلا المقاطعة والانعزال من سلوك الحركة الجادة.. ولا إسقاط النظام بقوة السلاح من أخلاقيات الحركة.
وقد كان لاشتراك الإخوان في سوريا في الوزارة عام 1961م رد فعل عنيف في أوساط الحركة الإسلامية في العراق.. واستمر هذا النوع من التفكير حتى اشترك الإخوان المسلمون في العراق في شخص الدكتور عبدالكريم زيدان المراقب العام للإخوان في حكومة السيد عبد الرزاق النايف العسكرية.
أما في الأردن فقد واجه الإخوان اشتراك الدكتور اسحق الفرحان بالوزارة في أواخر الستينات بالاستنكار.. فقد كان الدكتور الفرحان مسؤولاً عن معسكر (الشيوخ) الذي أقامه الإخوان عام 1968 لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.. وعندما تشكلت حكومة برئاسة وصفي التل وبدأت بتصفية العمل الفدائي.. شارك الدكتور الفرحان في هذه الوزارة واضطرت الحركة إلى فصله لقبوله المشاركة في الوزارة دون الرجوع للإخوان.. وفي وقت لاحق في أوائل التسعينات شارك الإخوان في الأردن في الوزارة بعدة وزراء.. وشكلوا حزب العمل الإسلامي الذي يعتبر صاحب أكبر كتلة نيابية في البرلمان الأردني (وهو عبارة عن تجمع يضم شرائح إسلامية متعددة).
وفي الوقت الذي استنكر بعض مفكري الإخوان الأردنيين على من شارك بالسلطة موقفهم، فإن أكثريتهم كانت ترى الأمر مفيداً.
أما في السودان.. فالأمر مختلف.. فقد دخل الاتجاه الإسلامي بقيادة الدكتور حسن الترابي في مصالحة مع النظام العسكري بقيادة جعفر النميري، واحتل قادة هذا الاتجاه مراكز هامة في حزب الاتحاد الاشتراكي السوداني، وشاركوا في عدد من الوزارات، وعلى الرغم من عدم قبول البعض لمثل هذا التفكير إلا إن غالبية شباب الاتجاه الإسلامي لم يروا في ذلك بأسا. في أواخر الثمانينات قامت الجبهة القومية بزعامة الترابي بانقلاب عسكري بقيادة الفريق عمر البشير استلمت على أثره السلطة.. لم يكن الإخوان في السودان بحاجة إلى هذا الانقلاب.. فقد كانوا يحتلون نسبة عالية من المقاعد البرلمانية (وخاصة في دوائر الخريجين). وانقسمت الحركة بعد ذلك.. فانفرد البشير بالسلطة.. وأعلن الترابي ردة المجموعة الحاكمة.
ولقد نظّر الدكتور الترابي للإنقلاب.. كما نظّر من قبل للديمقراطية.. إن الانقلاب العسكري والثورة الشعبية وكل تغيير يتم بالقوة.. هو خارج نظرة الحركة الإسلامية للتغيير.
وفي اليمن شاركت الحركة الإسلامية في السلطة، وتحالفت مع حزب المؤتمر الشعبي وخاضوا معاً حرباً ضد التيارات الانفصالية. حاربوا الحزب الاشتراكي عندما هاجم الشيوعيون اليمن الشمالي في محاولة لاحتلال منطقة تعز.. وحاربوا مرة ثانية شيوعيي عدن عندما قرروا الانفصال. وكان للإخوان في اليمن دور رئيس في استعادة بلادهم من فم التنين الأحمر.. وهذا القتال الذي شارك فيه الإخوان الحكومة من أجل حرية البلد، غير القتال من أجل إسقاط السلطة.. أو التآمر لصنع الانقلاب.
وفي الجزائر.. مثلٌ بارزٌ لمثل هذه التحالفات والمشاركة في العديد من الحكومات ومع أحزاب أخرى.. عندما طرح الشيخ محفوظ نحناح (رحمه الله) مبدأ المشاركة كخط سياسي أو استراتيجية سياسية للحركة الإسلامية قوبلت من لدن الكثير من الأوساط السياسية الإسلامية بنوع من الاستغراب والاستهجان فالصوت الطاغي آنذاك كان صوت المغالبة وبالتالي لا مجال ولا مكان لأي صوت أو لأي منهج إلا المغالبة.
