RSS

Category Archives: شخصيات إسلامية عايشتها

برهان الدين رباني رحمه الله

(1)
برهان الدين رباني رحمه الله

مصطفى محمد الطحان
الأمين العام لاتحاد المنظمات الطلابية

هو أحد رموز الجهاد الأفغاني ضد القوات الروسية التي غزت أفغانستان واحتلتها، ثم اضطرت للانسحاب بعد أن كبدها المجاهدون خسائر فادحة.

برهان الدين رباني

ولد برهان الدين رباني في فيض آباد مركز ولاية بدخشان عام 1940م، وتلقى تعليمه الأولي بها قبل أن ينتقل إلى مدرسة دار العلوم الشرعية (أبو حنيفة) في كابل حيث أنهى دراسته قبل الجامعية، والتحق بعد ذلك بجامعة كابل حيث تخصص في دراسة الشريعة الإسلامية وتخرج عام 1963م وعين مدرساً فيها، واشتهر أثناء دراسته بنشاطه الدعوي الكبير وسط الطلاب.

سافر رباني إلى القاهرة عام 1966م والتحق بجامعة الأزهر وحصل بعد عامين على درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية، وعاد بعدها لتدريس الشريعة الإسلامية بجامعة كابول. وازدادت سمعة رباني واكتسب شعبية وسط الطلاب فاختير عام 1972م من قبل الجمعية الإسلامية رئيسا لها وكان من بين الذين اختاروه مؤسس الجمعية غلام محمد نيازي.

في عام 1974م حاولت قوات الشرطة الأفغانية اعتقاله من داخل الحرم الجامعي غير أن الطلاب حالوا دون ذلك ونجحوا في تهريبه إلى الريف.

بدأ الأستاذ رباني بالدعوة في أوساط الشباب والطلاب، مستلهماً نهجه وفكره من مدرسة الإمام الشهيد حسن البنا، التي آمن بفكرتها، وتأثر بها أيام إقامته في مصر.. فتأثر بفكره ونهجه كثير من الشباب الغيور على دينه.

 الإمام الشهيد حسن البنا

في عام 1977م حصل انشقاق في الحركة الإسلامية التي انقسمت إلى الجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني والحزب الإسلامي الذي يقوده قلب الدين حكمتيار.

اشترك برهان الدين رباني في أعمال الجهاد الذي قام ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979م، وحققت قواته العديد من الانتصارات وكانت أولى القوات التي دخلت العاصمة (كابول) بعد هزيمة الشيوعيين بقيادة أحمد شاه مسعود.

لقد كان القائدان العسكريان أحمد شاه مسعود في وادي بنشير في الشمال وإسماعيل خان في هرات في الغرب أبرز القادة العسكريين الذين تصدوا بقوة للغزاة الروس.. وكانا كليهما من مجموعة الأستاذ برهان الدين رباني.

 أحمد شاه مسعود

وقعت خلافات شديدة بين قيادات الحركات الجهادية، ووصل النزاع إلى حد الاقتتال الذي راح ضحيته قرابة 40 ألف أفغاني.

 إسماعيل خان

في اتفاق بيشاور الذي وقع يوم 24 أبريل 1992م، من قبل الأحزاب السبعة المشتركة في الاتحاد الإسلامي لمجاهدي أفغانستان مع حزب الوحدة الشيعي والحركة الإسلامية (الشيعية – محسني)، تمت الموافقة على تشكيل حكومة مؤقتة لمدة شهرين برئاسة صبغة الله مجددي ثم أربعة أشهر لبرهان الدين رباني كما نصت على أن تكون وزارة الدفاع للجمعية، ولم يقبل الحزب الإسلامي (حكمتيار) بالاتفاقية رغم توقيعه عليها وقام بالهجوم على كابل، وبعد أن مد رباني فترة رئاسته انتهت هذه الاتفاقية تماما.

كان البشتون وهم أغلب سكان أفغانستان يعتقدون أنهم الأولى برئاسة أفغانستان.. وأن برهان الطاجيكي يمثل أقلية في أفغانستان.

عادت الأحزاب السابقة يوم 7 مارس 1993م للاجتماع في إسلام آباد عقب معارك ضارية في كابل، ووقعت على اتفاقية عرفت باتفاقية إسلام آباد اشتركت فيها السعودية وباكستان، نصت على رئاسة الدولة لرباني لمدة 18 شهرا وتولي قلب الدين حكمتيار رئاسة الوزراء، ووقف إطلاق النار. لكن الاتفاقية لم تنفذ بسبب تبادل الاتهامات بين الحزب الإسلامي والجمعية ونقض الاتفاق ليندلع القتال من جديد بين رباني وحكمتيار.

في 1 يناير 1994م تعرض رباني لمحاولة انقلابية فاشلة على يد تحالف ضم حكمتيار ودوستم وصبغة الله مجددي إضافة إلى حزب الوحدة الشيعي. وفي شهر يوليو 1994م جدد مجلس ولاية هرات فترة رئاسة رباني لمدة عام آخر.

 قلب الدين حكمتيار

وفي نوفمبر من العام نفسه بدأت حركة طالبان في الظهور، وفي العام التالي 1995م أعلن رباني أنه على استعداد للتفاوض مع المعارضة، ووقع بالفعل اتفاقا مع حكمتيار عام 1996م يقضي بالعمل المشترك واقتسام السلطة، لكن حركة طالبان لم تمهلهم فقد استولت على العاصمة الأفغانية كابل وأعلنت نفسها حكومة شرعية للبلاد.

 صبغة الله مجددي

خرج رباني من كابول في 26 سبتمبر 1996م على يد حركة طالبان التي استولت على العاصمة. وانتقل رباني إلى مناطق الشمال التابعة له والتي أكثر سكانها من الطاجيك.

ظل رباني الذي خلعته طالبان من منصبه يعارض هذه الحركة، وتزعم تحالفا للمعارضة اشتهر باسم الجبهة المتحدة لإنقاذ أفغانستان ولا يزال يلقى اعترافا من العديد من دول العالم إضافة إلى احتفاظه بمقعد أفغانستان في الأمم المتحدة(الجزيرة 3/10/2004).

مقتل برهان الدين رباني

أعلنت الشرطة الافغانية أن برهان الدين رباني الذي يقود جهود السلام في افغانستان قتل عندما فجر انتحاري من حركة طالبان عبوة ناسفة كان يخبئها في عمامته، وكان ذلك أثناء اجتماع في منزل رباني الذي تم تعيينه العام الماضي رئيسا للمجلس الأعلى للسلام الذي كلفه الرئيس الأفغاني حميد كرزاي التفاوض مع طالبان.

وكان المهاجمون وصلوا إلى منزل رباني مع محمد معصوم ستانكزاي، نائب رباني، لعقد اجتماع قبل أن يفجر الإنتحاري العبوة الناسفة.

وقال فاضل كريم إيماق عضو المجلس الأعلى للسلام إن الرجال جاؤوا يحملون رسائل خاصة من طالبان.

وقال رئيس التحقيقات الجنائية في كابول محمد زاهر أن رجلين كانا يتفاوضان مع رباني باسم طالبان، وخبأ أحدهما المتفجرات في عمامته.

وأضاف أن الرجل اقترب من رباني وفجر العبوة الناسفة. واستشهد رباني وأصيب أربعة آخرون من بينهم معصوم ستانكازاي نائب رباني.

وسارعت الحكومة الباكستانية إلى إدانة عملية الاغتيال، ووصفت رباني بأنه صديق تعمل اسلام أباد معه عن كثب في جهود السلام.

وجاء في بيان مشترك للرئيس آصف علي زرداري ورئيس وزرائه يوسف رضا جيلاني أن شعب باكستان يقف إلى جانب أشقائه الأفغان في لحظات الحزن هذه.

 آصف زرداري

ويأتي هذا الهجوم بعد أيام من اتهام الولايات المتحدة للحكومة الباكستانية بإقامة علاقات مع شبكة حقاني المرتبطة بطالبان.

لقد تم تعيين رباني، الذي تولى رئاسة البلاد وسط فوضى الحرب الأهلية من 1992م وحتى عام 1996م، رئيسا للمجلس الاعلى للسلام الذي كلفه الرئيس الأفغاني بالتفاوض مع طالبان، وكان ذلك عام 2010م.

(2)
الحديث عن أفغانستان

يصعب الحديث عن أفغانستان.. وهل يسهل على الإنسان أن يكتب بنفسه شهادة وفاة أحلامه؟ فقد صوروا لنا الجهاد الأفغاني وكأنه منزه من العيوب خال من احتمالات الانحراف.. وقالوا: إذا كانت الثورة الإسلامية في إيران استطاعت أن تقيم حكومة إسلامية شيعية.. فلم لا تكون أفغانستان بعد انتصار الجهاد فيها مركزا للخلافة الإسلامية السنية؟

في زيارة ميدانية لمنطقة بيشاور في منتصف الثمانينات كنت في وفد ضم الأستاذ عمر التلمساني (رحمه الله) والأستاذ مصطفى مشهور (رحمه الله) وبعض الأخوة الآخرين.. زرنا معسكرات الجهاد.. ومواقع التدريب.. ومعظم مؤسسات الأحزاب والجمعيات.. وما زلت أذكر يومها ذلك النقاش الحاد بين بعض قادة المجاهدين والأستاذ عمر التلمساني حول الوحدة وضرورة العمل المشترك، فالجميع ينادون بالإسلام ويجاهدون لرفع رايته.. فكيف تصح الشعارات إذا كان الواقع مزيدا من التشرذم والفرقة والأحزاب التي تنقسم إلى أحزاب؟!

 الأستاذ عمر التلمساني

وأذكر مما قاله الأستاذ قلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي (وكان المتحدث الرئيس عن رفاقه قادة الجهاد)، بأن يطمئن الأستاذ عمر.. ويطمئن إخوانه فالوحدة بين الفصائل ستتحقق بأسرع ما يكون.. ولن يكون إلا ما يرضي الله والمسلمين.

 الأستاذ مصطفى مشهور

وأذكر وأنا أودع بيشاور (مدينة الجهاد يومذاك).. وفي مطار إسلام أباد وفي انتظار إقلاع الطائرة.. استرجعت شريط الرحلة وتألمت للأحوال والتناقضات، وللأحاديث الجانبية التي يتكلم فيها كل قائد عن أخيه باعتباره عدو الجهاد ومتآمر مع أعداء الله .. وهو السبب في الفرقة وعدم الاتحاد.. يومها وأنا استرجع هذا الشريط المؤلم .. كتبت مقالة بعنوان (ليالي الأحزان في بلاد الأفغان).. تحدثت فيه عن هذه المفارقات.. وقلت لنتحدث بصراحة.. فليس مثل الصراحة وسيلة ناجعة لعلاج الأخطاء.. ولكن من سيسمع؟

فمعظم الإسلاميين يريدون أن يسمعوا منك ما يحبون.. وينكرون على من يتحدث بصراحة وموضوعية.. ففي رأيهم أنه لا يجوز نشر الغسيل أمام الآخرين. ولسان حالهم يقول: هل تريد أن تشمت بنا الأعداء؟

وما درى هؤلاء أنهم بذلك يخربون بيوتهم بأيديهم.. وأن الأعداء الذين يحذرون منهم.. إنما هم الذي يصنعون الأحداث ويعرفون عن المجاهدين أكثر بكثير مما نعرف.

