(1)
برهان الدين رباني رحمه الله
مصطفى محمد الطحان
الأمين العام لاتحاد المنظمات الطلابية
هو أحد رموز الجهاد الأفغاني ضد القوات الروسية التي غزت أفغانستان واحتلتها، ثم اضطرت للانسحاب بعد أن كبدها المجاهدون خسائر فادحة.
برهان الدين رباني
ولد برهان الدين رباني في فيض آباد مركز ولاية بدخشان عام 1940م، وتلقى تعليمه الأولي بها قبل أن ينتقل إلى مدرسة دار العلوم الشرعية (أبو حنيفة) في كابل حيث أنهى دراسته قبل الجامعية، والتحق بعد ذلك بجامعة كابل حيث تخصص في دراسة الشريعة الإسلامية وتخرج عام 1963م وعين مدرساً فيها، واشتهر أثناء دراسته بنشاطه الدعوي الكبير وسط الطلاب.
سافر رباني إلى القاهرة عام 1966م والتحق بجامعة الأزهر وحصل بعد عامين على درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية، وعاد بعدها لتدريس الشريعة الإسلامية بجامعة كابول. وازدادت سمعة رباني واكتسب شعبية وسط الطلاب فاختير عام 1972م من قبل الجمعية الإسلامية رئيسا لها وكان من بين الذين اختاروه مؤسس الجمعية غلام محمد نيازي.
في عام 1974م حاولت قوات الشرطة الأفغانية اعتقاله من داخل الحرم الجامعي غير أن الطلاب حالوا دون ذلك ونجحوا في تهريبه إلى الريف.
بدأ الأستاذ رباني بالدعوة في أوساط الشباب والطلاب، مستلهماً نهجه وفكره من مدرسة الإمام الشهيد حسن البنا، التي آمن بفكرتها، وتأثر بها أيام إقامته في مصر.. فتأثر بفكره ونهجه كثير من الشباب الغيور على دينه.
الإمام الشهيد حسن البنا
في عام 1977م حصل انشقاق في الحركة الإسلامية التي انقسمت إلى الجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني والحزب الإسلامي الذي يقوده قلب الدين حكمتيار.
اشترك برهان الدين رباني في أعمال الجهاد الذي قام ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979م، وحققت قواته العديد من الانتصارات وكانت أولى القوات التي دخلت العاصمة (كابول) بعد هزيمة الشيوعيين بقيادة أحمد شاه مسعود.
لقد كان القائدان العسكريان أحمد شاه مسعود في وادي بنشير في الشمال وإسماعيل خان في هرات في الغرب أبرز القادة العسكريين الذين تصدوا بقوة للغزاة الروس.. وكانا كليهما من مجموعة الأستاذ برهان الدين رباني.
أحمد شاه مسعود
وقعت خلافات شديدة بين قيادات الحركات الجهادية، ووصل النزاع إلى حد الاقتتال الذي راح ضحيته قرابة 40 ألف أفغاني.
إسماعيل خان
في اتفاق بيشاور الذي وقع يوم 24 أبريل 1992م، من قبل الأحزاب السبعة المشتركة في الاتحاد الإسلامي لمجاهدي أفغانستان مع حزب الوحدة الشيعي والحركة الإسلامية (الشيعية – محسني)، تمت الموافقة على تشكيل حكومة مؤقتة لمدة شهرين برئاسة صبغة الله مجددي ثم أربعة أشهر لبرهان الدين رباني كما نصت على أن تكون وزارة الدفاع للجمعية، ولم يقبل الحزب الإسلامي (حكمتيار) بالاتفاقية رغم توقيعه عليها وقام بالهجوم على كابل، وبعد أن مد رباني فترة رئاسته انتهت هذه الاتفاقية تماما.
كان البشتون وهم أغلب سكان أفغانستان يعتقدون أنهم الأولى برئاسة أفغانستان.. وأن برهان الطاجيكي يمثل أقلية في أفغانستان.
عادت الأحزاب السابقة يوم 7 مارس 1993م للاجتماع في إسلام آباد عقب معارك ضارية في كابل، ووقعت على اتفاقية عرفت باتفاقية إسلام آباد اشتركت فيها السعودية وباكستان، نصت على رئاسة الدولة لرباني لمدة 18 شهرا وتولي قلب الدين حكمتيار رئاسة الوزراء، ووقف إطلاق النار. لكن الاتفاقية لم تنفذ بسبب تبادل الاتهامات بين الحزب الإسلامي والجمعية ونقض الاتفاق ليندلع القتال من جديد بين رباني وحكمتيار.
في 1 يناير 1994م تعرض رباني لمحاولة انقلابية فاشلة على يد تحالف ضم حكمتيار ودوستم وصبغة الله مجددي إضافة إلى حزب الوحدة الشيعي. وفي شهر يوليو 1994م جدد مجلس ولاية هرات فترة رئاسة رباني لمدة عام آخر.
قلب الدين حكمتيار
وفي نوفمبر من العام نفسه بدأت حركة طالبان في الظهور، وفي العام التالي 1995م أعلن رباني أنه على استعداد للتفاوض مع المعارضة، ووقع بالفعل اتفاقا مع حكمتيار عام 1996م يقضي بالعمل المشترك واقتسام السلطة، لكن حركة طالبان لم تمهلهم فقد استولت على العاصمة الأفغانية كابل وأعلنت نفسها حكومة شرعية للبلاد.
صبغة الله مجددي
خرج رباني من كابول في 26 سبتمبر 1996م على يد حركة طالبان التي استولت على العاصمة. وانتقل رباني إلى مناطق الشمال التابعة له والتي أكثر سكانها من الطاجيك.
ظل رباني الذي خلعته طالبان من منصبه يعارض هذه الحركة، وتزعم تحالفا للمعارضة اشتهر باسم الجبهة المتحدة لإنقاذ أفغانستان ولا يزال يلقى اعترافا من العديد من دول العالم إضافة إلى احتفاظه بمقعد أفغانستان في الأمم المتحدة(الجزيرة 3/10/2004).
مقتل برهان الدين رباني
أعلنت الشرطة الافغانية أن برهان الدين رباني الذي يقود جهود السلام في افغانستان قتل عندما فجر انتحاري من حركة طالبان عبوة ناسفة كان يخبئها في عمامته، وكان ذلك أثناء اجتماع في منزل رباني الذي تم تعيينه العام الماضي رئيسا للمجلس الأعلى للسلام الذي كلفه الرئيس الأفغاني حميد كرزاي التفاوض مع طالبان.
وكان المهاجمون وصلوا إلى منزل رباني مع محمد معصوم ستانكزاي، نائب رباني، لعقد اجتماع قبل أن يفجر الإنتحاري العبوة الناسفة.
وقال فاضل كريم إيماق عضو المجلس الأعلى للسلام إن الرجال جاؤوا يحملون رسائل خاصة من طالبان.
وقال رئيس التحقيقات الجنائية في كابول محمد زاهر أن رجلين كانا يتفاوضان مع رباني باسم طالبان، وخبأ أحدهما المتفجرات في عمامته.
وأضاف أن الرجل اقترب من رباني وفجر العبوة الناسفة. واستشهد رباني وأصيب أربعة آخرون من بينهم معصوم ستانكازاي نائب رباني.
وسارعت الحكومة الباكستانية إلى إدانة عملية الاغتيال، ووصفت رباني بأنه صديق تعمل اسلام أباد معه عن كثب في جهود السلام.
وجاء في بيان مشترك للرئيس آصف علي زرداري ورئيس وزرائه يوسف رضا جيلاني أن شعب باكستان يقف إلى جانب أشقائه الأفغان في لحظات الحزن هذه.
آصف زرداري
ويأتي هذا الهجوم بعد أيام من اتهام الولايات المتحدة للحكومة الباكستانية بإقامة علاقات مع شبكة حقاني المرتبطة بطالبان.
لقد تم تعيين رباني، الذي تولى رئاسة البلاد وسط فوضى الحرب الأهلية من 1992م وحتى عام 1996م، رئيسا للمجلس الاعلى للسلام الذي كلفه الرئيس الأفغاني بالتفاوض مع طالبان، وكان ذلك عام 2010م.