في المقابل فإن تيار الأقلية الاستئصالية العلمانية المتغربة المتنفذة في دواليب السلطة لم يرقها أيضاً طرح المشاركة فهي التي كانت مستفردة بزمام الحكم وبأدوات التأثير والتوجيه فارضة آراءها بمنطق التحكم والإكراه فكيف يمكن لها أن تقبل اليوم بطرح سياسي جديد تحت اسم (المشاركة) لاسيما وهو يأتي من تيار الحركة الإسلامية، وهي التي كانت ترى وتعمل على أن يبقي مكانه الملاحقة المستمرة والرمي به في أقبية السجون، وفي أحسن الأحوال إلقاء المواعظ والإشراف على الطقوس الدينية الموسمية، ولا تقبل بأي حال من الأحوال بأية مشاركة أو عمل تراه بمثابة منازعة حقيقية لنفوذها ومصالحها.
ضمن هذه المفارقة المتعارضة جاء تأسيس الشيخ محفوظ نحناح (رحمه الله) لحركة المجتمع الإسلامي – حركة مجتمع السلم حالياً- وتبنيها لخيار أو استراتيجية المشاركة كمنهج فكري وخط سياسي تبنت المنهج السلمي والعمل السياسي العلني واعتمدت الوسطية والاعتدال وأسلوب الحوار والتعايش والتسامح، والتوافق والتعاون لمعالجة الأزمة وبناء الوطن بمشاركة وتضافر جميع جهود أبنائه، فكانت بمثابة قيم سياسية انبثقت وانسجمت وتكاملت مع نهج المشاركة الذي بقدر شدة إبهار طلعته بقدر وضوح الرؤية التي توافرت عند طرحه في الساحة السياسية.
فالشيخ محفوظ نحناح (رحمه الله) عندما طرح هذا المفهوم (المشاركة) وحاول أن يجعل منها تجربة سياسية جديدة يكون لها ما بعدها لم يطرحها في قالب من الفوضى والضبابية، ولم يطرحها ليسلمها إلى التخبط والأمزجة والأهواء السياسية لتصنع منها ما تريد وتركب من خلالها ما شاءت من أمواج أو تتحين ما رغبت من فرص.
بل طرحها وحدد محتواها نظرياً وعملياً ووضح منطلقاتها ومساراتها وبين أسبابها ومسوغاتها وأشار إلى نتائجها وآثارها(الشيخ محفوظ نحناح واستراتيجية المشاركة- عثمان نجاري (مارس 2007م)).
في تركيا شكّل حزب السلامة الوطني ائتلافا حكوميا مع حزب الشعب اليساري مرة ومع تكتل الأحزاب اليمينية مرة ثانية (خلال الفترة 1972- 1979م) واستطاع أن يحقق في المرتين مكاسب كبيرة في خدمة الإسلام والمسلمين في تركيا.
ولقد فاز حزب الرفاه الذي هو نسخة معدلة من حزب السلامة بأغلبية الأصوات وأصبح الحزب الأول في تركيا في انتخابات ديسمبر 1995م.. مما حمل رئيس الدولة على تكليف زعيمه البروفسور نجم الدين أربكان بتشكيل الوزارة، وشكلها بالاتفاق مع حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشيللر.
وننصح بدراسة هذه التجربة التي قادها أربكان، واستمرت سنة واحدة فقط، ثم أجهضها الجيش وأمريكا، والتي كان عنوانها: المجموعة الاقتصادية الثمانية الإسلامية، وتحسين الاقتصاد بدون قروض أو ضرائب، والتعاون مع القوى الإسلامية في العالم.
في باكستان قبل أمير الجماعة الإسلامية ومؤسسها الامام أبو الأعلى المودودي (رحمه الله) الدخول في تحالف سياسي مع مجموعة من الأحزاب اليمينية واليسارية، من أجل اسقاط الحاكم الظالم.. كما أن الجماعة الإسلامية شاركت بعدد من الوزراء في أول حكومة أعقبت انقلاب ضياء الحق.. وكانت علاقتهم مع رئيس البلاد جيدة وبين الفريقين صلة.