كنت في زيارة لإخواني في اتحاد طلبة باكستان في منتجع شانجا مانجا بالقرب من لاهور برفقة شيخنا الجليل عبد الله عزام (رحمه الله).. وعندما تساءل الطلبة عن علاقة الجهاد الأفغاني بالأمريكان الذين يزودون المجاهدين بالمال والسلاح استنكر شيخنا ذلك.. وقال بالحرف الواحد: لا علاقة البتة بين الفريقين.. وكل من يزعم بأن للأمريكان علاقة في هذا الموضوع فإنه يحارب الجهاد.. كان رحمه الله من هذه المدرسة التي تقول: ليس الكذاب من يصلح بين الناس.. وهذه المدرسة إن صلح عملها في إصلاح ذات البين بين شخصين متشاكسين أو بين رجل وزوجته.. فهي أسوأ مدرسة في عالم السياسة يتوه فيها أذكى الناس ويتوه العمل في سراديب الأكاذيب.

 عبدالله عزام

الحديث عن أفغانستان صعب.. وأصعب ما فيه أن تجابه الواقع، وتضع النقاط فوق الحروف.. وتسمى الأشياء بأسمائها الصحيحة.. سيسخط عليك الجميع.. فللجميع حساباتهم.. أما الحقيقة والتجربة والاستفادة من التجارب فلا حساب لها عند أحد.

تصرفوا كذلك في سوريا.. ارتكبوا جريمتهم.. فهدموا الدعوة وشردوا الدعاة.. ولم يسألهم أحد. ماتت التجربة حرصا على عدم كشف المجرمين.. فلم تستفد ثورة أفغانستان ولا غيرها من تجارب مرّة سبقت. ليست الهزيمة عارا بحق أحد.. ولكن العار أن تعلق شارة النصر وأنت مهزوم.. وأن تدعي البطولات وأنت مرتبط بقوة أكبر منك.. هذا ما حدث بالأمس، ويحدث اليوم، وأخشى أن يستمر في المستقبل إن لم نتدارك الأمور.

نعود إلى أفغانستان.. ونتساءل ماذا حدث.. ولماذا حدث؟

ونبدأ بالحركة الإسلامية في أفغانستان .. فهي البدايه ´ التي تمخضت عنها الأحداث.. وهي الاستمرار والمستقبل.. وإذا لم تصحح أخطاء البدايات فمن المشكوك فيه أن يستطيع الجميع الخروج من المستنقع الذي وقعوا فيه..

لنترك الحديث عن نشوء الحركة الإسلامية في أفغانستان إلى الأخ المهندس أحمد شاه زي فهو من مؤسسيها من ناحية، ومن أكثرهم اطلاعا من ناحية أخرى، يقول المهندس أحمد شاه(أفغانستان الحاضر والمستقبل العدد 16ديسمبر 1990م  ص- 52): (قبل تبلور الحركة كانت هناك تحركات فردية مثل تحرك الكاتب منهاج الدين جهيز الذي كان يصدر مجلته جهيز. وهو أول من كان يبشر بأفكار الحركة الإسلامية في مجلته، وأول من فتح باب العلاقات مع الحركات الإسلامية العالمية). وكان الأخ أحمد شاه والأخ ذو الفقار غفوري يساعدانه في مشروعه. كانت للأخ منهاج الدين علاقات حميمة مع الجماعة الإسلامية في باكستان وجماعة الأخوان المسلمين في مصر.

 أحمد شاه زي

في عهد داود الذي تسلم الحكم بانقلاب عسكري عام 973ام، رأت الحركة الإسلامية أن تعيد تشكيل هيكلها وتعمل بشكل منظم. واختير الأستاذ برهان الدين رباني رئيسا للحركة والأستاذ سياف نائبا له والمهندس حبيب الرحمن أمينا عاما، وسميت الحركة باسم الجمعية الإسلامية الأفغانية، وكنا من قبل نسمي أنفسنا باسم الشباب المسلم.

في هذه الفترة كان قلب الدين حكمتيار في السجن.. فلما خرج أراد هو ومجموعة من الشباب المتحمس أن يقوموا ببعض العمليات العسكرية ضد نظام داود الانقلابي اليساري ونوقشت فكرة القيام بانقلاب عسكري. وكان الأستاذ سياف من أشد الناس رفضا لهذه الفكرة. ومع ذلك مضى الشباب يخططون للانقلاب. ولقد تسبب فشل الانقلاب وكشفه إلى إلقاء القبض على 1100 شخص من الإسلاميين.. وأدى إلى وقوع داود بالكامل في أحضان الشيوعيين.. واضطرت أعداد كبيرة من أبناء الحركة إلى ترك دراستهم في الجامعات (مركز النشاط والحركة الإسلامية) والهجرة إلى باكستان.

 عبد رب الرسول سياف

في هذه الفترة التقينا في الكويت بالأستاذ برهان الدين رباني وكان يزور الخليج لأول مرة وكان يحمل رسالة من الأستاذ أبو الأعلى المودودي (رحمه الله) الذي قدمه لنا باعتباره أمير الجمعية الإسلامية الأفغانية.. وفي لقائه مع إخوانه في الكويت طرح الفكرة التي هي موضع الخلاف بين فريق الشباب المتحمس الذي يريد أن يتصدى للحكومة ويزج بالحركة في معركة خاسرة.. وبين فريق الأساتذة الذين يرون أن الوقت لم يحن بعد لمثل هذه التحركات. خاصة وأن بوادر الانقسام بين داود خان وأنصاره الشيوعيين بدأت تلوح في الأفق..

 داود خان

ولم يستجب الشباب وعلى رأسهم حكمتيار للمنطق ولصوت القيادة الشرعية المنتخبة، فانسحب مع عدد من الشباب المتحمس إلى باكستان.. وهناك احتضنتهم الحكومة الباكستانية، وكان ذو الفقار علي بوتو حاكم باكستان العلماني الاشتراكي يريد إدخال بلاده في قضية أفغانستان من بابها العريض.. فاستفاد من فرصة النقمة عند هؤلاء فبدأ بتدريبهم وتسليحهم(المرجح السابق، ص- 55، ومجلة فلسطين المسلمة (مارس 1994م) ، ص-46).

 ذو الفقار علي بوتو

زارنا الأخ نجي الله وكان يعمل موظفا في وزارة الأوقاف في الكويت.. وكان يعتبر نفسه أحد تلامذة الأستاذ برهان الدين رباني أو هكذا قدمه لنا الأستاذ برهان الدين.. وبعد عودته من زيارة لبيشاور أحضر لي كتابا اسمه (المنافقون) وطلب منا أن ننشره ضمن كتب الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية.. وأدركت الموضوع على الفور فالمواقف متكررة في أفغانستان وفي غيرها.. كلما اقتنعت مجموعة من المتحمسين باستخدام السلاح شككوا في قادتهم واتهموهم تارة بالكفر وتارة بالنفاق. وهكذا ولد الانشقاق الأول في صفوف الحركة الإسلامية الأفغانية. وتتالت بعد ذلك الانشقاقات.

أذكر مرة كنا في صحبة الأستاذ برهان الدين رباني في زيارة بعض رجالات الدعوة في الكويت.. وسئل الأستاذ برهان عن دور الجمعية في تكريس الانقسام بين الأحزاب الإسلامية.. ولماذا لا يبادر إلى الاتحاد مع إخوانه قادة الجهاد.. وكان جوابه فاصلا: ولماذا لم تبادروا أساسا إلى منع الانشقاق.. فقد كانت الحركة موحدة.. وبدأت الانقسامات وشجعها الآخرون. الجميع يعرف أن الجماعة الإسلامية في باكستان تبنت الحزب الإسلامي وأبرزته وفرضته على الآخرين.. وكذلك حصل مع سياف فقد تبنته الحركة الإسلامية.. ولو حكّمت المصلحة العليا.. لما كانت انشقاقات ولا زعامات.

بعد سقوط داود وبدء الغزو الروسي لأفغانستان واحتلالها من قبل الجيش الأحمر عام 979ام.. صار لزاما على كل مسلم أفغاني قادر على حمل السلاح.. أن ينفر في سبيل الله لتحرير بلده. (انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ )( التوبة-41). وما زلنا نذكر جميعا البيان الذي أصدره قائد الحركة الإسلامية الأستاذ برهان الدين رباني الذي أعلن الجهاد المقدس لتحرير الوطن من رجس الاحتلال. وانتقلت القيادات إلى بيشاور المدينة الباكستانية الحدودية.. وفي باكستان توضح الانشقاق أكثر من ذي قبل.. فقد كبر الحزب الإسلامي بزعامة حكمتيار وصار جيشا يجد لدى الجيش الباكستاني والمخابرات الباكستانية التدريب والرعاية والدعم. واستخدم حكمتيار نفوذه وقوته في التضييق على منافسيه في الحركة وأعدم بعضهم، حتى أن أحمد شاه مسعود حمى نفسه وهرب إلى داخل أفغانستان ورابط في وادي بنجشير.. بينما كانت قوات حكمتيار تطارده وتلصق به الاتهامات(فلسطين المسلمة (المرجع السابق )، ص-46).

الاتفاقات والاتحادات وعمليات التنسيق أو الوحدة التي قامت بين فصائل المجاهدين.. كان حكمتيار ينتقدها ويقلل من شأنها ثم يتحلل منها.. ثم ينقض عليها.. حدث هذا في جميع الأوقات بدون استثناء.. حتى إن المعارك التي قادها الحزب الإسلامي ضد مقاتلي الجمعية الإسلامية.. استمرت طيلة حرب التحرير.. كان أشهرها مذبحة تخار شمال أفغانستان.. والتي أبيدت فيها مجموعة كاملة من قيادات الجمعية الإسلامية.. بعضهم ذبح.. وقيل إن الحزب أحرق البعض الآخر. ولقد أثارت مذبحة تخار – نظرا لكبر حجمها- الإعلام العالمي وشكلت إشارة استفهام صامتة لدى الإسلاميين في العالم.

بعد الانسحاب الكامل للقوات الروسية من أفغانستان في 15 فبراير989ام، الذي تزامن مع تشكيل الحكومة المؤقتة للمجاهدين في المنفى.. توقع المراقبون أن تنسى الأحزاب خلافاتها.. وتجعل كل همها في التركيز على إقامة الحكومة الإسلامية في أفغانستان تتويجا للجهاد الذي استمر قرابة العشر سنوات والذي دفع فيه شعب أفغانستان أثمانا غالية من أرضه وشعبه ودم أبنائه.. لم يفعل المجاهدون ذلك ولكن الشيوعيين فعلوه. بدأ الضباط الشيوعيون اتصالات مع قادة المجاهدين فانضم معظم الضباط البشتون إلى حكمتيار البشتوني.. بينما تفاهم الجنرال عبد المؤمن الطاجيكي والجنرال عبد الرشيد دوستم الأوزبكي مع أحمد شاه مسعود الطاجيكي.. وعندما تخلى دوستم عن نجيب سقط الأخير وتسلم الحكم مجلس عسكري مؤقت مكن لمسعود دخول كابول. كان بإمكان مسعود أن يعلن (أنه فاتح كابول) وأنه باق في السلطة حتى إجراء انتخابات أو الاتفاق على حل سياسي آخر.. ولكنه لم يفعل وأعلن بمنتهى الأخلاقية التي لم يفعلها غيره: أنه رجل عسكري دوره ينحصر في الحسم العسكري.. والأمر متروك الآن للقيادات السياسية.. أريد أن أسأل: من من القادة الأفغان فعل ذلك؟

وبعد أسبوع من المناقشات والضغوط والمساومات توصل القادة يوم 4ا أبريل 1992م إلى اتفاقية تنص على أن يتولى الشيخ صبغة الله مجددي السلطة لفترة شهرين، ثم يتولاها الأستاذ برهان الدين رباني لمدة أربعة أشهر، يمهد خلالها لتشكيل مجلس للشورى من أهل الحل والعقد، ومن ثم يتم اختيار رئيس للدولة لمدة سنة ونصف إلى سنتين.