(2)
الحديث عن أفغانستان
يصعب الحديث عن أفغانستان.. وهل يسهل على الإنسان أن يكتب بنفسه شهادة وفاة أحلامه؟ فقد صوروا لنا الجهاد الأفغاني وكأنه منزه من العيوب خال من احتمالات الانحراف.. وقالوا: إذا كانت الثورة الإسلامية في إيران استطاعت أن تقيم حكومة إسلامية شيعية.. فلم لا تكون أفغانستان بعد انتصار الجهاد فيها مركزا للخلافة الإسلامية السنية؟
في زيارة ميدانية لمنطقة بيشاور في منتصف الثمانينات كنت في وفد ضم الأستاذ عمر التلمساني (رحمه الله) والأستاذ مصطفى مشهور (رحمه الله) وبعض الأخوة الآخرين.. زرنا معسكرات الجهاد.. ومواقع التدريب.. ومعظم مؤسسات الأحزاب والجمعيات.. وما زلت أذكر يومها ذلك النقاش الحاد بين بعض قادة المجاهدين والأستاذ عمر التلمساني حول الوحدة وضرورة العمل المشترك، فالجميع ينادون بالإسلام ويجاهدون لرفع رايته.. فكيف تصح الشعارات إذا كان الواقع مزيدا من التشرذم والفرقة والأحزاب التي تنقسم إلى أحزاب؟!
الأستاذ عمر التلمساني
وأذكر مما قاله الأستاذ قلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي (وكان المتحدث الرئيس عن رفاقه قادة الجهاد)، بأن يطمئن الأستاذ عمر.. ويطمئن إخوانه فالوحدة بين الفصائل ستتحقق بأسرع ما يكون.. ولن يكون إلا ما يرضي الله والمسلمين.
الأستاذ مصطفى مشهور
وأذكر وأنا أودع بيشاور (مدينة الجهاد يومذاك).. وفي مطار إسلام أباد وفي انتظار إقلاع الطائرة.. استرجعت شريط الرحلة وتألمت للأحوال والتناقضات، وللأحاديث الجانبية التي يتكلم فيها كل قائد عن أخيه باعتباره عدو الجهاد ومتآمر مع أعداء الله .. وهو السبب في الفرقة وعدم الاتحاد.. يومها وأنا استرجع هذا الشريط المؤلم .. كتبت مقالة بعنوان (ليالي الأحزان في بلاد الأفغان).. تحدثت فيه عن هذه المفارقات.. وقلت لنتحدث بصراحة.. فليس مثل الصراحة وسيلة ناجعة لعلاج الأخطاء.. ولكن من سيسمع؟
فمعظم الإسلاميين يريدون أن يسمعوا منك ما يحبون.. وينكرون على من يتحدث بصراحة وموضوعية.. ففي رأيهم أنه لا يجوز نشر الغسيل أمام الآخرين. ولسان حالهم يقول: هل تريد أن تشمت بنا الأعداء؟
وما درى هؤلاء أنهم بذلك يخربون بيوتهم بأيديهم.. وأن الأعداء الذين يحذرون منهم.. إنما هم الذي يصنعون الأحداث ويعرفون عن المجاهدين أكثر بكثير مما نعرف.
كنت في زيارة لإخواني في اتحاد طلبة باكستان في منتجع شانجا مانجا بالقرب من لاهور برفقة شيخنا الجليل عبد الله عزام (رحمه الله).. وعندما تساءل الطلبة عن علاقة الجهاد الأفغاني بالأمريكان الذين يزودون المجاهدين بالمال والسلاح استنكر شيخنا ذلك.. وقال بالحرف الواحد: لا علاقة البتة بين الفريقين.. وكل من يزعم بأن للأمريكان علاقة في هذا الموضوع فإنه يحارب الجهاد.. كان رحمه الله من هذه المدرسة التي تقول: ليس الكذاب من يصلح بين الناس.. وهذه المدرسة إن صلح عملها في إصلاح ذات البين بين شخصين متشاكسين أو بين رجل وزوجته.. فهي أسوأ مدرسة في عالم السياسة يتوه فيها أذكى الناس ويتوه العمل في سراديب الأكاذيب.
عبدالله عزام
الحديث عن أفغانستان صعب.. وأصعب ما فيه أن تجابه الواقع، وتضع النقاط فوق الحروف.. وتسمى الأشياء بأسمائها الصحيحة.. سيسخط عليك الجميع.. فللجميع حساباتهم.. أما الحقيقة والتجربة والاستفادة من التجارب فلا حساب لها عند أحد.
تصرفوا كذلك في سوريا.. ارتكبوا جريمتهم.. فهدموا الدعوة وشردوا الدعاة.. ولم يسألهم أحد. ماتت التجربة حرصا على عدم كشف المجرمين.. فلم تستفد ثورة أفغانستان ولا غيرها من تجارب مرّة سبقت. ليست الهزيمة عارا بحق أحد.. ولكن العار أن تعلق شارة النصر وأنت مهزوم.. وأن تدعي البطولات وأنت مرتبط بقوة أكبر منك.. هذا ما حدث بالأمس، ويحدث اليوم، وأخشى أن يستمر في المستقبل إن لم نتدارك الأمور.
نعود إلى أفغانستان.. ونتساءل ماذا حدث.. ولماذا حدث؟
ونبدأ بالحركة الإسلامية في أفغانستان .. فهي البدايه ´ التي تمخضت عنها الأحداث.. وهي الاستمرار والمستقبل.. وإذا لم تصحح أخطاء البدايات فمن المشكوك فيه أن يستطيع الجميع الخروج من المستنقع الذي وقعوا فيه..
لنترك الحديث عن نشوء الحركة الإسلامية في أفغانستان إلى الأخ المهندس أحمد شاه زي فهو من مؤسسيها من ناحية، ومن أكثرهم اطلاعا من ناحية أخرى، يقول المهندس أحمد شاه(أفغانستان الحاضر والمستقبل العدد 16ديسمبر 1990م ص- 52): (قبل تبلور الحركة كانت هناك تحركات فردية مثل تحرك الكاتب منهاج الدين جهيز الذي كان يصدر مجلته جهيز. وهو أول من كان يبشر بأفكار الحركة الإسلامية في مجلته، وأول من فتح باب العلاقات مع الحركات الإسلامية العالمية). وكان الأخ أحمد شاه والأخ ذو الفقار غفوري يساعدانه في مشروعه. كانت للأخ منهاج الدين علاقات حميمة مع الجماعة الإسلامية في باكستان وجماعة الأخوان المسلمين في مصر.
أحمد شاه زي
في عهد داود الذي تسلم الحكم بانقلاب عسكري عام 973ام، رأت الحركة الإسلامية أن تعيد تشكيل هيكلها وتعمل بشكل منظم. واختير الأستاذ برهان الدين رباني رئيسا للحركة والأستاذ سياف نائبا له والمهندس حبيب الرحمن أمينا عاما، وسميت الحركة باسم الجمعية الإسلامية الأفغانية، وكنا من قبل نسمي أنفسنا باسم الشباب المسلم.
في هذه الفترة كان قلب الدين حكمتيار في السجن.. فلما خرج أراد هو ومجموعة من الشباب المتحمس أن يقوموا ببعض العمليات العسكرية ضد نظام داود الانقلابي اليساري ونوقشت فكرة القيام بانقلاب عسكري. وكان الأستاذ سياف من أشد الناس رفضا لهذه الفكرة. ومع ذلك مضى الشباب يخططون للانقلاب. ولقد تسبب فشل الانقلاب وكشفه إلى إلقاء القبض على 1100 شخص من الإسلاميين.. وأدى إلى وقوع داود بالكامل في أحضان الشيوعيين.. واضطرت أعداد كبيرة من أبناء الحركة إلى ترك دراستهم في الجامعات (مركز النشاط والحركة الإسلامية) والهجرة إلى باكستان.
عبد رب الرسول سياف
في هذه الفترة التقينا في الكويت بالأستاذ برهان الدين رباني وكان يزور الخليج لأول مرة وكان يحمل رسالة من الأستاذ أبو الأعلى المودودي (رحمه الله) الذي قدمه لنا باعتباره أمير الجمعية الإسلامية الأفغانية.. وفي لقائه مع إخوانه في الكويت طرح الفكرة التي هي موضع الخلاف بين فريق الشباب المتحمس الذي يريد أن يتصدى للحكومة ويزج بالحركة في معركة خاسرة.. وبين فريق الأساتذة الذين يرون أن الوقت لم يحن بعد لمثل هذه التحركات. خاصة وأن بوادر الانقسام بين داود خان وأنصاره الشيوعيين بدأت تلوح في الأفق..
داود خان
ولم يستجب الشباب وعلى رأسهم حكمتيار للمنطق ولصوت القيادة الشرعية المنتخبة، فانسحب مع عدد من الشباب المتحمس إلى باكستان.. وهناك احتضنتهم الحكومة الباكستانية، وكان ذو الفقار علي بوتو حاكم باكستان العلماني الاشتراكي يريد إدخال بلاده في قضية أفغانستان من بابها العريض.. فاستفاد من فرصة النقمة عند هؤلاء فبدأ بتدريبهم وتسليحهم(المرجح السابق، ص- 55، ومجلة فلسطين المسلمة (مارس 1994م) ، ص-46).