وفي ماليزيا فاجأ الأخ أنور إبراهيم زعيم حركة الشباب المسلم (ABIM) الأمة باستقالته وخاض الانتخابات باسم الحزب الحاكم (أمنو) ومازالت مشاركته موضع استنكار من الأوساط الإسلامية في ماليزيا.
وفي أندونيسيا تسلمت حركة ماشومي الحكم.. وتولى رئيسها الدكتور محمد ناصر رئاسة الوزراء.. تعاونه في إدارة البلاد الأحزاب والهيئات الإسلامية، واستمر في منصبه حتى قرر سوكارنو أن ينحرف بالبلاد عن الإسلام فحدث خصام بين التيارين. وأعلنت الحركة الإسلامية الحرب على الدولة.. ودامت الحرب فترة كبيرة من الزمن.. فلا الدولة استفادت ولا الحركة الإسلامية وصلت لأي من أهدافها.. والمستفيد الأوحد من هذا الصراع المسلح هم الشيوعيون.
وفي إيران استطاع الحزب الجمهوري الإسلامي أن يسيطر وحده على الحكم وأن يقيم جمهورية إيران الإسلامية بعد أن تعاون في البداية مع الأحزاب الشيوعية والوطنية والإسلامية والليبرالية ومع حزب مجاهدي خلق وغيرهم..
وفي الكويت شارك نواب جمعية الإصلاح الاجتماعي المحسوبة على الإخوان المسلمين في الحكومة بعدد من الوزراء أوائل التسعينات. وحدث الأمر ذاته في البحرين واليمن وطاجيكستان وغيرها من البلدان.
هذه بعض تجارب الحركات الإسلامية مع الحكم.. وهي لا تخرج عن الأشكال التالية:
1- أن يتولى الإسلاميون مسؤولية الحكم بمفردهم.
2- الاشتراك في حكومات ائتلافية أكثرية وزرائها من العناصر اليمينية أو اليسارية العلمانية.
3- أحلاف مع أحزاب يمينية أو يسارية علمانية من أجل الوصول إلى هدف محدد، غالبا ما يكون إسقاط الحاكم الطاغية أو التغلب على موقف سياسي معين.
4- البعد عن هذه المشاركات جميعا.. واعتبارها رجسا من عمل الشيطان.. والقرب منها كفر لايجوز لمسلم أن يقارفه.
أما أن يتولى الإسلاميون مسؤولية الحكم بمفردهم بطريقة مشروعة (كما حدث لحزب ماشومي في أندونيسيا نتيجة خوضهم معركة الاستقلال ضد هولندا، أو تسلم حماس مسؤولية الحكومة وقد فازت بالأكثرية في أول انتخابات برلمانية ديمقراطية فهذه غاية كل جماعة تريد الوصول للحكم لتحقيق أهدافها).
وأما الانكفاء على النفس.. واعتبار كل حوار أو مشاركة أو حلف مع الغير رجس مع عمل الشيطان.. فهو خروج عن روح الإسلام العملية الذي يعتبر المصلحة من مقاصده وأهدافه، وتطرف لن يؤدي إلا إلى تآكل الحركة وبعدها عن غايتها.
وأما اشتراك الحركات الإسلامية في وزارة يؤلفها أشخاص غير إسلاميين بل بعيدون في كثير من الأحيان عن الفكر أو السلوك الإسلامي.. فهذا بالأصل ضرورة تقدر بقدرها.. تحددها مصلحة العمل الإسلامي، ومصلحة المسلمين في هذا القطر أو ذاك.
فإذا كانت هناك مصلحة حقيقية.. أو أن اشتراك الإسلاميين في مثل هذه الحكومات سيعود بالنفع العميم على المسلمين أو سيمنع فسادا كبيرا وضررا مصيريا يحيق بهم أو يهدد وجودهم… فالاشتراك في هذه الحالة أولى.. ولنضرب بعض الأمثلة..