لم يحضر حكمتيار الاجتماع فقد كان مشغولا بترتيبات أخرى، فقد أعلن النفير العام بين أنصاره وأمرهم بالتوجه إلى كابول لاحتلالها. وتكفلت قوات مسعود بالأمر، وتولى صبفة الله مجددي السلطة يوم 25 أبريل 1992م كما كان مقررا، وعلق حكمتيار على ذلك فقال: (لن أقبل برئاسة مجددي لأنه ليس بينه وبين بوش أي فرق).

مع ذلك فعندما انتهت مدته.. وحان وقت استلام برهان الدين رباني رئاسة الدولة حسب نصوص اتفاقية بيشاور أرسل حكمتيار إلى صبغة الله يطالبه بعدم التنازل وأنه سيدافع عنه ويحميه.. أرأيت كيف تتبدل المواقف في غضون شهرين عند حكمتيار، في أولها كان صبغة الله رجل الأمريكان المرفوض، وفي آخرها صار صبغة الله البشتوني الذي سيدافع جولبدين عنه بكل قوته؟!

لم يترك حكمتيار لرباني أي فرصة للتفرغ لشؤون البلاد فقد أشعل كابول بصواريخه في مايو 1992م بعد دخول أحمد شاه مسعود كابول، وفي فبراير 993ام عندما أعلن بأنه لن يوقف الحرب حتى يستقيل رباني بلا قيد ولا شرط.. ولقد وفى بوعده.. فما زالت صواريخه تقتل وتدمر كل شيء..

كنت في مطار كوالالمبور في انتظار الطائرة. قابلت صحفيا مشهورا من مصر.. وبادرني بالهجوم.. أرأيت إلى أصحابك الذين زعمتم أنهم مجاهدون.. وأن الملائكة تقاتل معهم.. وأنهم.. وأنهم.. أرأيت كيف لم تطفأ نار حربهم مذ دخلوا كابول.. كانوا يقاتلون الشيوعيين.. وهذه القضية نفهمها.. فما بالهم يذبحون إخوانهم بأيديهم.. ويقتلون شعبهم الأعزل بنيران صواريخهم ثم نظر إلي مليا.. قال : إذا أرادوا أن يذبحوا بعضهم بعضا فهذا شأنهم. ولكن من أعطاهم الحق في أن يهدموا البيوت على رؤوس أصحابها.. وأن تنهمر قذائقهم كما المطر على رؤوس الناس.. ألم يكن عهد الشيوعيين أبر بالناس وأرحم؟

القوات التي تحاصر كابول تحتل منطقة الضخ الكهربائية التي لا تعرف الكهرباء. إمدادات المياه مقطوعة والنهر الملوث يقع ضمن خط النار، ويقتصر التزود بالمياه في أكثر المناطق على ذوبان الثلوج وعلى بعض الآبار. الأصعب من ذلك هو فقدان الغذاء الذي يقطع الحصار طرق إمداده.

كان قلب الدين حكمتيار يقذف كابول بحجة وجود المليشيات فيها.. وذهب إليه سياف ومحمد نبي وطلبا منه التوقف عن القصف وأخبراه بأن أحزاب المجاهدين قد أعدت الخطة لطرد المليشيات وإخراجهم بالقوة من كابول وحددوا له اليوم الذي سيبدأ فيه هذا الأمر.. وفي اليوم المحدد لتصفية المليشيات (أغسطس 1992م) فوجئت العاصمة بأكثر من أربعمائة صاروخ.. ففهم الجميع أن الموضوع بالنسبة لحكمتيار مجرد ذريعة.. يتحدث الرئيس رباني عن هذه المؤامرة فيقول(مجلة المجتمع الكويتية العدد 1086): (عقد أطراف التآمر، عدة لقاءات في أوزبكستان اشترك فيها: همايون جرير زوج ابنة حكمتيار مع الجنرال عبد الملك مساعد دوستم، مع مندوب من قبل صبغة الله مجددي، مع بابراك كارميل رئيس الحزب الشيوعي، مع مندوبين لأطراف أخرى مثل حزب الوحدة وغيرهم، واتفقوا أن يكون يوم الانقلاب هو الأول من يناير) كنا نعرف خيوط المؤامرة ولهذا تمكنا (ولله الحمد) من تلقين المتآمرين درسا قاسيا أظهر تناقضهم.. وتآمرهم.. وكذب دعواهم.. والضحية في كل ذلك وللأسف الشديد هو الشعب الأعزل الذي يدفع الثمن.

في إطار المؤتمر الذي أقامته الجماعة الإسلامية في ألمانيا في 29 يوليو 1994م تحدث الأستاذ كمال الهلباوي.. وهو من المتخصصين بقضية الجهاد الأفغاني.. قال: (كان شعار حكمتيار: لا تصالح قبل أن تخرج مليشيات دوستم من العاصمة. هدفنا الأساسي هو تطهير كابل من رجسهم.. وإذا بنا اليوم نسمع أن دوستم هو رئيس الحركة الإسلامية في الشمال.. وأن حكمتيار لن يتخلى عن حلفائه)..

وأمام هذا التساؤل الحق.. وقف بعض الشباب الذين يتبنون موقف حكمتيار ليؤكدوا وبكل قوة أنهم ضد دوستم.. وأن ما يشاع عن تحالف أو تنسيق معه فمن باب الأكاذيب.. بل الأغرب من ذلك.. ما قاله قلب الدين حكمتيار في حديثه مع مجلة المجتمع(المجتمع الكويتية- العدد 1086):

(إن الجنرالات الشيوعيين المتحالفين مع الجمعية هم الذين يقصفون كابول.. وحاولوا إشراك دوستم معهم وعندما رفض حدث اشتباك بينهم وبينه.. ثم يقول:

إن كان على الدماء فأقول: إن دماء المسلمين تنزف في البوسنة وفلسطين وكشمير.. وكذلك أفغانستان.. فهي ليست قضية استثنائية. ثم كيف تقولون عن دوستم أنه شيوعي وقد ذهب وأدى مناسك العمرة في العام الماضي)؟

 دوستم

أيصل الأمر بالبعض أن يستهينوا بعقول الناس إلى هذه الدرجة؟

أليس هذا أمر عجاب؟!

هذه هي القضية في أفغانستان..

قد تطول أو تقصر.. وقد تروى كاملة أو مختصرة..

خلاصتها:

إن هؤلاء القادة (إلا من رحم ربي) هم زعماء قبائل اتخذوا من الإسلام شعارا جذابا يقودون به المعركة مع الروس. ومن هنا فمعظم أتباع هؤلاء من قبائلهم وبني جنسهم.

الحركة الإسلامية العالمية قبلت هذا الوضع الشاذ ودثرته أمام الجماهير.. على قاعدة أن الجهاد سيصلح هؤلاء.. غير منتبهين إلى أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.. أما الأنماط الأخرى التي تقاتل لمجد شخصي أو مجد عائلي أو مجد عشائري فهي خارج هذه الدائرة.

لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن أمريكا عندما بذلت المال والسلاح لم تكن تلعب.. بل أصبحت جميع أوراق القضية بيدها.. ليس بيدها فقط بل في أيدي القوى العاملة على الساحة.. في أيدي إسلام كريموف رئيس أوزبكستان الذي يخاف من وصول الأصولية إلى بلاده.. وفي أيدي روسيا التي خرجت من الباب لتعود من النافذة من الجبهة الطاجيكية.. وفي أيدي باكستان التي تدعم صراحة حكمتيار وتزوده بالرجال والسلاح والمال.. حتى أن وزير خارجيتها أعلن صراحة أنه لن يكون في كابول نظام معترف به.. وفي أيدي إيران والهند وغيرها من القوى المؤثرة.

الآراء مجتمعة على أن حكمتيار يريد أن يكون الزعيم الأوحد في أفغانستان. ولا يتوانى عن إشعال الحرب أو التحالف مع تاناي الشيوعي، أو مع دوستم العميل، أو صبغة الله (الأمريكاني في نظره).

هو تارة مع الإخوان وتارة ضدهم.. وهو تارة مع حسن الترابي.. وتارة مع قاضي حسين وتارة ضده. شعاراته إسلامية ومنطلقاته بشتونية.. قادة الجهاد جميعا يكرهونه (في السر) ويخشونه (في العلن).

أما الرئيس برهان الدين رباني فقد برهن أكثر من غيره.. بأنه يميل إلى حقن الدماء ولو على حسابه أو حساب حزبه.. ولقد وجه مؤخرا نداء معبرا إلى الأمة من راديو وتلفزيون كابول جاء فيه : (ان انتصار القوات المسلحة لدولة أفغانستان الإسلامية على الانقلابيين المتمردين في اللحظات الأولى للمؤامرة، وتطهير مناطق كثيرة من أرض أفغانستان الإسلامية الطاهرة في شمال البلاد من رجس العمالة والارتزاق، والانتصارات الباهرة التي تحققت على أيدي أبناء أفغانستان البررة في (قلعة بالاحصار) التاريخية التي تعتبر رمزا للبطولات التاريخية وتل (تبة مرنجان) والمناطق الاستراتيجية الأخرى، إن هذه المكتسبات العسكرية إن دلت على شيء فإنما تدل على قوة الدولة الإسلامية الوليدة، كما تمكنت الدولة الإسلامية بعون الله وبمساعدة أبنائها المغاوير من إفشال المخططات الانفصالية في البلاد.

إننا نعلن لجميع الأطراف وبأعلى صوتنا أن الحرب لا يمكن أن تحل المشكلات، إننا نعلن استعدادنا الكامل لحل كافة الخلافات عن طريق الحوار والمناقشات البناءة ومستعدون لتقديم كل ما نستطيعه في هذا المجال. ونظرا لأهمية المرحلة التي تمر ببلادنا أعلن الآتي:

لابد من انعقاد مجلس شورى إسلامي كبير يبلور إرادة أمة الأفغان فيما يتعلق بقضاياها المصيرية.

لقد ولى العهد الذي كانت الأمور بيد بضعة أشخاص، فبعد أن تحررت أفغانستان يجب علينا أن نقرر مصيرها في حضور ممثلي الأمة وقادة الجهاد الأبطال.

وكما يعلم مواطنونا فإن هناك جهودا مخلصة تقوم بها حلقات من علمائنا الأجلاء وقادة المجاهدين لحل مشكلات البلاد، عقدت اجتماعات في كابول، وجلال أباد، وغزني، وهرات، للبحث عن مخرج من تلك المشاكل وسيعقد قريبا اجتماع يشمل العلماء وقادة الجهاد الميدانيين ورؤساء المنظمات أو ممثليهم في هرات العريقة، أطالب كل هؤلاء المجتمعين بأن يبادروا إلى تشكيل مجلس كبير في أسرع وقت ممكن. كما أنني شخصيا غير مرشح للمرحلة الانتقالية، وأعلن استعدادي وعن رغبة كاملة في تسليم السلطة للجهة أو للشخص الذي ينتخبه هذا المجلس الموقر الذي سأتشرف بالمشاركة فيه، وذلك احتراما لميثاق مكة المكرمة الذي لم يحترمه الطرف الآخر يوما واحدا. رغم إصرار وتأكيد شورى الحل والعقد على إتمامي مدة السنتين التي حددوها لرئاسة الدولة).

قد يسأل سائل وما هو المخرج؟

والجواب أن المخرج هو التمسك بالشرعية..

قد يقولون إنها شرعية ناقصة ولم توحّد.. وجوابنا أن شرعية لا توحد خير من خروج عليها لا يوحد أيضا. وإذا لم نفعل ذلك فليس هناك سوى الدمار.. وعندها لن يجد حكمتيار وبعض القوى التى تحسن صورته وتزينه أمام الآخرين لن يجدوا كرسيا يجلسون عليه(في مطار إسلام آباد (1/10/1994م)).

مبادرة أربكان

قال لي البروفيسور نجم الدين أربكان.. وهو يودعني: ستكون رحلة شاقة ومشوقة وهامة إلى كابول..