ذو الفقار علي بوتو
زارنا الأخ نجي الله وكان يعمل موظفا في وزارة الأوقاف في الكويت.. وكان يعتبر نفسه أحد تلامذة الأستاذ برهان الدين رباني أو هكذا قدمه لنا الأستاذ برهان الدين.. وبعد عودته من زيارة لبيشاور أحضر لي كتابا اسمه (المنافقون) وطلب منا أن ننشره ضمن كتب الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية.. وأدركت الموضوع على الفور فالمواقف متكررة في أفغانستان وفي غيرها.. كلما اقتنعت مجموعة من المتحمسين باستخدام السلاح شككوا في قادتهم واتهموهم تارة بالكفر وتارة بالنفاق. وهكذا ولد الانشقاق الأول في صفوف الحركة الإسلامية الأفغانية. وتتالت بعد ذلك الانشقاقات.
أذكر مرة كنا في صحبة الأستاذ برهان الدين رباني في زيارة بعض رجالات الدعوة في الكويت.. وسئل الأستاذ برهان عن دور الجمعية في تكريس الانقسام بين الأحزاب الإسلامية.. ولماذا لا يبادر إلى الاتحاد مع إخوانه قادة الجهاد.. وكان جوابه فاصلا: ولماذا لم تبادروا أساسا إلى منع الانشقاق.. فقد كانت الحركة موحدة.. وبدأت الانقسامات وشجعها الآخرون. الجميع يعرف أن الجماعة الإسلامية في باكستان تبنت الحزب الإسلامي وأبرزته وفرضته على الآخرين.. وكذلك حصل مع سياف فقد تبنته الحركة الإسلامية.. ولو حكّمت المصلحة العليا.. لما كانت انشقاقات ولا زعامات.
بعد سقوط داود وبدء الغزو الروسي لأفغانستان واحتلالها من قبل الجيش الأحمر عام 979ام.. صار لزاما على كل مسلم أفغاني قادر على حمل السلاح.. أن ينفر في سبيل الله لتحرير بلده. (انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ )( التوبة-41). وما زلنا نذكر جميعا البيان الذي أصدره قائد الحركة الإسلامية الأستاذ برهان الدين رباني الذي أعلن الجهاد المقدس لتحرير الوطن من رجس الاحتلال. وانتقلت القيادات إلى بيشاور المدينة الباكستانية الحدودية.. وفي باكستان توضح الانشقاق أكثر من ذي قبل.. فقد كبر الحزب الإسلامي بزعامة حكمتيار وصار جيشا يجد لدى الجيش الباكستاني والمخابرات الباكستانية التدريب والرعاية والدعم. واستخدم حكمتيار نفوذه وقوته في التضييق على منافسيه في الحركة وأعدم بعضهم، حتى أن أحمد شاه مسعود حمى نفسه وهرب إلى داخل أفغانستان ورابط في وادي بنجشير.. بينما كانت قوات حكمتيار تطارده وتلصق به الاتهامات(فلسطين المسلمة (المرجع السابق )، ص-46).
الاتفاقات والاتحادات وعمليات التنسيق أو الوحدة التي قامت بين فصائل المجاهدين.. كان حكمتيار ينتقدها ويقلل من شأنها ثم يتحلل منها.. ثم ينقض عليها.. حدث هذا في جميع الأوقات بدون استثناء.. حتى إن المعارك التي قادها الحزب الإسلامي ضد مقاتلي الجمعية الإسلامية.. استمرت طيلة حرب التحرير.. كان أشهرها مذبحة تخار شمال أفغانستان.. والتي أبيدت فيها مجموعة كاملة من قيادات الجمعية الإسلامية.. بعضهم ذبح.. وقيل إن الحزب أحرق البعض الآخر. ولقد أثارت مذبحة تخار – نظرا لكبر حجمها- الإعلام العالمي وشكلت إشارة استفهام صامتة لدى الإسلاميين في العالم.
بعد الانسحاب الكامل للقوات الروسية من أفغانستان في 15 فبراير989ام، الذي تزامن مع تشكيل الحكومة المؤقتة للمجاهدين في المنفى.. توقع المراقبون أن تنسى الأحزاب خلافاتها.. وتجعل كل همها في التركيز على إقامة الحكومة الإسلامية في أفغانستان تتويجا للجهاد الذي استمر قرابة العشر سنوات والذي دفع فيه شعب أفغانستان أثمانا غالية من أرضه وشعبه ودم أبنائه.. لم يفعل المجاهدون ذلك ولكن الشيوعيين فعلوه. بدأ الضباط الشيوعيون اتصالات مع قادة المجاهدين فانضم معظم الضباط البشتون إلى حكمتيار البشتوني.. بينما تفاهم الجنرال عبد المؤمن الطاجيكي والجنرال عبد الرشيد دوستم الأوزبكي مع أحمد شاه مسعود الطاجيكي.. وعندما تخلى دوستم عن نجيب سقط الأخير وتسلم الحكم مجلس عسكري مؤقت مكن لمسعود دخول كابول. كان بإمكان مسعود أن يعلن (أنه فاتح كابول) وأنه باق في السلطة حتى إجراء انتخابات أو الاتفاق على حل سياسي آخر.. ولكنه لم يفعل وأعلن بمنتهى الأخلاقية التي لم يفعلها غيره: أنه رجل عسكري دوره ينحصر في الحسم العسكري.. والأمر متروك الآن للقيادات السياسية.. أريد أن أسأل: من من القادة الأفغان فعل ذلك؟
وبعد أسبوع من المناقشات والضغوط والمساومات توصل القادة يوم 4ا أبريل 1992م إلى اتفاقية تنص على أن يتولى الشيخ صبغة الله مجددي السلطة لفترة شهرين، ثم يتولاها الأستاذ برهان الدين رباني لمدة أربعة أشهر، يمهد خلالها لتشكيل مجلس للشورى من أهل الحل والعقد، ومن ثم يتم اختيار رئيس للدولة لمدة سنة ونصف إلى سنتين.
لم يحضر حكمتيار الاجتماع فقد كان مشغولا بترتيبات أخرى، فقد أعلن النفير العام بين أنصاره وأمرهم بالتوجه إلى كابول لاحتلالها. وتكفلت قوات مسعود بالأمر، وتولى صبفة الله مجددي السلطة يوم 25 أبريل 1992م كما كان مقررا، وعلق حكمتيار على ذلك فقال: (لن أقبل برئاسة مجددي لأنه ليس بينه وبين بوش أي فرق).
مع ذلك فعندما انتهت مدته.. وحان وقت استلام برهان الدين رباني رئاسة الدولة حسب نصوص اتفاقية بيشاور أرسل حكمتيار إلى صبغة الله يطالبه بعدم التنازل وأنه سيدافع عنه ويحميه.. أرأيت كيف تتبدل المواقف في غضون شهرين عند حكمتيار، في أولها كان صبغة الله رجل الأمريكان المرفوض، وفي آخرها صار صبغة الله البشتوني الذي سيدافع جولبدين عنه بكل قوته؟!
لم يترك حكمتيار لرباني أي فرصة للتفرغ لشؤون البلاد فقد أشعل كابول بصواريخه في مايو 1992م بعد دخول أحمد شاه مسعود كابول، وفي فبراير 993ام عندما أعلن بأنه لن يوقف الحرب حتى يستقيل رباني بلا قيد ولا شرط.. ولقد وفى بوعده.. فما زالت صواريخه تقتل وتدمر كل شيء..
كنت في مطار كوالالمبور في انتظار الطائرة. قابلت صحفيا مشهورا من مصر.. وبادرني بالهجوم.. أرأيت إلى أصحابك الذين زعمتم أنهم مجاهدون.. وأن الملائكة تقاتل معهم.. وأنهم.. وأنهم.. أرأيت كيف لم تطفأ نار حربهم مذ دخلوا كابول.. كانوا يقاتلون الشيوعيين.. وهذه القضية نفهمها.. فما بالهم يذبحون إخوانهم بأيديهم.. ويقتلون شعبهم الأعزل بنيران صواريخهم ثم نظر إلي مليا.. قال : إذا أرادوا أن يذبحوا بعضهم بعضا فهذا شأنهم. ولكن من أعطاهم الحق في أن يهدموا البيوت على رؤوس أصحابها.. وأن تنهمر قذائقهم كما المطر على رؤوس الناس.. ألم يكن عهد الشيوعيين أبر بالناس وأرحم؟
القوات التي تحاصر كابول تحتل منطقة الضخ الكهربائية التي لا تعرف الكهرباء. إمدادات المياه مقطوعة والنهر الملوث يقع ضمن خط النار، ويقتصر التزود بالمياه في أكثر المناطق على ذوبان الثلوج وعلى بعض الآبار. الأصعب من ذلك هو فقدان الغذاء الذي يقطع الحصار طرق إمداده.