أولا- اشتراك حزب السلامة الوطني في تركيا في الحكم
تأسس حزب السلامة في تركيا في أوائل السبعينات ضمن معادلة توازن القوى.. ولم يكن الجيش -الذي يهيمن على السياسة التركية منذ عهد أتاتورك- يعتقد أن الحزب الجديد- سيتمكن من الوقوف على قدميه وسط أحزاب عملاقة قديمة متغلغلة في صفوف الجيش والشعب مثل حزبي الشعب والعدالة، المدعومة من قبل الدول الكبرى والمنظمات العالمية والامبريالية.. واستطاع حزب السلامة أن يحقق المعجزة وأن يصبح ضرورة لتشكيل الحكومة.
ودخل في ائتلاف مع حزب الشعب الجمهوري بزعامة بولنت أجاويد الذي يتبنى أساسا أيديولوجية معادية للإسلام والذي كان يُنتظر أن يكون أول المعادين للحزب الإسلامي.. لقد كان هذا التحالف أول اعتراف رسمي من حزب أتاتورك بالايديولوجية الإسلامية المتمثلة في حزب السلامة.. لقد أعاد اشتراك حزب السلامة في الوزارة الإسلام للمقدمة في السياسات التركية بعد أن عمل الغرب ومعه الأحزاب المستغربة على إبعاد الإسلام.. وقد كان اشتراك حزب السلامة مع ائتلاف اليمين فيما بعد للهدف نفسه.. ولقائل أن يعترض ويقول: ولكن ذلك لم يجد حزب السلامة نفعا فقد قام الانقلاب(في سبتمبر 1980م) وحُلّ الحزب ودخل قادته السجن.. ونستطيع أن نؤكد بكل ثقة.. إن يوما واحدا يعترف به النظام العلماني في تركيا وعلى لسان دهاقنة حزب الشعب أو حزب العدالة بحزب السلامة يساوي الكثير.. فكيف إذا دام الاعتراف أربع سنوات بطولها.. لقد حقق حزب السلامة من خلال اشتراكه في الحكم أمورا أساسية في حياة المسلم التركي.. أعاد له ثقته بنفسه وبوجوده وبإسلامه.. وصار الشباب المسلم يفخر ويعلي رأسه بإسلامه.. وأن خمسين سنة أخرى من عهود الظلام لن تنسي الشعب التركي المسلم تجربته مع حزب السلامة.
وأكبر دليل على ذلك هو حصول حزب الرفاه الذي هو امتداد لحزب السلامة في مارس 1994م على أهم وأكبر البلديات في تركيا.. وعلى فوزه بانتخابات ديسمبر 1995م كأكبر حزب في البلاد.. تسلم على أثرها السلطة في ائتلاف حكومي مع حزب الطريق القويم في يونيو 1996م.
ثانيا- الوضع في أفريقيا
أفريقيا هي قارة المسلمين.. أغلب سكانها مسلمون.. وقد حاول الاستعمار الغربي عن طريق التبشير والمبشرين والمدارس والكنائس أن يصبغ معظم أهلها ويقنعهم بأنهم نصارى.
والاستعمار قبل غيره يعرف أن نسبة النصارى قليلة بالنسبة للمسلمين وأن من اعتنق من هؤلاء النصرانية اعتنقها شكلا ومصلحة قبل أن يعتنقها دينا وعقيدة.. ففي دولة ملاوي مثلا.. كان المسلمون يمثلون أكثر من 60% من عدد السكان البالغين ستة ملايين نسمة.
ولكن الحكومة المسيطرة، وعن طريق النصارى الذين يتحكمون كليا بجهاز التعليم والذين يشترطون أن يغير الطالب المسلم اسمه إلى اسم نصراني ليدخل المدرسة، استطاعوا في ظرف عشرين سنة إنقاص عدد المسلمين من 60% إلى 30% فإذا استطاع وزير مسلم أن يدخل الحكومة لينقذ الأمر ويحول دون اجتثاث المسلمين من هذه البلاد.. فلا يكون في ذلك تثريب.. بل على العكس من ذلك تـماما.. فاشتراكه في مثل هذه الحالة ضرورة تـمليها مصلحة المسلمين.. كما كان اشتراك سيدنا يوسف عليه السلام في السلطة مصلحة لصالح شعب مصر.