 نجم الدين أربكان

وكابول.. وما أدراك ما كابول..

فيها تجمعت أمامي كل الذكريات.. منهاح الدين جهيز.. يسقط على أوراق مجلته في دارته في كابول. يقتله الشيوعيون، وتكون بداية الانفجار.. مازلت أحتفظ بأوراقه ورسائله في غرفتي، يحدثني فيها عن الفجر.. وكما حدث التحول في نفسه فقد حدث لدى الآخرين.

وبرهان الدين رباني.. وهو أول من زارنا من أفغانستان، جاءنا يحمل رسالة من الإمام أبو الأعلى المودودي يقدمه لنا كأمير للجماعة الإسلامية في أفغانستان.. أدب جم وتواضع أصيل وحياء.. هكذا بدأت علاقتنا بأفغانستان منذ بداية السبعينات وتصاعدت مع انقلاب داود.. ثم مع انقلاب آخر على داود.. ثم مع دخول القوات الروسية في ديسمبر 1979م..

ثم في الجهاد المرير الذي خاضه شبان أفغانستان وشيبهم لتحرير بلادهم من أقوى قوة ضاربة في العالم ..

كان العالم يهز كتفيه إشفاقا على هذه الدولة التي جثم الروس على صدور أبنائها وليس لهم من مخلص.. ومن سيخلصهم من براثن الروس.. وماذا تستطيع أن تفعل بنادق ضعيفة وأسلحة بدائية أمام جبروت القوة وطغيان السلاح.

عشر سنوات أخرى رأى فيها العالم العبرة.. رأوا كيف استطاع الأصحاب الأوائل أن ينتصروا على القوى العظمى في زمانهم على دولة الفرس وإمبراطورية الروم.. واليوم ينتصر الأخوة المجاهدون على أقوى قوة ضاربة في العالم..

ليس ذلك فحسب بل ويقزّمون العدو فينكمش ويرتفعون، فلما طاولت هاماتهم السماء.. تحطمت الشيوعية في روسيا.. وهي تعاني اليوم من دفع فاتورة الحساب للشعوب.

ثمن هذا النصر المؤزر مليون ونصف المليون من الشهداء.. ومئات الآلاف من المشوهين والأطفال والأرامل وخمسة ملايين من المهاجرين.. ليكن.. فهناك مئات الملايين من كسالى المسلمين يتسكعون.. والمجد لا يصنعه إلا المجاهدون.

منذ بداية رحلتي لم أحدثك عنها.. لماذا جئت مع أخوي أوغوز خان أصيل تورك وزير داخلية تركيا السابق والصحافي فرحات كوج إلى كابول عبر مضيق موسكو وبوابة طشقند..

كان أستاذنا أربكان بعقليته الفذة وشجاعته في اتخاذ القرار.. لا يرى مبررا كافيا لاستمرار القتال في أفغانستان.. فإذا كانت قوات العدو الروسي قد غادرت أفغانستان أفليس بالإمكان.. أن نخلص هذه القضية من كواليس السياسة العالمية.. من أوراق بيكر وشفاردناتزه أو غورباتشوف وبوش أو الحكومات العربية والإسلامية التي تدور في نهاية المطاف في فلك هذه الدولة أو تلك..

ومع التسليم أن الكثيرين منا يجيدون استخدام المدافع، ولا يطمأنون للجلوس إلى طاولة المفاوضات ومع ذلك فما الذي يمنع من المحاولة..؟

في نوفمبر 1989م سافر الأستاذ نجم الدين اربكان، وكنت بصحبته وكذلك الأخ الكريم عبد الله العلي المطوع (رحمه الله).. إلى بيشاور مدينة الجهاد.. والتقينا بقادة المجاهدين.. عبد رب الرسول سياف، وبرهان الدين رباني، وعرض عليهم فكرة تشكيل لجنة تحكيم من شخصيات إسلامية مرموقة، مهمتها إصلاح ذات البين في أي خلاف يقع بين الإخوة.. ومهمتها كذلك الإشراف على إنهاء الخصام بين حكومة كابول الموالية لروسيا والمجاهدين، وجمعهم على طاولة واحدة لتقرير مستقبل البلاد وإقامة حكومة إسلامية على أن يكون كل ذلك تحت إشراف هيئة التحكيم.

 عبدالله العلي المطوع

وأخذ الأستاذ أربكان موافقة الأخوين سياف ورباني، وبعد أقل من سنة حصل على موافقة الأستاذ حكمتيار في لقاء أخير معه عقد في فندق أجياد في مكة المكرمة في سبتمبر 990ام. وكنت شاهداً على توقيع حكمتيار على هذه الوثيقة.

وبناء على هذه الموافقة الجماعية فقد تقرر السفر إلى كابول لعرض الأمر على الرئيس نجيب وأخذ موافقته المبدأية على هذا التحرك، وكانت الفلسفة التي ينطلق منها أربكان، أنه مادام الروس قد انسحبوا، والرئيس نجيب الله يرغب في تسليم السلطة للمجاهدين، فلا مانع من الاستجابة لهذا العرض.. فحقن دماء المسلمين يستحق مثل هذا التحرك.

 نجيب الله

 في موسكو

فجأة وبدون مقدمات وجدت نفسي في موسكو..

المدينة التي ملأت بالرهبة خيالات الكثيرين ، فتصوروها قدت من حديد، وراءها أستار وأمامها قضبان ، يحدثك أهلها من خلف أستارها.. قالوا عنها: الستار الحديدي.. وقالوا: الدب الروسي.. استخدموا كل العبارات المنفرة لوصف هذه المدينة، حتى صار أحدنا يطل على المدينة وهو خائف يترقب، متى سيقفز عليه دب فيأكله .. أو متى يقع في إحدى شباك الحديد..

واستقرت بنا طائرة الإيروفلوت الروسية على أرض المطار، واستغربنا أن وجدنا موظفي المطار أناسا مثلنا.. على جانب من الرغبه في الخدمة والدماثة.. ومع ذلك فلن يصلحوا لتكوين حكم عام عن البلد وأهله.. فلربما اختاروهم نموذجا يحسنون بهم سمعتهم ومن يدري..؟

من غرفتي في الطابق الحادي عشر جلست أمام النافذة أطالع الأشجار الباسقة الأنيقة وقد عراها الخريف من خضرتها فألبسها الشتاء ثوبا من الثلج الناصع الجميل .. هل رأيت نثار القطن يتطاير حباباً صغيراً..؟

كذلك هو الثلج يتساقط جميلا رائعا فيجدد الحياة، ويغير شكل كل شيء..

 فإذا البساط المخضوضر يبيض ، وإذا الساحات الواسعة كالعهن المنفوش، وإذا بالصغار يكورونه قطعا يتقاذفونها.. وإذا بالرجال والنساء وقد لملمن أطراف ثيابهم من شدة البرد.

هكذا كان المنظر أمامي من غرفة فندقي في موسكو.

والنظام المتحكم، والقرع الدائم على الرؤوس يغير المفاهيم.. وإن كان إلى حين. والنظام الذي يسلب من الإنسان حريته وإرادته .. يبادله الإنسان في آخر المطاف لا مبالاة قاتلة.

صفوف طويلة.. وخطوات رتيبة.. في كل مكان.. أمام المطعم، في موقف الأوتوبيس، أمام قطعة الخبز، في الدوائر الرسمية.. وإذا حاول الإنسان أن يتضجر أو يتمرد.. أسكن رأسه بزجاجة الخمر.. فهي الوحيدة التي تغيبه عن الشعور فيستريح. من قال إن الخمر متعة ..؟

وهل يستمتع الإنسان الفاقد الوعي.. بل هي شرود وضياع ونسيان.. يدفن الإنسان في طياتها كل تمرده على التحكم والظلم والإرهاب الفكري والجسدي.

وقفنا في الطابور ومعنا البطاقة لنأكل مما يقدموه، لا مما نشتهيه. الكل يأكل نفس الطعام ونفس المقادير. استحال الفعل روتينيا فما عاد أحد يتذوق شيئا، لا تحس بطعم طعام.. ولا يحس نادل المطعم بوجودك فهو يتحرك إن كنت موجودا أو غير موجود..

ومن الصف الطويل، والبطاقة المحدودة، ولا مبالاة الجميع أدركت لم تخلف الاتحاد السوفياتي عن ركب الأمم.. تمر من أمام مطعم (ماكدونالد) أو (بتزا هت) فتخالك في يوم عيد تجمع فيه سكان موسكو لتناول طعام الأمريكان أو الإيطاليين!

هكذا يمسخون الشعوب .. ويسيرونها على غير هدى.. من أجل لقمة لا تسد الرمق، أو من أجل تقليد أعمى يضر ولا ينفع.

في حافلة نظيفة جديدة نقلتنا من الفندق إلى جولة في المدينة.. مرشدتنا فتاة أنيقة جميلة تتكلم الانكليزية بطلاقة.. رحبت بنا ونحن من بلاد شتى من أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا..

من يمين الطريق إلى شماله.. ومن الشمال إلى اليمين كانت تنتقل بنا مرشدتنا من اسم شارع إلى اسم جسر إلى تمثال أو مسرح .. وكنت تشعر وأنت معها أنها من الشريحة الجديدة التي تأثرت برياح الحرية الجديدة التي بدأت تهب على بلاد الصقيع.

هذا من القرن الخامس عشر، والسادس عشر، لم تذكر إلا نادرا القرن العشرين.. حتى الكرملين والساحات الحمراء والكاتدرائيات العظمى وكل ما يستحق أن تشرحه المرشدة هو من مخلفات القرون الماضية.. استحت بالطبع أن تقول من عهود القياصرة!

 موسكو

قالت مرشدتنا: إن من أخطاء الثورة أنها حطمت المعابد.. ولكنها اليوم تعيدها للعبادة. دخلنا احدى الكنائس.. فوجدناها تغص بالناس.. وكأنما يلوذ أهلها بقوة أكبر من الاستخبارات والقتل الجماعي وتحطيم كبرياء الشعوب..!

قلت: ومتى تغيرونها من ساحات حمراء تذكر بالدماء التي أهريقت في بلاد القرم أو تركمانيا أو أزبكستان أو طشقند أو سمرقند أو أفغانستان مؤخرا.. قالت: وما دخل لون الحجارة وهي من القرون السالفة.. فالمجازر من صنع البشر!

وشعرت عندما وقفت على أسوار الكرملين .. أمام قبور عتاة الإرهاب في العالم وعلى رأسهم ستالين .. بكراهية شديدة فقد قتلوا الملايين من شعبي المسلم.