كان قلب الدين حكمتيار يقذف كابول بحجة وجود المليشيات فيها.. وذهب إليه سياف ومحمد نبي وطلبا منه التوقف عن القصف وأخبراه بأن أحزاب المجاهدين قد أعدت الخطة لطرد المليشيات وإخراجهم بالقوة من كابول وحددوا له اليوم الذي سيبدأ فيه هذا الأمر.. وفي اليوم المحدد لتصفية المليشيات (أغسطس 1992م) فوجئت العاصمة بأكثر من أربعمائة صاروخ.. ففهم الجميع أن الموضوع بالنسبة لحكمتيار مجرد ذريعة.. يتحدث الرئيس رباني عن هذه المؤامرة فيقول(مجلة المجتمع الكويتية العدد 1086): (عقد أطراف التآمر، عدة لقاءات في أوزبكستان اشترك فيها: همايون جرير زوج ابنة حكمتيار مع الجنرال عبد الملك مساعد دوستم، مع مندوب من قبل صبغة الله مجددي، مع بابراك كارميل رئيس الحزب الشيوعي، مع مندوبين لأطراف أخرى مثل حزب الوحدة وغيرهم، واتفقوا أن يكون يوم الانقلاب هو الأول من يناير) كنا نعرف خيوط المؤامرة ولهذا تمكنا (ولله الحمد) من تلقين المتآمرين درسا قاسيا أظهر تناقضهم.. وتآمرهم.. وكذب دعواهم.. والضحية في كل ذلك وللأسف الشديد هو الشعب الأعزل الذي يدفع الثمن.
في إطار المؤتمر الذي أقامته الجماعة الإسلامية في ألمانيا في 29 يوليو 1994م تحدث الأستاذ كمال الهلباوي.. وهو من المتخصصين بقضية الجهاد الأفغاني.. قال: (كان شعار حكمتيار: لا تصالح قبل أن تخرج مليشيات دوستم من العاصمة. هدفنا الأساسي هو تطهير كابل من رجسهم.. وإذا بنا اليوم نسمع أن دوستم هو رئيس الحركة الإسلامية في الشمال.. وأن حكمتيار لن يتخلى عن حلفائه)..
وأمام هذا التساؤل الحق.. وقف بعض الشباب الذين يتبنون موقف حكمتيار ليؤكدوا وبكل قوة أنهم ضد دوستم.. وأن ما يشاع عن تحالف أو تنسيق معه فمن باب الأكاذيب.. بل الأغرب من ذلك.. ما قاله قلب الدين حكمتيار في حديثه مع مجلة المجتمع(المجتمع الكويتية- العدد 1086):
(إن الجنرالات الشيوعيين المتحالفين مع الجمعية هم الذين يقصفون كابول.. وحاولوا إشراك دوستم معهم وعندما رفض حدث اشتباك بينهم وبينه.. ثم يقول:
إن كان على الدماء فأقول: إن دماء المسلمين تنزف في البوسنة وفلسطين وكشمير.. وكذلك أفغانستان.. فهي ليست قضية استثنائية. ثم كيف تقولون عن دوستم أنه شيوعي وقد ذهب وأدى مناسك العمرة في العام الماضي)؟
دوستم
أيصل الأمر بالبعض أن يستهينوا بعقول الناس إلى هذه الدرجة؟
أليس هذا أمر عجاب؟!
هذه هي القضية في أفغانستان..
قد تطول أو تقصر.. وقد تروى كاملة أو مختصرة..
خلاصتها:
إن هؤلاء القادة (إلا من رحم ربي) هم زعماء قبائل اتخذوا من الإسلام شعارا جذابا يقودون به المعركة مع الروس. ومن هنا فمعظم أتباع هؤلاء من قبائلهم وبني جنسهم.
الحركة الإسلامية العالمية قبلت هذا الوضع الشاذ ودثرته أمام الجماهير.. على قاعدة أن الجهاد سيصلح هؤلاء.. غير منتبهين إلى أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.. أما الأنماط الأخرى التي تقاتل لمجد شخصي أو مجد عائلي أو مجد عشائري فهي خارج هذه الدائرة.
لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن أمريكا عندما بذلت المال والسلاح لم تكن تلعب.. بل أصبحت جميع أوراق القضية بيدها.. ليس بيدها فقط بل في أيدي القوى العاملة على الساحة.. في أيدي إسلام كريموف رئيس أوزبكستان الذي يخاف من وصول الأصولية إلى بلاده.. وفي أيدي روسيا التي خرجت من الباب لتعود من النافذة من الجبهة الطاجيكية.. وفي أيدي باكستان التي تدعم صراحة حكمتيار وتزوده بالرجال والسلاح والمال.. حتى أن وزير خارجيتها أعلن صراحة أنه لن يكون في كابول نظام معترف به.. وفي أيدي إيران والهند وغيرها من القوى المؤثرة.
الآراء مجتمعة على أن حكمتيار يريد أن يكون الزعيم الأوحد في أفغانستان. ولا يتوانى عن إشعال الحرب أو التحالف مع تاناي الشيوعي، أو مع دوستم العميل، أو صبغة الله (الأمريكاني في نظره).
هو تارة مع الإخوان وتارة ضدهم.. وهو تارة مع حسن الترابي.. وتارة مع قاضي حسين وتارة ضده. شعاراته إسلامية ومنطلقاته بشتونية.. قادة الجهاد جميعا يكرهونه (في السر) ويخشونه (في العلن).
أما الرئيس برهان الدين رباني فقد برهن أكثر من غيره.. بأنه يميل إلى حقن الدماء ولو على حسابه أو حساب حزبه.. ولقد وجه مؤخرا نداء معبرا إلى الأمة من راديو وتلفزيون كابول جاء فيه : (ان انتصار القوات المسلحة لدولة أفغانستان الإسلامية على الانقلابيين المتمردين في اللحظات الأولى للمؤامرة، وتطهير مناطق كثيرة من أرض أفغانستان الإسلامية الطاهرة في شمال البلاد من رجس العمالة والارتزاق، والانتصارات الباهرة التي تحققت على أيدي أبناء أفغانستان البررة في (قلعة بالاحصار) التاريخية التي تعتبر رمزا للبطولات التاريخية وتل (تبة مرنجان) والمناطق الاستراتيجية الأخرى، إن هذه المكتسبات العسكرية إن دلت على شيء فإنما تدل على قوة الدولة الإسلامية الوليدة، كما تمكنت الدولة الإسلامية بعون الله وبمساعدة أبنائها المغاوير من إفشال المخططات الانفصالية في البلاد.
إننا نعلن لجميع الأطراف وبأعلى صوتنا أن الحرب لا يمكن أن تحل المشكلات، إننا نعلن استعدادنا الكامل لحل كافة الخلافات عن طريق الحوار والمناقشات البناءة ومستعدون لتقديم كل ما نستطيعه في هذا المجال. ونظرا لأهمية المرحلة التي تمر ببلادنا أعلن الآتي:
لابد من انعقاد مجلس شورى إسلامي كبير يبلور إرادة أمة الأفغان فيما يتعلق بقضاياها المصيرية.
لقد ولى العهد الذي كانت الأمور بيد بضعة أشخاص، فبعد أن تحررت أفغانستان يجب علينا أن نقرر مصيرها في حضور ممثلي الأمة وقادة الجهاد الأبطال.
وكما يعلم مواطنونا فإن هناك جهودا مخلصة تقوم بها حلقات من علمائنا الأجلاء وقادة المجاهدين لحل مشكلات البلاد، عقدت اجتماعات في كابول، وجلال أباد، وغزني، وهرات، للبحث عن مخرج من تلك المشاكل وسيعقد قريبا اجتماع يشمل العلماء وقادة الجهاد الميدانيين ورؤساء المنظمات أو ممثليهم في هرات العريقة، أطالب كل هؤلاء المجتمعين بأن يبادروا إلى تشكيل مجلس كبير في أسرع وقت ممكن. كما أنني شخصيا غير مرشح للمرحلة الانتقالية، وأعلن استعدادي وعن رغبة كاملة في تسليم السلطة للجهة أو للشخص الذي ينتخبه هذا المجلس الموقر الذي سأتشرف بالمشاركة فيه، وذلك احتراما لميثاق مكة المكرمة الذي لم يحترمه الطرف الآخر يوما واحدا. رغم إصرار وتأكيد شورى الحل والعقد على إتمامي مدة السنتين التي حددوها لرئاسة الدولة).