وخلاصة الكلام في هذا الموضوع
إن اشتراك الإسلاميين في الحكم.. ضمن شروط واضحة.. ومصالح إسلامية بينة.. وضرورة تفرضها الظروف.. واستراتيجية محددة.. من الأمور التي تـملك الحركة الإسلامية اتخاذ القرار بشأنها بدون أية غضاضة.
ونحب أن ننبه هنا إلى عدة نقاط:
1- ينبغي أن لا يكون الحكم واستلام السلطة هدفا بذاته يتمسك به الإسلاميون على حساب المبادئ، أو على حساب الشعب، أوعلى حساب الحريات، أو على حساب أقوات الناس، أو على حساب استقلال البلاد واسترجاع الأوطان.
2- ينبغي أن تكون مشاركة الإسلاميين في الحكم بالطرق المشروعة عن طريق تفويض الشعب لهم عن طريق الانتخابات وليس عن أي طريق آخر.
3- ينبغي أن تسبق استلام الإسلاميين الحكم دراسات مستفيضة حقيقية يتأكدون فيها أن وجودهم في مقاعد السلطة أحسن للإسلام ولعامة المسلمين وللشعب من مقاعد المعارضة.. وإلا فالمعارضة أسلم.
4- ينبغي التأكد من ملائمة الظروف الدولية والموضوعية لمثل هذا التطور.. حتى لا يجد الإسلاميون أنفسهم في ورطة لا يحسدون عليها.
ولا بأس أن نوضح نظرة الغرب للحركات الإسلامية.. وتفسيره لمشاركتهم السياسية مع الآخرين.. ونظرته للإسلاميين المعتدلين والفرق بينهم وبين الإسلاميين المتطرفين.
المسلمون المعتدلون والديمقراطية
صدر تقرير 2007 لمؤسسة (راند) الأمريكية للأبحاث، وهي المؤسسة التي تتبع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، وتلعب دوراً مهمًّا في اتخاذ القرار داخل هذه المؤسسة الأمريكية الهامّة، وأشرف على إعداده (أنجيل سبارا) الذي كان يعمل بوزارتي الخارجية والدفاع الأمريكية.
الجديد في التقرير أنه وضع معايير جديدة للاعتدال والراديكالية لم تكن معتادة من قبل، وأهميته ترجع إلى أن توصيات التقارير السابقة لنفس المؤسسة هي التي طُبِّقت في العراق، وأثمرت تلك الحرب الطائفية الطاحنة بين العراقيين، ويوصي التقرير بنقل تلك الخبرة إلى البلدان العربية والإسلامية الأخرى؛ للتسريع بعملية التقسيم والتفتيت.
الاعتدال والتطرف في المفهوم الأمريكي
ومن معايير الاعتدال التي وضعها التقرير:
* رفض تطبيق الشريعة الإسلامية.
* وتبني منظومة القيم الليبرالية الأمريكية التي تقوم على الفصل بين الدين والدولة.
* واعتبار العقيدة شأناً فردياً بين الإنسان وربه، ولا علاقة لها بتنظيم شؤون الحياة.
* ورفض العنف.
* وتبني منظومة حقوق الإنسان التي تعتبر الشذوذ و(تغيير الفرد لدينه) ضمن هذه الحقوق.
أما الراديكالي أو المتطرِّف فهو من يتمسك بتطبيق الشريعة الإسلامية، ويسعى لإقامة الدولة الإسلامية، ويتبنى الفكر السلفي، ويرفض الديمقراطية، والليبرالية الغربية، وما يرتبط بها من منظومات حقوق الإنسان المنبثقة عن المنظور الغربي، ويرى أن من حقِّه استخدام العنف كأداةٍ للتغيير.
ويتضمَّن التقرير تفاصيل التعامل الأمريكي مع المسلمين بعد تصنيفهم، منها الوقوف إلى جانب العلمَانيين، والليبراليين، والمعتدلين (وفق المفهومِ الأمريكي للاعتدال)؛ لضرب غير المعتدلين، ودعم المعتدلين مالياً، ومعنوياً، وتصعيدهم للمناصب القيادية داخل دولهم؛ ليكونوا أنصاراً للإدارة الأمريكية في سياستها تجاه العالَمَين العربي والإسلامي.