مررنا بجامعة موسكو وهي تضم 48ألف طالب ، وبتماثيل مكسيم جوركي الكاتب الروائي الروسي المشهور، وبتماثيل الشاعر الكبير بوتشكين، وبتمثال تولستوي، وبعدد كبير من المسارح.. للنور مسرح، وللأطفال مسرح.. ولعلية القوم بقية المسارح.. مررنا بمركز الحزب الشيوعي، وبمتحف الثورة وبمقر الاستخبارات الروسية.. وقلت: كم عانت شعوبنا من هذا المركز.. كم صّدرت منه مؤامرات أحبطت آمال الشعوب، كم علموا حكامنا أهم الطرق في إذلال المعارضة.. أعطوهم أسرار التجسس وأسرار القتل بلا أثر وأسرار القتل الجماعي.. قالت مرشدتنا: بل قل كم عانينا نحن..؟

سألت: وأين المساجد في بلدكم..؟ ففي روسيا ملايين المسلمين.. وموسكو ذاتها كان لها مع الإسلام تاريخ مشترك.. قالت : هناك مسجد واحد.. وهو في الطرق الخلفية لا نستطيع زيارته الآن .. وتصورت المسجد وقد أعدوه لاستقبال حكام المسلمين فيه.. ليظهروا براءتهم من هدم بقية المساجد.. وليشعروا المسلمين بأنهم كرماء مع الأديان متسامحون مع الإسلام.. زرنا بعض المتاجر.. وتكاد تكون خاوية على عروشها، صناعات رديئة، رفوف فارغة، أسعار مرتفعة، تضخم كبير ففي الوقت الذي سعروا الروبل بدولارين.. فإن الدولار يساوي أكثر من 15 روبلا.. يستغرب الإنسان أن يكون هذا حال الاتحاد السوفياتي الدولة التي لا تذكر إلا ويقال عنها الدولة الأعظم.. وأي أعظم هذا..؟ أيكون الأعظم بالقنبلة الذرية والهيدروجينية وبعدد الدبابات والصواريخ والتفنن في قتل الشعوب .. أم يكون الأعظم بقيمة الإنسان وطمأنينة الشعوب وتعشق الحريات وفعل الخيرات وإعطاء السعادة للآخرين..؟ مررنا بمركز الحزب الشيوعي.. يلتسن رئيس جمهورية روسيا، وغورباتشوف رئيس الاتحاد السوفياتي، قلت: وهل يحبهما الشعب.. قالت: يقدرهم.. قلت: بل عن الحب أسأل.. قالت مرشدتنا بلسان الفيلسوف: لم يعد في قلوبنا متسع للحب..

 غورباتشوف

صدقت هذه المرأة الذكية.. فالحب مادة لا يمكن أن تتعامل بالقسر والإكراه.. بل الحب كالحياة يتسرب للقلب والوجدان بدون فرمانات أو استئذان.

 يلتسن

وسألت المرشدة: عن الحياة الاجتماعية في الاتحاد السوفياتي وعن أوضاع الأسرة والمرأة على وجه الخصوص.. وكانت الصورة التي رسمتها هي أقرب لأعراف الشرقيين.. ولكنها أضافت أن نسبة الطلاق بدأت ترتفع في السنوات الأخيرة.. كما أن الشباب والشابات بدأوا يعرضون عن الزواج..

خطوة بخطوة على طريق الغرب.

وإذا كانت لنا كلمة نختم بها حديثنا عن الأيام القليلة التي عشناها في موسكو.. فهي أن الشعب الروسي أطيب مما صوروه لنا.. وهو أقرب إلى المودة.. تستشعر الظلم الذي يحس به.. وقلما ترى ابتسامة عذبة تنطلق من أعماقه.. أما نساؤهم فأكثر احتشاما من المرأة الغربية التي هي أقرب إلى التفلت من كل القيود..

ودعنا موسكو كما استقبلتنا، ودعناها بالمودة .. وقدمت هي بين يديها مزيدا من الثلج.. فلعلها أخذت بقول مرشدتنا.. أن موسكو تحب الشمس والثلج معا..!

في الطريق إلى طشقند…

ولا أستطيع (مهما حاولت ) أن أصف مشاعري في هذه الرحلة..

 طشقند

مزيج من الشوق الغامر.. والحب الآسر.. والمعرفة المكبوتة تجمعت في مشاعري وأنا أغادر الطائرة وأمشي أولى خطواتي على أرض طشقند..

أردت تقبيل ترابها.. فأنا أعشق هذا التراب المحزون الذي سار عليه أجدادي الفاتحون وأسمعوا الدنيا من هناك هتاف الله أكبر.. يومها عنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما.. ولكني ماذا أقول وأنا أحني هامتي للتراب.. ولم أحنها من قبل لغير رب العالمين.. تكفي تحية قلبي لأرضهم.. مع موعد آخر للقاء..

المطار مجرد زريبة أسموها مطاراً..

لماذا شيدوا وعمروا بلادهم روسيا.. وأهملوا طشقند..

ألم تكن في التاريخ أعلى هامة منهم، وأكثر أصالة من قومهم، ألم تكن دار حضارة.. أهلها علماء.. وسكانها أقوياء.. فعندما أسروها أهانوها.. وهل يهين الكريم غير اللئيم..؟

حرصوا على وجود البار لتيسير الخمرة.. وعلى صور البنات.. فارعات عاريات لهدم الأسرة .. وعلى التلفزيون يعرض العرب المسلمين بشكل مضحك لينفرهم من الدين.. لم ينسوا حقدهم.. حتى والبلاد مستسلمة لهم منذ قرابة القرن.. وإذا كان المسلم ينشد لصلاته ركنا هادئا يركع لله فيه بخشوع.. فقد اخترت ركنا صاخبا وسط القوم، أديت فيه صلاة الفجر.. هل هو نوع من التحدي..؟

أم نوع من التذكير لإخواني أبناء طشقند.. تذكيرهم بالأصالة والإسلام ليحافظوا عليه.. ساحة المطار في طشقند تعج بالطائرات.. وماذا يفعل هذا العدد الكبير..؟

إنهم ينقلون السلاح وغير السلاح إلى الحكم في كابول.. ليصد المجاهدين عن ديارهم وأداء دورهم..

ودّعت طشقند وأنا معها علي عهد ووعد.. تماما مثلما يفعل العاشقون في دوحة غنّاء تحت شجرة معطاء يهتف على غصنها بلبل جميل.. ولسان حالي يقول:

ودعته وبودي لو يودعني             صفو الحياه وأني لا أودعه..

في كابول

غرفتي في دار الضيافة في كابول تشرف على حديقة جميلة.. بعض أشجارها خضراء.. وبعضها محتضرة صفراء على وشك السقوط.. ومن خلال الأشجار الباسقة ترى شوارع المدينة شبه الخالية، ومن وراء ذلك سلسلة من الجبال العالية الجرداء.. وإذا صعدت بالطائرة رأيت سلسلة أخرى من جبال أعلى وأقوى.. تغطي قممها الثلوج.. ذكروا أنها ترتفع أكثر من سبعة آلاف متر عن سطح البحر. تسمع في كابول همسا، بعضه من سائق السيارة التي تقلك، وبعضها من المرافق عندما يبتعد عنه رفيقه، وبعضها من أمام المسجد الذي صلينا الظهر في مسجده، وبعضها من بائع الخردوات الذي تدخل متجره.. والهمس والملاحظة من أقوى وسائل المعرفة.. فإذا كان الحديث الرسمي يعطيك من طرف اللسان حلاوة.. فإن الحديث الهامس أقرب إلى الواقع لمن أراد أن يتعرف عليه.

فمن هذا الواقع أن كابول ساحة حرب .. قد تشتد وقد تسترخي.. اعتاد الناس على ذلك فلم يعد منظر الجنود وسيارات الجيش والمدرعات التي تتنقل في الشوارع مما يلفت أنظارهم.. بل أن أصوات الرصاص وفرقعة الصواريخ صارت شيئا عاديا يسمعونه ولا يهتمون به..

ومن الملاحظات أن معظم الذين قابلنا من الجنود، ومن موظفي الوزرات، ومن المرافقين.. كلهم من الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين سنة.. ولهذا الأمر أهمية خاصة.. فمعنى ذلك أن هذا الجيل تربى وتدرب على عيون الانقلابيين.. تعلم في روسيا أو في دول أوربا الشرقية أو في الهند وهو مؤمن بما يفعل.. بل ويمثل النظام أحسن تمثيل.

ومن الملاحظات أن النظام أثر كثيرا على المرأة الأفغانية التي اشتهرت بمحافظتها وحجابها.. فقلما تصادف امرأة شابة متحجبة. قد ترى عجوزا أو امرأة تلبس اللباس الساتر القديم.. ولكنك لن ترى ذلك في الجيل الجديد.

 مقاتلين في كابول

ومن الملاحظات أن لرجال الدين تأثيرا حقيقيا في الناس.. فعندما زرنا المسجد المركزي في كابول وصلينا فيه الظهر والعصر وسلمنا على الإمام.. رحب بنا وتوجه إلى مرافقينا بالتأنيب الشديد وقال يا خجل أفغانستان أن يمثلها رجال مثلكم تدخلون المسجد ولا تصلون (وذكروا  بعد ذلك أن الجميع يخشى الشيوخ).

ومن الملاحظات أن كراهية الروس حقيقية عند الجميع.. وهمس بعضهم أن الروس لم يفعلوا للبلد شيئا.. وأنهم بنوا بعض البيوت الرديئة التي يرفض الأفغانيون أن يسكنوها.. وأنهم سرقوا المعادن ومعدات التلفزيون وكل ما وجدوه صالحا في البلد نقلوه إلى روسيا.

ومن الملاحظات أنهم شديدوا الكراهية للباكستان وللسعودية.. وعندما سألتهم لماذا يأتي الشباب العرب ليقاتلوا هنا.. قالوا: من أجل النساء ومن أجل نشر المذهب الوهابي!

ومن الملاحظات أنهم أفغانيون.. لا شرقيون ولا غربيون، وإنهم يكنون حبا وتقديرا عميقا للمجاهدين.. وتواقون للصلح معهم.

ومع شروق اليوم التالي وصلنا إلى كابول، وبعد استقبال رسمي، نقلونا إلى دار ضيافة الحكومة.

كان ينتظرنا برنامج حافل: لقاء مع وزير الخارجية، ولقاء مع رئيس الوزراء، ونائب رئيس حزب الوطن، ثم لقاء مع رئيس الجمهورية، ولقاء مع وزير الأوقاف ومع العلماء.

فإذا تصورنا أن كل هذه اللقاءات ستتم في يومين اثنين.. علمنا كم كان البرنامج مزدحما واللقاءات متتابعة. أهم هذه اللقاءات كان لقاؤنا مع وزير الخارجية عبد الوكيل.. فقد شرحنا له هدفنا وشرح لنا قضية أفغانستان..

وكان مما قاله الوزير:

إن بلادنا تتعرض لحرب أهلية منذ زمن طويل ، وإذا كان لهذه الحرب ما يبررها والروس في بلادنا، فلم يعد لها هذا المبرر بعد خروج الروس، وبعد أن مددنا أيدينا لإخواننا للمصالحة.

لا نعتقد أن الحرب يمكن أن تحل المشكلة.. ولا نعتقد أن المجاهدين يستطيعون كسب الحرب مهما طالت.

نعتقد أن الدول الأخرى وعلى رأسها أمريكا وباكستان وبعض الدول العربية هي التي تضغط على المجاهدين حتى لا نجلس معهم للحوار على طاولة واحدة..

إن الانقلاب ارتكب خطأ كبيرا باستدعاء القوات الروسية.. ولكننا ساهمنا في إخراجهم لإصلاح الخطأ التاريخي الذي حدث.

نحن مسلمون، نعتز بإسلامنا، غيرنا كل شيء في الدولة. كانت دولة الحزب الواحد ففتحنا الباب لتعدد الأحزاب. كان الحزب الديمقراطي الشعبي فأصبح حزب الوطن وهو حزب إسلامي بكل معنى الكلمة. غيرنا الدستور وقلنا إن كل قانون يتعارض مع الشريعة الإسلامية يعتبر باطلا.

كنا نتمنى على أشقائنا المسلمين أن يسارعوا إلى مساعدتنا في محنتنا وحقن دماء شعبنا ولكن ذلك لم يحصل للأسف الشديد.

نقدر لأخينا البروفيسور نجم الدين أربكان ولإخواننا في تركيا هذه المبادرة الكريمة وسوف لن ننسى لهم هذا الموقف وسيذكره شعبنا بالامتنان والتقدير. ولم تخرج الأحاديث في لقاءاتنا الأخرى مع وزير الأوقاف البروفسور محمد صديق سيلاني عن هذا الإطار.. وأضاف أنه تخرج من الأزهر الشريف وهو صديق حميم للبروفسور برهان الدين رباني.. وذكر أن النظام الحالي يحاول صياغة القوانين على أساس الشريعة الإسلامية..