قد يسأل سائل وما هو المخرج؟
والجواب أن المخرج هو التمسك بالشرعية..
قد يقولون إنها شرعية ناقصة ولم توحّد.. وجوابنا أن شرعية لا توحد خير من خروج عليها لا يوحد أيضا. وإذا لم نفعل ذلك فليس هناك سوى الدمار.. وعندها لن يجد حكمتيار وبعض القوى التى تحسن صورته وتزينه أمام الآخرين لن يجدوا كرسيا يجلسون عليه(في مطار إسلام آباد (1/10/1994م)).
مبادرة أربكان
قال لي البروفيسور نجم الدين أربكان.. وهو يودعني: ستكون رحلة شاقة ومشوقة وهامة إلى كابول..
نجم الدين أربكان
وكابول.. وما أدراك ما كابول..
فيها تجمعت أمامي كل الذكريات.. منهاح الدين جهيز.. يسقط على أوراق مجلته في دارته في كابول. يقتله الشيوعيون، وتكون بداية الانفجار.. مازلت أحتفظ بأوراقه ورسائله في غرفتي، يحدثني فيها عن الفجر.. وكما حدث التحول في نفسه فقد حدث لدى الآخرين.
وبرهان الدين رباني.. وهو أول من زارنا من أفغانستان، جاءنا يحمل رسالة من الإمام أبو الأعلى المودودي يقدمه لنا كأمير للجماعة الإسلامية في أفغانستان.. أدب جم وتواضع أصيل وحياء.. هكذا بدأت علاقتنا بأفغانستان منذ بداية السبعينات وتصاعدت مع انقلاب داود.. ثم مع انقلاب آخر على داود.. ثم مع دخول القوات الروسية في ديسمبر 1979م..
ثم في الجهاد المرير الذي خاضه شبان أفغانستان وشيبهم لتحرير بلادهم من أقوى قوة ضاربة في العالم ..
كان العالم يهز كتفيه إشفاقا على هذه الدولة التي جثم الروس على صدور أبنائها وليس لهم من مخلص.. ومن سيخلصهم من براثن الروس.. وماذا تستطيع أن تفعل بنادق ضعيفة وأسلحة بدائية أمام جبروت القوة وطغيان السلاح.
عشر سنوات أخرى رأى فيها العالم العبرة.. رأوا كيف استطاع الأصحاب الأوائل أن ينتصروا على القوى العظمى في زمانهم على دولة الفرس وإمبراطورية الروم.. واليوم ينتصر الأخوة المجاهدون على أقوى قوة ضاربة في العالم..
ليس ذلك فحسب بل ويقزّمون العدو فينكمش ويرتفعون، فلما طاولت هاماتهم السماء.. تحطمت الشيوعية في روسيا.. وهي تعاني اليوم من دفع فاتورة الحساب للشعوب.
ثمن هذا النصر المؤزر مليون ونصف المليون من الشهداء.. ومئات الآلاف من المشوهين والأطفال والأرامل وخمسة ملايين من المهاجرين.. ليكن.. فهناك مئات الملايين من كسالى المسلمين يتسكعون.. والمجد لا يصنعه إلا المجاهدون.
منذ بداية رحلتي لم أحدثك عنها.. لماذا جئت مع أخوي أوغوز خان أصيل تورك وزير داخلية تركيا السابق والصحافي فرحات كوج إلى كابول عبر مضيق موسكو وبوابة طشقند..
كان أستاذنا أربكان بعقليته الفذة وشجاعته في اتخاذ القرار.. لا يرى مبررا كافيا لاستمرار القتال في أفغانستان.. فإذا كانت قوات العدو الروسي قد غادرت أفغانستان أفليس بالإمكان.. أن نخلص هذه القضية من كواليس السياسة العالمية.. من أوراق بيكر وشفاردناتزه أو غورباتشوف وبوش أو الحكومات العربية والإسلامية التي تدور في نهاية المطاف في فلك هذه الدولة أو تلك..
ومع التسليم أن الكثيرين منا يجيدون استخدام المدافع، ولا يطمأنون للجلوس إلى طاولة المفاوضات ومع ذلك فما الذي يمنع من المحاولة..؟
في نوفمبر 1989م سافر الأستاذ نجم الدين اربكان، وكنت بصحبته وكذلك الأخ الكريم عبد الله العلي المطوع (رحمه الله).. إلى بيشاور مدينة الجهاد.. والتقينا بقادة المجاهدين.. عبد رب الرسول سياف، وبرهان الدين رباني، وعرض عليهم فكرة تشكيل لجنة تحكيم من شخصيات إسلامية مرموقة، مهمتها إصلاح ذات البين في أي خلاف يقع بين الإخوة.. ومهمتها كذلك الإشراف على إنهاء الخصام بين حكومة كابول الموالية لروسيا والمجاهدين، وجمعهم على طاولة واحدة لتقرير مستقبل البلاد وإقامة حكومة إسلامية على أن يكون كل ذلك تحت إشراف هيئة التحكيم.
عبدالله العلي المطوع
وأخذ الأستاذ أربكان موافقة الأخوين سياف ورباني، وبعد أقل من سنة حصل على موافقة الأستاذ حكمتيار في لقاء أخير معه عقد في فندق أجياد في مكة المكرمة في سبتمبر 990ام. وكنت شاهداً على توقيع حكمتيار على هذه الوثيقة.
وبناء على هذه الموافقة الجماعية فقد تقرر السفر إلى كابول لعرض الأمر على الرئيس نجيب وأخذ موافقته المبدأية على هذا التحرك، وكانت الفلسفة التي ينطلق منها أربكان، أنه مادام الروس قد انسحبوا، والرئيس نجيب الله يرغب في تسليم السلطة للمجاهدين، فلا مانع من الاستجابة لهذا العرض.. فحقن دماء المسلمين يستحق مثل هذا التحرك.
نجيب الله
في موسكو
فجأة وبدون مقدمات وجدت نفسي في موسكو..
المدينة التي ملأت بالرهبة خيالات الكثيرين ، فتصوروها قدت من حديد، وراءها أستار وأمامها قضبان ، يحدثك أهلها من خلف أستارها.. قالوا عنها: الستار الحديدي.. وقالوا: الدب الروسي.. استخدموا كل العبارات المنفرة لوصف هذه المدينة، حتى صار أحدنا يطل على المدينة وهو خائف يترقب، متى سيقفز عليه دب فيأكله .. أو متى يقع في إحدى شباك الحديد..
واستقرت بنا طائرة الإيروفلوت الروسية على أرض المطار، واستغربنا أن وجدنا موظفي المطار أناسا مثلنا.. على جانب من الرغبه في الخدمة والدماثة.. ومع ذلك فلن يصلحوا لتكوين حكم عام عن البلد وأهله.. فلربما اختاروهم نموذجا يحسنون بهم سمعتهم ومن يدري..؟
من غرفتي في الطابق الحادي عشر جلست أمام النافذة أطالع الأشجار الباسقة الأنيقة وقد عراها الخريف من خضرتها فألبسها الشتاء ثوبا من الثلج الناصع الجميل .. هل رأيت نثار القطن يتطاير حباباً صغيراً..؟
كذلك هو الثلج يتساقط جميلا رائعا فيجدد الحياة، ويغير شكل كل شيء..
فإذا البساط المخضوضر يبيض ، وإذا الساحات الواسعة كالعهن المنفوش، وإذا بالصغار يكورونه قطعا يتقاذفونها.. وإذا بالرجال والنساء وقد لملمن أطراف ثيابهم من شدة البرد.
هكذا كان المنظر أمامي من غرفة فندقي في موسكو.
والنظام المتحكم، والقرع الدائم على الرؤوس يغير المفاهيم.. وإن كان إلى حين. والنظام الذي يسلب من الإنسان حريته وإرادته .. يبادله الإنسان في آخر المطاف لا مبالاة قاتلة.
صفوف طويلة.. وخطوات رتيبة.. في كل مكان.. أمام المطعم، في موقف الأوتوبيس، أمام قطعة الخبز، في الدوائر الرسمية.. وإذا حاول الإنسان أن يتضجر أو يتمرد.. أسكن رأسه بزجاجة الخمر.. فهي الوحيدة التي تغيبه عن الشعور فيستريح. من قال إن الخمر متعة ..؟
وهل يستمتع الإنسان الفاقد الوعي.. بل هي شرود وضياع ونسيان.. يدفن الإنسان في طياتها كل تمرده على التحكم والظلم والإرهاب الفكري والجسدي.