وشدَّد التقرير على ضرورة تشجيع الدعاة الجدد، الذين ينشطون خارج الإطار الرسمي على وضع رؤى إسلامية جديدة، تؤيد الليبرالية، والعلمانية بما يُنتج إسلاماً جديداً منفتحاً، ومعتدلاً، وترويج هذا النوع من الإسلام بين العامة، ونشرِه بكلِّ الطُرُق المتاحة، وتشجيع هؤلاء الليبراليين، والعلمانيين، والمسلمين (المعتدلين) على تكوينِ جمعيّةٍ عالمية للاعتدال، يكون لها فروعٌ، وروابط داخل البلدان العربية، والإسلامية.. على الطريقة التي وصفها سيد قطب (رحمه الله) وسمّاها إسلام أمريكاني.
نقل المعركة إلى الداخل
أهم ما يلفت الانتباه في التقرير أنه ينقل معركة الإدارة الأمريكية، ضدّ العالم الإسلامي من مستوى الغزو العسكري الحالي، إلى معركة فيما بين المسلمين أنفسهم الذين يُراد لهم أن ينقسموا إلى معتدلين، ومتطرفين، وفق المفهوم الأمريكي ثُمَّ يتمُّ إشعال فتيلِ الصراع بينهم، وبذلك يتمُّ إضافة سببٍ جديدٍ للصراعات الداخلية، والاقتتال إلى جانب الأسباب العِرقية، والطائفية الموجودة بالفعل، والتي يتمُّ تغذيتها لتزداد المنطقة احتقاناً للوصول بشكلٍ أسرع لمرحلة الفوضى الخلاّقة التي أشارت إليها كونداليزا رايس، لتحقيق الشرق الأوسط الجديد.
هل الهدف هو الإرهاب أم الإسلام ؟
أمريكا تحارب الإسلام وليس الإرهاب، وتسعى لإضعاف العالم الإسلامي من خلال محاولة تقسيمه، تلك نتيجة خلص إليها استطلاع أمريكي للرأي شمل 4 دول إسلامية كبرى.
أجرى الاستطلاع مركز (وورلد بابليك أوبينيون دوت أورج) بالتعاون مع جامعة ماريلاند الأمريكية، وشمل لقاءات مباشرة لنحو 1200 شخص في 4 دول هي مصر وباكستان وإندونيسيا والمغرب في الفترة من ديسمبر 2006 إلى فبراير 2007.
وأظهرت نتائج الاستطلاع التي نشرت يوم 24 أبريل 2007م أن أكثر من 40% ممن شملهم الاستطلاع يرون أن الإسلام هو الهدف الأساسي للحرب التي تقودها الولايات المتحدة على الإرهاب، فيما رأى 12% فقط أن هدفها هو حماية الولايات المتحدة من الهجمات.
في حين اعتبر 70% ممن شملهم الاستطلاع أن الولايات المتحدة تحاول إضعاف وتقسيم العالم الإسلامي.
وفي هذا السياق قال ستيفن كول الخبير بمركز (وورلد بابليك أوبينيون) في تصريحات لرويترز: (إن الولايات المتحدة تصور الصراع على أنه حرب على الإرهاب، لكن الناس في العالم الإسلامي يرون أن الولايات المتحدة في حرب مع الإسلام).
وفي الوقت الذي تسعى فيه واشنطن لإضعاف العالم الإسلامي وتقسيمه -كما يقول الاستطلاع- يرى أكثر من نصف من شملهم الاستطلاع أن أمريكا تحاول نشر المسيحية في الشرق الأوسط، في حين أبدى حوالي 60% اعتقادهم بأن السيطرة على موارد النفط في الشرق الأوسط بين أهداف واشنطن.
وحسب استطلاع أجرته مؤخراً (مؤسسة زغبي الدولية) وجد أن 50% من الأمريكيين لا يرى أي فرق بين الإخوان المسلمين والقاعدة.