أما لقاؤنا مع سليمان لايق وهو نائب رئيس حزب الوطن ونائب رئيس الجمهورية.. فقد أضاف بأن لباكستان أطماعا في بلادنا، وأن الانكليز اقتطعوا أثناء احتلالهم للهند منطقة سرحد التي يسكنها حوالي 16 مليون أفغاني.. وألحقوها بالباكستان. وأن باكستان هي التي تصلب مواقف المجاهدين وتحول دون عودتهم إلى بلادهم..

أما رئيس الوزراء فضل الحق خالق يار فقد تحدث حديثا مفعما بالمودة والأخوة وتمنى لبعثتنا النجاح في مهمتها. وبعد ذلك كان اللقاء مع رئيس الدولة الدكتور نجبب الله.

ونجيب الله شخصية جذابة.. حذرة.. ينظر طويلا في محدثه.. ويتكلم بتلقائية تشاركه أصابعه وعيناه ورأسه الحديث، رياضي المنظر، متواضع في الظاهر، ويروغ عنك كما يروغ الثعلب، شاب لا يزيد عمره عن خمس وأربعين سنة.

تحدث عن المجاهدين وخاصة غولبدين حكمتيار.. فقال :

  • قالوا سيحتلون كابول في شهرين أو أسبوعين .. فلم لم يفعلوا..؟
  • كنا نتمنى أن يمدوا أيديهم إلينا عندما خرجت القوات الروسية، لنفرح معا، ونهيل التراب على حقبة سوداء من تاريخ بلادنا.
  • طلبنا منهم أن نحتكم إلى الشعب في انتخابات حرة بإشراف دولي مقبول ولكنهم لم يقبلوا.
  • حدث انقلاب في أفغانستان فأيده حكمتيار.. قبل أسبوعين حاولوا جاهدين احتلال كابول ولكنهم لم يستطيعوا.
  • نريد الصلح ونريد حقن دماء شعبنا.. ومع ذلك فنحن أقوياء وصامدون.
  • أعدنا الديمقراطية وعدلنا الدستور واحتكمنا للإسلام وأجرينا الانتخابات.. ونحن مستعدون لأي إجراء يأتي بالوفاق والصلح ويوقف نزيف الدماء.
  • نوافق علي هيئة التحكيم التي اقترحها البروفيسور نجم الدين أربكان.. شرطنا أن يكون الاتفاق بين الأفغانيين أنفسهم.. يجلسون وجها لوجه ويتحاورون. نحن على استعداد أن نضع جميع القوات والمخابرات والإعلام تحت إشراف لجنة      محايدة مقبولة أثناء الحوار. وبعد حديث دام حوالي الساعتين، ودعنا الرجل عند باب المبنى الخارجي بالعناق، وتمنى للجنة كل خير وأوصانا بإبلاغ تحياته للأستاذ أربكان.

والانطباع السريع عن الرجل.. أنه واثق من نفسه.. يحب أن تنتهي مشكلة بلاده ولكن ليس على حسابه.. قابلنا في غير المكان المعين، نوع من الحذر الذي يتقنه رجال المخابرات. طلبنا اللقاء مع رئيس التنظيم الطلابي في الجامعة والمعاهد.. فأحضروا لنا الأخ محمد إبراهيم الذي قدم نفسه باعتباره رئيس التنظيم الشبابي والعمالي المرتبط بحزب الوطن.. والأمر لا يعدو أن يكون نقابة يسارية تضم عددا من العمال لها فروع في مختلف المدن، تقيم احتفالات فنية وشعبية، لها اتصال بالمنظمات اليسارية في العديد من الأقطار وخاصة الشيوعية، تصدر مجلة للأطفال، وأخرى للنساء، والثالثة نقابية عمالية.. وذكر الأخ محمد إبراهيم أن مؤتمرهم العام القادم سيقرر انفصالهم عن الحزب.. ليشكلوا تنظيما نقابيا مستقلا. تحدثت معه عن العمل الطلابي الإسلامي وإنجازاته وتواصينا بالتعاون وتبادل المعلومات والزيارات والمطبوعات.. ورجوته أن يدعونا إلى لقائهم العام القادم لتتاح لنا الفرصة في مخاطبة الجمهور الطلابي الأفغاني.

كابول تحت القصف

في يومنا الأخير في كابول.. وبعد أن تسلمنا من رئيس الدولة رسالة للأستاذ أربكان.. يتعهد له فيها بالانصياع للجنة التحكيم الإسلامية التي تقرر شؤون أفغانستان.. وتنهي حمام الدم الذي يدفع ضريبته الشعب الأفغاني..

وفي ليلتنا الأخيرة.. ونحن نعيد حساباتنا.. ونطرح على أنفسنا بعض الأسئلة حول جدوى هذه الزيارة.. وهل كان رئيس الدولة صادقاً في التزامه.. ومتى كان لرجال المخابرات عهد.. أم أنه الخوف من أحمد شاه مسعود وهو يزحف نحو كابول وتستسلم له قطعات الجيش قطعة بعد قطعة.. يريدون أن يتخلصوا من عهد الظلام؟.. ومع ذلك فقد كانت الزيارة مفيدة.. أطلعنا فيها عن كثب على أحوال البلاد.. وكيف أضافوا للظلم الذي عاش فيه الأفغانيون على يد حكامهم السابقين ظلماً آخر.. وكيف أضافوا على الفقر الذي يعاني منه الشعب فقراً أشد وأوجع..

كنت في حديث النفس هذا.. وبدا إطلاق الصواريخ.. وكأنها تريدنا. عندما التقينا بقيادات المجاهدين في بيشاور.. وبقلب الدين حكمتيار تعهد لنا بعدم إطلاق صواريخه عند زيارتنا إلى كابول.. ومع ذلك فإن أصوات الصواريخ لم تتوقف.. وخاصة في ليلتنا الأخيرة..

 خريطة أفغانستان

هل تصورت نفسك وأنت في هذا المشهد؟

بدأت الخيالات تنتابني.. فطعم الموت مر.. من أية ناحية جاء..

وإذا حمّ القضاء بصاروخ اخترق غرفتي ودمر ما فيها وأنا بالطبع منهم.. هل يكتبها الله لنا شهادة في سبيله؟ فنحن لم نخرج من ديارنا إلا لنصرة إخواننا الأفغان.. عسى أن نقدم لهم شيئاً يخلصهم من الطاغوت..

لقد قتلت صواريخ غولبدين آلاف الأبرياء في كابول.. فهل سأل المجاهد نفسه لماذا؟ وهل يعتقد أنه يحسن صنعاً؟

سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قالوا يا رسول الله: الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل للمغنم، ويقاتل ليري مكانه، أيهم في سبيل الله.. قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.. فهو في سبيل الله).

في موسكو مرة أخرى

في موسكو التقينا بثلاثة أشخاص من القسم التركي في وزارة الخارجية الروسية.

 وكانت فرصة لنا لنتعرف على التفكير الروسي الرسمي حول مختلف القضايا السياسية. وإذا زاد تحفظهم ولم يفصحوا عما في نفوسهم.. فلا أقل من أن نبلغهم رأينا في الأحداث، وهم بالطبع سينقلون ذلك لمسؤوليهم.. وجرى بينى وبين أحدهم أندرو الحوار التالى:

كيف كانت رحلتكم إلى أفغانستان ؟

وسكو مرة أخرىالذين لم تتجاوز أكاتصلنا بالدكتور نجيب الله، وسنتصل بالأطراف الأخرى، لعلنا نتوصل إلى حل لهذه القضية المعقدة.

ولكن الطرف الآخر أكثر من جهة وكلهم متخاصمون، لا رأي لهم ويخافون من بعضهم.

وتطرق الحديث إلى أوضاع المسلمين في الاتحاد السوفياتي.. فهذا البلد ثلث سكانه من المسلمين وكل الدول المحيطة به دول إسلامية مثل تركيا وأفغانستان وإيران وباكستان.. وهناك تراث ضخم من الظلم التاريخي عاناه المسلمون في بلادكم.. ودولتكم هذه الأيام في مرحلة تحول.. أفلم يئن الوقت لوضع حد لهذا الظلم، وردم المظالم. وأن انسحابكم من أفغانستان لربما شكل بداية لهذه السياسة الجديدة.

ولكن الشعب يريد نجيب.

أنتم أقدر عن طريق استخباراتكم أن تعرفوا إن كان الشعب يحب نجيب الذي حكم الناس بالحديد والنار أم يحب المجاهدين الذين أخرجوا القوى المحتلة من بلادهم.

ولكننا انسحبنا الآن من أفغانستان.

انسحبتم هذا صحيح، ولكن صواريخكم ما زالت تتدفق على كابول وتدك معاقل الشعب الأفغاني.

ثم انتقل الحوار إلى جانب آخر.. فقلت:

ولماذا روسيا في كل هذا الضيق، فلا سلع، ولا مواد غذائية كافية، والتضخم في أصعب أحواله..؟ وأضاف أندرو:

إنه من أخطاء النظام القديم.

وهل توافقون أن النظام السابق أو أن الشيوعية انتهت بالفعل..؟ ولم يجب أندرو وإن كانت نظراته تبوح بذلك..

زرنا مترو موسكو.. وزرنا المسجد الوحيد الذي كان يستخدم للاستعراضات، صلينا في المسجد وحاورنا المسلمين.. فأظهروا حماسا ورغبة في خدمة الإسلام.. وقالوا سنفتح جميع المساجد المغلقة وفي الأسبوع القادم سنستلم المسجد الأول لنعيده إلى الحياة مرة أخرى.

ودعنا موسكو والأمل العريض يحدونا بأن تعود بيارق الإسلام مرة أخرى لتخفق فوق هضاب موسكو(المؤلف (8/11/1990م)).

 

الأستاذ مصطفى مشهور

المرشد العام الخامس

 

بعض خواطري مع شيخنا

من الصعوبة البالغة أن يكتب مثلي عن مثل مصطفى مشهور، أحد قيادات الإخوان المسلمين في مصر.. وعندما رجعت إلى الأرشيف أطالع ما كتب عن شيخ الدعوة، وجدته كثيراً ومفيداً.. لم يترك المحبون والمريدون زاوية في حياة الرجل العظيم إلا وتناولوها.. ومع ذلك.. فقد التزمت أن أكتب عن الشخصيات الإسلامية التي عايشتها.. وكتبت عن كثيرين.. فلم يكن من الإنصاف أن أتجاوز شيخنا ومعلمنا مصطفى مشهور.. ولو فعلت لاستغرب من يقرأ كتابي عن سبب هذه الثغرة.. لمَ تركتها؟

لهذا السبب فإني سأدلي بدلوي.. وأتحدث عن بعض المواقف مع الرجل العظيم مصطفى مشهور.

الأستاذ مصطفى مشهور مع الأستاذ الطحان

أبدأ من أنكونا في شمال إيطاليا على ساحل الأدرياتيك. كان لقاء لطلاب إيطاليا.. وبعض الطلبة القادمين من الدول المجاورة.. وكان من الضيوف الأستاذ مصطفى مشهور والأخ أبو هشام وبعض قيادات الإخوان الآخرين.. مرّ الملتقى.. وفي أوقات الفجر كان يجلس الأستاذ مصطفى مشهور بعد الصلاة مع مسؤولي العمل الطلابي وكنت معهم، يتحدث عن الدعوة: الفكرة والتاريخ والمحن.. وعن ضرورة العمل الدؤوب حتى لا تتوقف الحركة عن أداء واجبها في تصحيح مسيرة الأمة.. ويختم اللقاء بتجديد البيعة.. يتكلم ونحن نثنّي على كلامه.. نعاهد الله على المضي في هذا الطريق مهما بلغت التحديات.