وقفنا في الطابور ومعنا البطاقة لنأكل مما يقدموه، لا مما نشتهيه. الكل يأكل نفس الطعام ونفس المقادير. استحال الفعل روتينيا فما عاد أحد يتذوق شيئا، لا تحس بطعم طعام.. ولا يحس نادل المطعم بوجودك فهو يتحرك إن كنت موجودا أو غير موجود..
ومن الصف الطويل، والبطاقة المحدودة، ولا مبالاة الجميع أدركت لم تخلف الاتحاد السوفياتي عن ركب الأمم.. تمر من أمام مطعم (ماكدونالد) أو (بتزا هت) فتخالك في يوم عيد تجمع فيه سكان موسكو لتناول طعام الأمريكان أو الإيطاليين!
هكذا يمسخون الشعوب .. ويسيرونها على غير هدى.. من أجل لقمة لا تسد الرمق، أو من أجل تقليد أعمى يضر ولا ينفع.
في حافلة نظيفة جديدة نقلتنا من الفندق إلى جولة في المدينة.. مرشدتنا فتاة أنيقة جميلة تتكلم الانكليزية بطلاقة.. رحبت بنا ونحن من بلاد شتى من أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا..
من يمين الطريق إلى شماله.. ومن الشمال إلى اليمين كانت تنتقل بنا مرشدتنا من اسم شارع إلى اسم جسر إلى تمثال أو مسرح .. وكنت تشعر وأنت معها أنها من الشريحة الجديدة التي تأثرت برياح الحرية الجديدة التي بدأت تهب على بلاد الصقيع.
هذا من القرن الخامس عشر، والسادس عشر، لم تذكر إلا نادرا القرن العشرين.. حتى الكرملين والساحات الحمراء والكاتدرائيات العظمى وكل ما يستحق أن تشرحه المرشدة هو من مخلفات القرون الماضية.. استحت بالطبع أن تقول من عهود القياصرة!
موسكو
قالت مرشدتنا: إن من أخطاء الثورة أنها حطمت المعابد.. ولكنها اليوم تعيدها للعبادة. دخلنا احدى الكنائس.. فوجدناها تغص بالناس.. وكأنما يلوذ أهلها بقوة أكبر من الاستخبارات والقتل الجماعي وتحطيم كبرياء الشعوب..!
قلت: ومتى تغيرونها من ساحات حمراء تذكر بالدماء التي أهريقت في بلاد القرم أو تركمانيا أو أزبكستان أو طشقند أو سمرقند أو أفغانستان مؤخرا.. قالت: وما دخل لون الحجارة وهي من القرون السالفة.. فالمجازر من صنع البشر!
وشعرت عندما وقفت على أسوار الكرملين .. أمام قبور عتاة الإرهاب في العالم وعلى رأسهم ستالين .. بكراهية شديدة فقد قتلوا الملايين من شعبي المسلم.
مررنا بجامعة موسكو وهي تضم 48ألف طالب ، وبتماثيل مكسيم جوركي الكاتب الروائي الروسي المشهور، وبتماثيل الشاعر الكبير بوتشكين، وبتمثال تولستوي، وبعدد كبير من المسارح.. للنور مسرح، وللأطفال مسرح.. ولعلية القوم بقية المسارح.. مررنا بمركز الحزب الشيوعي، وبمتحف الثورة وبمقر الاستخبارات الروسية.. وقلت: كم عانت شعوبنا من هذا المركز.. كم صّدرت منه مؤامرات أحبطت آمال الشعوب، كم علموا حكامنا أهم الطرق في إذلال المعارضة.. أعطوهم أسرار التجسس وأسرار القتل بلا أثر وأسرار القتل الجماعي.. قالت مرشدتنا: بل قل كم عانينا نحن..؟
سألت: وأين المساجد في بلدكم..؟ ففي روسيا ملايين المسلمين.. وموسكو ذاتها كان لها مع الإسلام تاريخ مشترك.. قالت : هناك مسجد واحد.. وهو في الطرق الخلفية لا نستطيع زيارته الآن .. وتصورت المسجد وقد أعدوه لاستقبال حكام المسلمين فيه.. ليظهروا براءتهم من هدم بقية المساجد.. وليشعروا المسلمين بأنهم كرماء مع الأديان متسامحون مع الإسلام.. زرنا بعض المتاجر.. وتكاد تكون خاوية على عروشها، صناعات رديئة، رفوف فارغة، أسعار مرتفعة، تضخم كبير ففي الوقت الذي سعروا الروبل بدولارين.. فإن الدولار يساوي أكثر من 15 روبلا.. يستغرب الإنسان أن يكون هذا حال الاتحاد السوفياتي الدولة التي لا تذكر إلا ويقال عنها الدولة الأعظم.. وأي أعظم هذا..؟ أيكون الأعظم بالقنبلة الذرية والهيدروجينية وبعدد الدبابات والصواريخ والتفنن في قتل الشعوب .. أم يكون الأعظم بقيمة الإنسان وطمأنينة الشعوب وتعشق الحريات وفعل الخيرات وإعطاء السعادة للآخرين..؟ مررنا بمركز الحزب الشيوعي.. يلتسن رئيس جمهورية روسيا، وغورباتشوف رئيس الاتحاد السوفياتي، قلت: وهل يحبهما الشعب.. قالت: يقدرهم.. قلت: بل عن الحب أسأل.. قالت مرشدتنا بلسان الفيلسوف: لم يعد في قلوبنا متسع للحب..
غورباتشوف
صدقت هذه المرأة الذكية.. فالحب مادة لا يمكن أن تتعامل بالقسر والإكراه.. بل الحب كالحياة يتسرب للقلب والوجدان بدون فرمانات أو استئذان.
يلتسن
وسألت المرشدة: عن الحياة الاجتماعية في الاتحاد السوفياتي وعن أوضاع الأسرة والمرأة على وجه الخصوص.. وكانت الصورة التي رسمتها هي أقرب لأعراف الشرقيين.. ولكنها أضافت أن نسبة الطلاق بدأت ترتفع في السنوات الأخيرة.. كما أن الشباب والشابات بدأوا يعرضون عن الزواج..
خطوة بخطوة على طريق الغرب.
وإذا كانت لنا كلمة نختم بها حديثنا عن الأيام القليلة التي عشناها في موسكو.. فهي أن الشعب الروسي أطيب مما صوروه لنا.. وهو أقرب إلى المودة.. تستشعر الظلم الذي يحس به.. وقلما ترى ابتسامة عذبة تنطلق من أعماقه.. أما نساؤهم فأكثر احتشاما من المرأة الغربية التي هي أقرب إلى التفلت من كل القيود..
ودعنا موسكو كما استقبلتنا، ودعناها بالمودة .. وقدمت هي بين يديها مزيدا من الثلج.. فلعلها أخذت بقول مرشدتنا.. أن موسكو تحب الشمس والثلج معا..!
في الطريق إلى طشقند…
ولا أستطيع (مهما حاولت ) أن أصف مشاعري في هذه الرحلة..
طشقند
مزيج من الشوق الغامر.. والحب الآسر.. والمعرفة المكبوتة تجمعت في مشاعري وأنا أغادر الطائرة وأمشي أولى خطواتي على أرض طشقند..
أردت تقبيل ترابها.. فأنا أعشق هذا التراب المحزون الذي سار عليه أجدادي الفاتحون وأسمعوا الدنيا من هناك هتاف الله أكبر.. يومها عنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما.. ولكني ماذا أقول وأنا أحني هامتي للتراب.. ولم أحنها من قبل لغير رب العالمين.. تكفي تحية قلبي لأرضهم.. مع موعد آخر للقاء..
المطار مجرد زريبة أسموها مطاراً..
لماذا شيدوا وعمروا بلادهم روسيا.. وأهملوا طشقند..
ألم تكن في التاريخ أعلى هامة منهم، وأكثر أصالة من قومهم، ألم تكن دار حضارة.. أهلها علماء.. وسكانها أقوياء.. فعندما أسروها أهانوها.. وهل يهين الكريم غير اللئيم..؟
حرصوا على وجود البار لتيسير الخمرة.. وعلى صور البنات.. فارعات عاريات لهدم الأسرة .. وعلى التلفزيون يعرض العرب المسلمين بشكل مضحك لينفرهم من الدين.. لم ينسوا حقدهم.. حتى والبلاد مستسلمة لهم منذ قرابة القرن.. وإذا كان المسلم ينشد لصلاته ركنا هادئا يركع لله فيه بخشوع.. فقد اخترت ركنا صاخبا وسط القوم، أديت فيه صلاة الفجر.. هل هو نوع من التحدي..؟
أم نوع من التذكير لإخواني أبناء طشقند.. تذكيرهم بالأصالة والإسلام ليحافظوا عليه.. ساحة المطار في طشقند تعج بالطائرات.. وماذا يفعل هذا العدد الكبير..؟
إنهم ينقلون السلاح وغير السلاح إلى الحكم في كابول.. ليصد المجاهدين عن ديارهم وأداء دورهم..