يومها كان شيخنا يجمّع الإخوان في أنحاء العالم.. ليؤكدوا وجودهم.. ويجددوا بيعتهم.. ويلتزموا صفهم.

وكنت أزور فرنسا مع أخي الأستاذ صلاح شادي.. أحضر ملتقى للعمل الطلابي في مدينة ستراسبورغ الحدودية مع ألمانيا وفيها خط ماجينو الذي اشتهر في الحرب العالمية الثانية.

وبعد فرنسا زرت ألمانيا.. وفي ميونيخ التقينا بالشيخ مصطفى مشهور فقد اضطرته الظروف للخروج من مصر.. وفي ألمانيا كان شيخنا يعكف على تشكيل التنظيم العالمي للإخوان المسلمين.. وتعانق صلاح شادي مع مصطفى مشهور عناقاً طويلاً.. تحدثت فيه العيون بالدموع.. وطال العناق. يومها قلت رحم الله الإمام البنا.. كيف ربى هذه النماذج التي إذا التقت لا تستطيع أن تفترق.. رحم الله الشيخين فقد تعلمت من دموعهما درساً في الحب لا أنساه.

وفي الأردن كنت أشارك في العديد من اللجان.. بعضها يتعلق بالقضية السورية.. وبعضها بالقضية الإعلامية.. وكان يحضر في بعضها الشيخ مصطفى مشهور محاوراً وموجهاً.. يومها قال لي في لقاء خاص بيني وبينه: هل صحيح أنك تسعى لتشكيل جماعة جديدة؟

يومها كنت أميناً عاماً للاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية.. وكنت لا أكاد أستقر في بلدي.. فأنا مسافر.. من مكان إلى مكان.. وفي كل مكان أزوره ألتقي مع الإخوة الطلبة وأتابع أنشطتهم.. والعمل الطلابي هو نواة كل عمل دعوي حركي..

فكان البعض ممن يسيئون الظن يقولون أنني أعمل على تشكيل تنظيم جديد.

أشكر لأستاذي مصطفى مشهور أنه كان صريحاً معي.. وهذه مزية لا يتمتع بها إلا الكبار ولقد جاء في التوجيه الرباني قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) والتبين هنا بالسؤال المباشر الصريح..

قلت له يومها: نحن نلتقي في أمرين.. في الاسم.. وفي التمسك بهذه الدعوة المباركة مهما كانت الظروف.. حتى نلقى الله.

ولقد سرّ من قولي وظهر ذلك في وجهه رحمه الله.

في استانبول.. كانت لنا لقاءات كثيرة..

من هذه اللقاءات.. لقاء شيخنا مع الأستاذ نجم الدين أربكان.. في المؤتمرات العامة للتجمعات الإسلامية حيث يلقي الأستاذ مصطفى كلمة الإخوان المسلمين أمام آلاف المشاركين في هذه المؤتمرات.

وفي لقاءات التنسيق بين الحركات الإسلامية.. وكان لقاء ثلاثياً بين الأستاذ أربكان والأستاذ مصطفى مشهور والأستاذ القاضي حسين أمير الجماعة الإسلامية في باكستان.. وكنت أمين عام هذه اللقاءات أرتب البرنامج وأدعو للقاء.. ولقد كان لقاءاً مفيداً تبحث فيه كل قضايا الحركات الإسلامية المشتركة.

وفي لقاء مكتب الإرشاد الذي كان يعقد في استانبول في أكثر الأحيان.. وقد جاء ممثل تنظيم الإخوان في الكويت.. يحمل رسالة من إخوانه عن توقف الجماعة في الكويت عن لقاءات التنظيم العالمي للإخوان المسلمين.. احتجاجاً منهم على موقف الجماعة من غزو الكويت.. وكان موقفاً متسرعاً.. قابله الأستاذ مصطفى مشهور في اللقاء بالحكمة والأناة.

وفي أكرانيا التقيت مع الأستاذ مصطفى مشهور في لقاء ضم مسؤولي العمل الإسلامي في منطقة آسيا الوسطى..

كان لقاء مهيباً.. تأثرت فيه أشد التأثر.. تحدث في الفجر شيخنا مصطفى مشهور مع جميع الإخوة القادمين.. ذكرهم بالله.. وحثهم على التمسك بالدعوة.. وجدد معهم البيعة.. يومها قلت: سبحان الله ما أعظم هذا الدين.. وذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يوم قال لابنته فاطمة.. وقد بكت.. سألها لماذا تبكين يا فاطمة، قالت: عليك يا رسول الله.. قال لها: لا تبك يا بنية، إن الله ناصر أباك.. وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار.

أليس المنظر الذي أمامنا شديد العجب.. الاتحاد السوفياتي يسقط والدول الإسلامية تعلن استقلالها ويأتي مرشد الإخوان ليأخذ البيعة منهم.. صدق النبي العظيم.. سيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار.

في المجر كنا نحضر لقاء للإخوة العاملين في المجال الطلابي في أوروبا. ونزلنا في فندق جميل في وسط الغابة.. وقد حضر اللقاء أبو العلا ماضي.. وقد حرص دائما على محادثتي.. وحاول أن يقنعني أن حزب الوسط هو حزب الإخوان.. وأن الأستاذ محمد مهدي عاكف هو من أسسه.. وأن الذي يقف في وجهه هو الأستاذ مصطفى مشهور..

وقال لي: لا أعرف لماذا يعاديك مصطفى مشهور.. كان يطلب منا ألا نتصل بك.. ولا نجيب على رسائلك.. قلت في نفسي.. لماذا هذا التحريض.. وهل يصح مثل هذا القول في إفساد ذات البين بين الإخوة.. ويومها أطلعني على مقال محمد سليم العوا.. الحركة الإسلامية من رشيد رضا إلى أبو العلا ماضي.. مبالغات وأكاذيب أجبت على بعضها في مقال كتبته بعنوان.. مع سليم العوا..

لقد أحببت الرجل.. وعرفت نشاطه ودأبه وتمسكه بدعوته.. قرأت كتبه واستفدت منها في بعض كتبي.. وطلبت منه أن يقدم كتابي: فلسطين والمؤامرة الكبرى ففعل.

كما وطلبت منه أن يقدم كتابي الفكر الإسلامي الوسط (دراسة في فكر الإخوان المسلمين) ففعل..

وهذه شهادة مني لفقيدنا الجليل.. فرسولنا يقول: إذا شهد للمسلم أربع من إخوانه قبل الله شهادتهم. هذه شهادتي وسيجد الفقيد مئات الشهادات غيرها.

أختم خواطري عن القائد الكبير مصطفى مشهور.. وهي لا تكاد تنتهي.. أختمها بمشهد..

عندما كان مكتب الإرشاد يعقد لقاءه في استانبول.. كان الأستاذ محمد مهدي عاكف وهو بالمناسبة حبيبي وأخي وشيخي.. كان يحاول الأستاذ مصطفى أن يذهب معه إلى فندق قريب.. وكان يجيبه الرجل الزاهد العابد.. تكفيني نومة هنا (ويقصد بهنا) كنبة قديمة في بيت أخينا سيف حسن البنا في استانبول.. رحم الله الفقيد العابد الزاهد رحمة واسعة.

حياته

ولد مصطفى مشهور في 15 سبتمبر 1921م في قرية السعديين التابعة لمحافظة الشرقية.. حصل على الثانوية العامة في القاهرة، وتخرج من كلية العلوم في جامعة القاهرة عام 1942م، وعمل بعد تخرجه في الأرصاد الجوية.

وفي سنة 1945م، تزوج من ابنة عمه زبيدة عبد الحليم مشهور، التي فاجأها بقوله: إن زوجتي الأولى هي (الدعوة) وأنت الزوجة الثانية، فلا تغاري منها إذا تأخرت أو شغلتُ بسببها عنك. فكان جواب زوجته: وأنا خادمتها.

وقد كان زواجاً مباركاً موفقاً، وعهداً موثقاً، ووفاء متصلاً حتى الممات.

ظلت الزوجة الصالحة وفية لزوجها ودعوتها حتى توفاها الله في 2 أكتوبر 1997م.

في جماعة الإخوان المسلمين

نشأ  مصطفى مشهور في بيئة تعلي من قدر الدين والمتدينين، وصاحبه تدينه إلى حيث ذهب، كان يرتاد المساجد يصلي فيها ويستمع إلى ما يلقى من دروس ومواعظ وبيده مصحفه لا يفارقه، وذات يوم رأى أحد المصلين يوزع مجلة التعارف، وفي المسجد تعرف إلى شاب من شباب الإخوان المسلمين، ولم يتعب الشاب في إقناع الفتى مصطفى ابن الخمسة عشر خريفاً بدعوة الإخوان، فقد صحبه إلى شعبة الحي، ثم إلى المركز العام في منطقة الحلمية ليستمع إلى محاضرة لمرشد الإخوان الإمام حسن البنا، فاستمع الفتى في انبهار إلى المحاضر وحرص على المداومة على حضور دروسه كل أسبوع، وهكذا صار الفتى مصطفى عضواً في جماعة الإخوان المسلمين عام 1936م، ومنذئذ التحم كيانه كله في جسم الجماعة، فما فارقها لحظة واحدة في عسر ولا في يسر، وعاش فيها بجسمه وروحه، عاش سراءها وضراءها، وكانت روحه تحلق في أجوائها وهو يمشي على قدميه في أحياء القاهرة وأريافها، وفي الصعيد، وفي المدارس والجامعات، يدعو إلى الله، فقد كان كتلة من حيوية ونشاط، لفت إليه أنظار القائمين على (الجهاز الخاص) فوضعوا عيونهم عليه، وراقبوه واختبروه ثم لم يلبثوا إلا قليلاً حتى ضموه إليهم، وليكون من أنشط أعضاء الجهاز انضباطاً، وتنفيذاً لما يطلب منه.

الجهاز الخاص

وهو الذي كانوا يسمونه الجهاز السري، أنشأه الأستاذ المرشد عام 1940م من خيرة شباب الإخوان ديناً، وأخلاقاً وإخلاصاً لفكرة الجهاد، وكان الهدف من إنشائه، تدريب الشباب من أجل تحرير مصر من الاستعمار الإنجليزي، الذي يحتل البلد ويستنزف خيراتها. وتحرير فلسطين من الإنجليز الذين يستعمرونها ويتآمرون مع اليهود لإنشاء وطن لهم فيها، وإقامة دولتهم على أرضها.

وقد خاض رجال الإخوان معارك هائلة في مصر ضد الإنجليز في القنال خاصة وحيث وجد للإنجليز منشآت في بعض مدنها، كما خاضوا معارك باسلة في فلسطين، وأبلوا أحسن البلاء، ولولا تآمر المتآمرين على فلسطين وعلى المجاهدين، لكان لأبناء هذا الجهاز الحيوي دور هائل في إحباط ما يفكر به الإنجليز واليهود وعملائهم، ولكن المؤامرة كانت أكبر من أولئك الرجال الذين قدموا أرواحهم ودماءهم فداء لفلسطين والقدس والأقصى وكانوا ينفقون على تنظيمهم هذا من جيوبهم الخاصة، وكان مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا في فلسطين، يقدم لهم بعض المال ليشتروا به السلاح. وكان الشاب مصطفى مشهور واحداً من هؤلاء المجاهدين.

وقد أشاد به القادة العسكريون وغيرهم لما رأوا من جهاد أعضائه وبطولاتهم في فلسطين ضد اليهود، وفي مصر ضد الإنجليز، وتلك كانت مهمة النظام الخاص البطولية التي حاول تشويهها الاستعمار وأعوانه في الداخل والخارج، إن السياق التاريخي والسياسي في مصر آنذاك كان يسمح بوجود مثل تلك التنظيمات شبه العسكرية.. مثل منظمة الحرس الحديدي التي تأتمر بأوامر القصر الملكي، ومنظمة القمصان الزرق لمحاربة أعداء حزب الوفد، ومنظمة القمصان الخضر التابعة لحزب مصر الفتاة.. وغيرها.