ودّعت طشقند وأنا معها علي عهد ووعد.. تماما مثلما يفعل العاشقون في دوحة غنّاء تحت شجرة معطاء يهتف على غصنها بلبل جميل.. ولسان حالي يقول:
ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياه وأني لا أودعه..
في كابول
غرفتي في دار الضيافة في كابول تشرف على حديقة جميلة.. بعض أشجارها خضراء.. وبعضها محتضرة صفراء على وشك السقوط.. ومن خلال الأشجار الباسقة ترى شوارع المدينة شبه الخالية، ومن وراء ذلك سلسلة من الجبال العالية الجرداء.. وإذا صعدت بالطائرة رأيت سلسلة أخرى من جبال أعلى وأقوى.. تغطي قممها الثلوج.. ذكروا أنها ترتفع أكثر من سبعة آلاف متر عن سطح البحر. تسمع في كابول همسا، بعضه من سائق السيارة التي تقلك، وبعضها من المرافق عندما يبتعد عنه رفيقه، وبعضها من أمام المسجد الذي صلينا الظهر في مسجده، وبعضها من بائع الخردوات الذي تدخل متجره.. والهمس والملاحظة من أقوى وسائل المعرفة.. فإذا كان الحديث الرسمي يعطيك من طرف اللسان حلاوة.. فإن الحديث الهامس أقرب إلى الواقع لمن أراد أن يتعرف عليه.
فمن هذا الواقع أن كابول ساحة حرب .. قد تشتد وقد تسترخي.. اعتاد الناس على ذلك فلم يعد منظر الجنود وسيارات الجيش والمدرعات التي تتنقل في الشوارع مما يلفت أنظارهم.. بل أن أصوات الرصاص وفرقعة الصواريخ صارت شيئا عاديا يسمعونه ولا يهتمون به..
ومن الملاحظات أن معظم الذين قابلنا من الجنود، ومن موظفي الوزرات، ومن المرافقين.. كلهم من الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين سنة.. ولهذا الأمر أهمية خاصة.. فمعنى ذلك أن هذا الجيل تربى وتدرب على عيون الانقلابيين.. تعلم في روسيا أو في دول أوربا الشرقية أو في الهند وهو مؤمن بما يفعل.. بل ويمثل النظام أحسن تمثيل.
ومن الملاحظات أن النظام أثر كثيرا على المرأة الأفغانية التي اشتهرت بمحافظتها وحجابها.. فقلما تصادف امرأة شابة متحجبة. قد ترى عجوزا أو امرأة تلبس اللباس الساتر القديم.. ولكنك لن ترى ذلك في الجيل الجديد.
مقاتلين في كابول
ومن الملاحظات أن لرجال الدين تأثيرا حقيقيا في الناس.. فعندما زرنا المسجد المركزي في كابول وصلينا فيه الظهر والعصر وسلمنا على الإمام.. رحب بنا وتوجه إلى مرافقينا بالتأنيب الشديد وقال يا خجل أفغانستان أن يمثلها رجال مثلكم تدخلون المسجد ولا تصلون (وذكروا بعد ذلك أن الجميع يخشى الشيوخ).
ومن الملاحظات أن كراهية الروس حقيقية عند الجميع.. وهمس بعضهم أن الروس لم يفعلوا للبلد شيئا.. وأنهم بنوا بعض البيوت الرديئة التي يرفض الأفغانيون أن يسكنوها.. وأنهم سرقوا المعادن ومعدات التلفزيون وكل ما وجدوه صالحا في البلد نقلوه إلى روسيا.
ومن الملاحظات أنهم شديدوا الكراهية للباكستان وللسعودية.. وعندما سألتهم لماذا يأتي الشباب العرب ليقاتلوا هنا.. قالوا: من أجل النساء ومن أجل نشر المذهب الوهابي!
ومن الملاحظات أنهم أفغانيون.. لا شرقيون ولا غربيون، وإنهم يكنون حبا وتقديرا عميقا للمجاهدين.. وتواقون للصلح معهم.
ومع شروق اليوم التالي وصلنا إلى كابول، وبعد استقبال رسمي، نقلونا إلى دار ضيافة الحكومة.
كان ينتظرنا برنامج حافل: لقاء مع وزير الخارجية، ولقاء مع رئيس الوزراء، ونائب رئيس حزب الوطن، ثم لقاء مع رئيس الجمهورية، ولقاء مع وزير الأوقاف ومع العلماء.
فإذا تصورنا أن كل هذه اللقاءات ستتم في يومين اثنين.. علمنا كم كان البرنامج مزدحما واللقاءات متتابعة. أهم هذه اللقاءات كان لقاؤنا مع وزير الخارجية عبد الوكيل.. فقد شرحنا له هدفنا وشرح لنا قضية أفغانستان..
وكان مما قاله الوزير:
إن بلادنا تتعرض لحرب أهلية منذ زمن طويل ، وإذا كان لهذه الحرب ما يبررها والروس في بلادنا، فلم يعد لها هذا المبرر بعد خروج الروس، وبعد أن مددنا أيدينا لإخواننا للمصالحة.
لا نعتقد أن الحرب يمكن أن تحل المشكلة.. ولا نعتقد أن المجاهدين يستطيعون كسب الحرب مهما طالت.
نعتقد أن الدول الأخرى وعلى رأسها أمريكا وباكستان وبعض الدول العربية هي التي تضغط على المجاهدين حتى لا نجلس معهم للحوار على طاولة واحدة..
إن الانقلاب ارتكب خطأ كبيرا باستدعاء القوات الروسية.. ولكننا ساهمنا في إخراجهم لإصلاح الخطأ التاريخي الذي حدث.
نحن مسلمون، نعتز بإسلامنا، غيرنا كل شيء في الدولة. كانت دولة الحزب الواحد ففتحنا الباب لتعدد الأحزاب. كان الحزب الديمقراطي الشعبي فأصبح حزب الوطن وهو حزب إسلامي بكل معنى الكلمة. غيرنا الدستور وقلنا إن كل قانون يتعارض مع الشريعة الإسلامية يعتبر باطلا.
كنا نتمنى على أشقائنا المسلمين أن يسارعوا إلى مساعدتنا في محنتنا وحقن دماء شعبنا ولكن ذلك لم يحصل للأسف الشديد.
نقدر لأخينا البروفيسور نجم الدين أربكان ولإخواننا في تركيا هذه المبادرة الكريمة وسوف لن ننسى لهم هذا الموقف وسيذكره شعبنا بالامتنان والتقدير. ولم تخرج الأحاديث في لقاءاتنا الأخرى مع وزير الأوقاف البروفسور محمد صديق سيلاني عن هذا الإطار.. وأضاف أنه تخرج من الأزهر الشريف وهو صديق حميم للبروفسور برهان الدين رباني.. وذكر أن النظام الحالي يحاول صياغة القوانين على أساس الشريعة الإسلامية..
أما لقاؤنا مع سليمان لايق وهو نائب رئيس حزب الوطن ونائب رئيس الجمهورية.. فقد أضاف بأن لباكستان أطماعا في بلادنا، وأن الانكليز اقتطعوا أثناء احتلالهم للهند منطقة سرحد التي يسكنها حوالي 16 مليون أفغاني.. وألحقوها بالباكستان. وأن باكستان هي التي تصلب مواقف المجاهدين وتحول دون عودتهم إلى بلادهم..
أما رئيس الوزراء فضل الحق خالق يار فقد تحدث حديثا مفعما بالمودة والأخوة وتمنى لبعثتنا النجاح في مهمتها. وبعد ذلك كان اللقاء مع رئيس الدولة الدكتور نجبب الله.
ونجيب الله شخصية جذابة.. حذرة.. ينظر طويلا في محدثه.. ويتكلم بتلقائية تشاركه أصابعه وعيناه ورأسه الحديث، رياضي المنظر، متواضع في الظاهر، ويروغ عنك كما يروغ الثعلب، شاب لا يزيد عمره عن خمس وأربعين سنة.
تحدث عن المجاهدين وخاصة غولبدين حكمتيار.. فقال :
- قالوا سيحتلون كابول في شهرين أو أسبوعين .. فلم لم يفعلوا..؟
- كنا نتمنى أن يمدوا أيديهم إلينا عندما خرجت القوات الروسية، لنفرح معا، ونهيل التراب على حقبة سوداء من تاريخ بلادنا.
- طلبنا منهم أن نحتكم إلى الشعب في انتخابات حرة بإشراف دولي مقبول ولكنهم لم يقبلوا.
- حدث انقلاب في أفغانستان فأيده حكمتيار.. قبل أسبوعين حاولوا جاهدين احتلال كابول ولكنهم لم يستطيعوا.
- نريد الصلح ونريد حقن دماء شعبنا.. ومع ذلك فنحن أقوياء وصامدون.
- أعدنا الديمقراطية وعدلنا الدستور واحتكمنا للإسلام وأجرينا الانتخابات.. ونحن مستعدون لأي إجراء يأتي بالوفاق والصلح ويوقف نزيف الدماء.
- نوافق علي هيئة التحكيم التي اقترحها البروفيسور نجم الدين أربكان.. شرطنا أن يكون الاتفاق بين الأفغانيين أنفسهم.. يجلسون وجها لوجه ويتحاورون. نحن على استعداد أن نضع جميع القوات والمخابرات والإعلام تحت إشراف لجنة محايدة مقبولة أثناء الحوار. وبعد حديث دام حوالي الساعتين، ودعنا الرجل عند باب المبنى الخارجي بالعناق، وتمنى للجنة كل خير وأوصانا بإبلاغ تحياته للأستاذ أربكان.
والانطباع السريع عن الرجل.. أنه واثق من نفسه.. يحب أن تنتهي مشكلة بلاده ولكن ليس على حسابه.. قابلنا في غير المكان المعين، نوع من الحذر الذي يتقنه رجال المخابرات. طلبنا اللقاء مع رئيس التنظيم الطلابي في الجامعة والمعاهد.. فأحضروا لنا الأخ محمد إبراهيم الذي قدم نفسه باعتباره رئيس التنظيم الشبابي والعمالي المرتبط بحزب الوطن.. والأمر لا يعدو أن يكون نقابة يسارية تضم عددا من العمال لها فروع في مختلف المدن، تقيم احتفالات فنية وشعبية، لها اتصال بالمنظمات اليسارية في العديد من الأقطار وخاصة الشيوعية، تصدر مجلة للأطفال، وأخرى للنساء، والثالثة نقابية عمالية.. وذكر الأخ محمد إبراهيم أن مؤتمرهم العام القادم سيقرر انفصالهم عن الحزب.. ليشكلوا تنظيما نقابيا مستقلا. تحدثت معه عن العمل الطلابي الإسلامي وإنجازاته وتواصينا بالتعاون وتبادل المعلومات والزيارات والمطبوعات.. ورجوته أن يدعونا إلى لقائهم العام القادم لتتاح لنا الفرصة في مخاطبة الجمهور الطلابي الأفغاني.
كابول تحت القصف
في يومنا الأخير في كابول.. وبعد أن تسلمنا من رئيس الدولة رسالة للأستاذ أربكان.. يتعهد له فيها بالانصياع للجنة التحكيم الإسلامية التي تقرر شؤون أفغانستان.. وتنهي حمام الدم الذي يدفع ضريبته الشعب الأفغاني..
وفي ليلتنا الأخيرة.. ونحن نعيد حساباتنا.. ونطرح على أنفسنا بعض الأسئلة حول جدوى هذه الزيارة.. وهل كان رئيس الدولة صادقاً في التزامه.. ومتى كان لرجال المخابرات عهد.. أم أنه الخوف من أحمد شاه مسعود وهو يزحف نحو كابول وتستسلم له قطعات الجيش قطعة بعد قطعة.. يريدون أن يتخلصوا من عهد الظلام؟.. ومع ذلك فقد كانت الزيارة مفيدة.. أطلعنا فيها عن كثب على أحوال البلاد.. وكيف أضافوا للظلم الذي عاش فيه الأفغانيون على يد حكامهم السابقين ظلماً آخر.. وكيف أضافوا على الفقر الذي يعاني منه الشعب فقراً أشد وأوجع..
كنت في حديث النفس هذا.. وبدا إطلاق الصواريخ.. وكأنها تريدنا. عندما التقينا بقيادات المجاهدين في بيشاور.. وبقلب الدين حكمتيار تعهد لنا بعدم إطلاق صواريخه عند زيارتنا إلى كابول.. ومع ذلك فإن أصوات الصواريخ لم تتوقف.. وخاصة في ليلتنا الأخيرة..
خريطة أفغانستان
هل تصورت نفسك وأنت في هذا المشهد؟
بدأت الخيالات تنتابني.. فطعم الموت مر.. من أية ناحية جاء..
وإذا حمّ القضاء بصاروخ اخترق غرفتي ودمر ما فيها وأنا بالطبع منهم.. هل يكتبها الله لنا شهادة في سبيله؟ فنحن لم نخرج من ديارنا إلا لنصرة إخواننا الأفغان.. عسى أن نقدم لهم شيئاً يخلصهم من الطاغوت..
لقد قتلت صواريخ غولبدين آلاف الأبرياء في كابول.. فهل سأل المجاهد نفسه لماذا؟ وهل يعتقد أنه يحسن صنعاً؟
سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قالوا يا رسول الله: الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل للمغنم، ويقاتل ليري مكانه، أيهم في سبيل الله.. قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.. فهو في سبيل الله).
في موسكو مرة أخرى
في موسكو التقينا بثلاثة أشخاص من القسم التركي في وزارة الخارجية الروسية.
وكانت فرصة لنا لنتعرف على التفكير الروسي الرسمي حول مختلف القضايا السياسية. وإذا زاد تحفظهم ولم يفصحوا عما في نفوسهم.. فلا أقل من أن نبلغهم رأينا في الأحداث، وهم بالطبع سينقلون ذلك لمسؤوليهم.. وجرى بينى وبين أحدهم أندرو الحوار التالى:
كيف كانت رحلتكم إلى أفغانستان ؟
وسكو مرة أخرىالذين لم تتجاوز أكاتصلنا بالدكتور نجيب الله، وسنتصل بالأطراف الأخرى، لعلنا نتوصل إلى حل لهذه القضية المعقدة.
ولكن الطرف الآخر أكثر من جهة وكلهم متخاصمون، لا رأي لهم ويخافون من بعضهم.
وتطرق الحديث إلى أوضاع المسلمين في الاتحاد السوفياتي.. فهذا البلد ثلث سكانه من المسلمين وكل الدول المحيطة به دول إسلامية مثل تركيا وأفغانستان وإيران وباكستان.. وهناك تراث ضخم من الظلم التاريخي عاناه المسلمون في بلادكم.. ودولتكم هذه الأيام في مرحلة تحول.. أفلم يئن الوقت لوضع حد لهذا الظلم، وردم المظالم. وأن انسحابكم من أفغانستان لربما شكل بداية لهذه السياسة الجديدة.
ولكن الشعب يريد نجيب.
أنتم أقدر عن طريق استخباراتكم أن تعرفوا إن كان الشعب يحب نجيب الذي حكم الناس بالحديد والنار أم يحب المجاهدين الذين أخرجوا القوى المحتلة من بلادهم.
ولكننا انسحبنا الآن من أفغانستان.
انسحبتم هذا صحيح، ولكن صواريخكم ما زالت تتدفق على كابول وتدك معاقل الشعب الأفغاني.
ثم انتقل الحوار إلى جانب آخر.. فقلت:
ولماذا روسيا في كل هذا الضيق، فلا سلع، ولا مواد غذائية كافية، والتضخم في أصعب أحواله..؟ وأضاف أندرو:
إنه من أخطاء النظام القديم.
وهل توافقون أن النظام السابق أو أن الشيوعية انتهت بالفعل..؟ ولم يجب أندرو وإن كانت نظراته تبوح بذلك..
زرنا مترو موسكو.. وزرنا المسجد الوحيد الذي كان يستخدم للاستعراضات، صلينا في المسجد وحاورنا المسلمين.. فأظهروا حماسا ورغبة في خدمة الإسلام.. وقالوا سنفتح جميع المساجد المغلقة وفي الأسبوع القادم سنستلم المسجد الأول لنعيده إلى الحياة مرة أخرى.
ودعنا موسكو والأمل العريض يحدونا بأن تعود بيارق الإسلام مرة أخرى لتخفق فوق هضاب موسكو(المؤلف (8/11/1990م)).