قضية سيارة الجيب (1948)

كانت أول تجربة قاسية يمر بها الشاب مصطفى، عندما سقطت سيارة جيب تابعة للنظام في يد البوليس، وبها كل الأوراق التي تخص النظام، وكان مصطفى مشهور في هذا الوقت من قادته، وكان ذلك في 5 نوفمبر 1947م. فاعتقل مع إخوانه وقدموا للمحكمة التي ظلت منعقدة ما يقرب من العامين والنصف، حتى برأت المحكمة المتهمين من الإخوان في 17 مارس 1951م، وذلك لنبل مقاصدهم وجهودهم في فلسطين، وذلك بعد شهادة مفتي فلسطين، واللواء المواوي قائد القوات المصرية في فلسطين واللواء فؤاد صادق.

والطريف في الأمر، أن رئيس المحكمة المستشار أحمد كامل بك وكيل محكمة استئناف القاهرة ذكر في حيثيات الحكم الذي نطقت به المحكمة ما يلي: وحيث أنه سبق للمحكمة أن استظهرت كيفية نشأة جماعة الإخوان المسلمين، ومسارعة فريق كبير من الشباب إلى الالتحاق بها، والسير على المبادئ التي رسمها منشؤها والتي ترمي إلى تطهير النفوس مما علق بها من شوائب، وإنشاء جيل جديد من أفراد مثقفين ثقافة عالية، مشربة قلوبهم بحب وطنهم، و التضحية في سبيله بالنفس والمال، وقد كان لا بد لمؤسسي هذه الجماعة لكي يصلوا إلى أغراضهم أن يعرضوا أمام الشباب مثلاً أعلى يحتذونه وقد وجدوا هذا المثل في الدين الإسلامي وقواعده التي رسمها القرآن الكريم والتي تصلح لكل زمان ومكان فأثاروا بهذه المثل العواطف التي كانت قد خبت في النفوس وقضوا على الضعف والاستكانة والتردد وهي الأمور التي تلازم – عادة – أفراد شعب محتل مغلوب على أمره، وقام هذا النفر من الشباب، يدعو إلى التمسك بقواعد الدين، والسير على تعاليمه، و إحياء أصوله سواء أكان ذلك متصلاً بالعبادات و الروحانيات، أم بأحكام الدنيا.

ولما وجدوا أن العقبة الوحيدة في سبيل إحياء الوعي القومي في هذه الأمة، هو جيش الاحتلال الإنجليزي الذي ظل في هذا البلد قرابة سبعين عاماً، ولقد كان بين المحتل وبين فريق من الوطنيين الذين ولوا أمر هذا البلد مباحثات و مفاوضات، ليخلص الوادي (مصر) لأهله، ولم تنته المفاوضات إلى نتيجة طيبة، ثم جاءت مشكلة فلسطين وما صاحبها من ظروف و ملابسات إلى آخر هذه الحيثيات التي قدمها رئيس المحكمة قبل النطق بالحكم على الشاب مصطفى مشهور مع 27 عضواً من إخوانه البررة.

ومن الطريف أن نذكر أن رئيس المحكمة المستشار أحمد كامل كان مقدراً لهؤلاء الشباب الذين يحاكمهم، وأعجب بجراءتهم وإخلاصهم، وتفانيهم في سبيل دعوتهم، الأمر الذي جعله يستقيل من القضاء وينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين ويؤلف كتاباً ويقول: (كنت أحاكمهم.. و أصبحت منهم) دعا فيه الشيوخ و الشباب إلى الالتحاق بتنظيم الإخوان الذي أفرز هؤلاء الرجال الذين أقنعوا قاضيهم بحقهم، وبأصالة ما يدعون إليه.

الاعتقال الثاني (1954)

قامت الثورة في يوليو 1952م، وحاول عبد الناصر أن ينفرد بها، فبدأ بالتخلص من محمد نجيب رئيس قيادة الثورة، وبالتخلص من الإخوان وهم الذين أمدوا الثورة بكوادرهم في تنظيم الضباط الأحرار، فحدثت اعتقالات لهم فثار سلاح الفرسان، وأفرج عن الإخوان، وذهبوا إلى المرشد العام حسن الهضيبي واعتذروا له عن الذي حدث. وفي عام 1954م وقعت حادثة المنشية، واتهم الإخوان بتدبير اغتيال جمال عبد الناصر. وكانت أحكام قاسية شملت أعداداً كبيرة من الإخوان.. وحكم على ستة من الإخوان بالإعدام.. وهم: عبد القادر عودة، والشيخ محمد فرغلي، ويوسف طلعت، وإبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، ومحمود عبد اللطيف.

يقول الأستاذ مصطفى مشهور: في يونيو 1954م أُبعدت عن العمل المهني إلى (مرسى مطروح) ثم وقع حادث المنشية المفتعل، فاعتقلت بعد أسبوعين، وأُحضرت من (مرسى مطروح) إلى السجن الحربي. عُذبتُ كثيراً في السجن الحربي، وشكَّلوا محكمة لمحاكمتي لم تستغرق أكثر من ثلاث دقائق، وحكموا عليَّ بعشر سنوات أشغال شاقة. بعد الحكم نقلوني إلى ليمان طرة ثم إلى سجن الواحات الخارجية، وكان السجن عبارة عن خيام محاطة بالحرس، وبسلك شائك، ومفتوحة طول الليل والنهار، وكان الجو صعباً، فتأقلمنا معه، وكان ذلك سنة 1955م.

وقبل انتهاء مدتي بستة أشهر، أخلوا السجن فرحلوني إلى أسيوط فقضيت بها المدة المتبقية وخرجت في نوفمبر سنة 1964م.

مذبحة طره (1957م)

يقول مصطفى مشهور: في سنة 1957م كان عبد الناصر يخطط لخلع الملك حسين ملك الأردن.. وقد كشف ضباط الإخوان هذا المخطط وأفشلوه، فاغتاظ عبد الناصر، وأراد أن ينتقم من الإخوان المسجونين في سجن طرة، ففي طرة كان السجناء يخرجون إلى الجبل، لتكسير الحجارة، ثم يعودون، والمريض منهم يأخذ تصريحاً طبياً، كيلا يخرج إلى الجبل.

ذات يوم صدر الأمر بخروج جميع السجناء إلى الجبل، السليم منهم والمريض، فاستغرب الإخوان هذا الأمر، وشكوا في أسبابه، فلم يخرجوا. كان رد إدارة السجن أن مجموعة من الجنود يحملون الرشاشات، دخلوا على الإخوان في الزنازين والعنابر، وصوبوا الرشاشات نحوهم بعشوائية همجية، فسقط منهم واحد وعشرون قتيلا، وسميت مذبحة طرة.

الاعتقال الثالث (1965)

وفي أغسطس 1965 فوجئ الناس بقرار جديد من جمال عبد الناصر يقضي بإعادة اعتقال كل من كان معتقلاً سابقاً وأفرج عنه، وجاءت عناصر المخابرات لتعتقل مصطفى مشهور ولم يمض على الإفراج عنه سوى بضعة أشهر.

وكان نصيب الرجل من التعذيب شديداً وهو صابر محتسب، ويدعو إخوانه إلى الصبر والثبات على هذه المحنة التي جاءتهم من موسكو، حيث كان عبد الناصر يزور قبر لينين، ويعلن عن كشف مؤامرة لقلب نظام حكمه بقيادة سيد قطب.. وبقي في السجن حتى هلك عبد الناصر، وجاء السادات وأمر بالإفراج عن الإخوان المعتقلين من أوائل السبعينات (1971) وهكذا أمضى الشيخ مصطفى مشهور ست عشرة سنة في معتقلات الطواغيت.

استئناف العمل

وما إن خرج الإخوان من السجون في بداية السبعينات، حتى انطلقوا في مهمة بناء ولمّ شمل الإخوان من جديد، والظاهر أن المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي كلف بهذه المهمة لجنة من الأوفياء الثابتين وكان من أبرزهم: الحاج حسني عبد الباقي المليجي، الدكتور أحمد الملط، والأستاذ كمال السنانيري، والحاج مصطفى مشهور، رحمهم الله جميعاً ومعهم الحاج أحمد حسنين ويعاونهم كثيرون في المحافظات ويسترشدون بأعضاء مكتب الإرشاد الذين ثبتوا في المحن المتتالية ولم يهنوا أو يضعفوا وعلى رأسهم الأستاذ عمر التلمساني، والسيد محمد حامد أبو النصر.

وما كاد الشيخ مصطفى يخرج من السجن، حتى بادر إلى الاتصال بالإخوان، ليعيد التنظيم إلى سابق عهده بالحياة والحيوية والنشاط، غير عابئ بما قد يصيبه في سبيل الدعوة التي سكنت قلبه وعقله.

كان يطوف أرجاء المدن والقرى، يلتقي بشباب الجامعات(كان الأستاذ مصطفى مشهور مسؤولاً عن قطاع الطلبة عام 1974م)، يحثهم على الفضيلة، ويعينهم على الهداية، ويأخذ بأيديهم إلى طريق الدعوة، يصحح المفاهيم المعوجة، ويرشدهم إلى الحنيفية السمحاء، ويعرفهم طريق الوسطية، ويشرح لهم أن فهم الإسلام الصحيح الوسطي هو أول طريق العمل الصحيح، لم يدع يومًا إلى تطرف أو عنف، ورسم الطريق إلى هداية المجتمع من أول يوم عرفناه فيه(محيي الدين عيسى- إخوان أون لاين).

أحداث سبتمبر 1981م

وعندما بويع الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله تعالى مرشداً ثالثاً للجماعة، كان الشيخ مصطفى من أقوى أعوانه، وكان يعمل مع لفيف من الإخوان الكرام لتأسيس التنظيم وتثبيت أركانه عبر مؤسسات تصمد في وجه الأعاصير.

وقبيل أحداث سبتمبر 1981م التي اعتقل فيها السادات عدداً من قيادات القوى السياسية في مصر، سافر الشيخ مصطفى مشهور  إلى الكويت، وبعد مقتل السادات، أدلى بتصريح قال فيه: (ليس لنا أي دور في مقتل السادات، فنحن كما قال المرشد الثاني رحمه الله: دعاة لا قضاه، ونحن لم نستعمل القوة والعنف في حياتنا، وسبيلنا إلى الناس دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومع ذلك، اعتقلوا منا بضعة آلاف).

ثم سافر الأستاذ إلى ألمانيا، واستقر فيها خمس سنوات كانت عملاً دائباً في التخطيط للجماعة بروح متفائلة، وعقل متفتح.

وفي ألمانيا استطاع و إخوانه أن يرسوا دعائم التنظيم الدولي (التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين).

كما اهتم بقضية وحدة العمل الإسلامي في القطر الواحد على قاعدة يعاون بعضنا بعضاً فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.

العودة إلى الوطن

وبعد وفاة المرشد الأستاذ التلمساني، عاد الشيخ مصطفى إلى القاهرة عام (1986م)، وتسلم منصب نائب المرشد العام (كان المرشد العام الأستاذ محمد حامد أبو النصر) وكان الأستاذ مصطفى مشهور الساعد الأيمن له، ومعه ثلة طيبة من إخوانه أعضاء مكتب الإرشاد .

وبعد وفاة المرشد الأستاذ حامد أبو النصر في 20 يناير 1996م، تم اختيار الأستاذ مصطفى مشهور مرشداً عاماً جديداً لمدة ست سنوات، ثم جدد انتخابه مرة ثانية في فبراير 2002م لمدة ست سنوات أخرى، حسب أنظمة الجماعة.

رجل الإخوان القوي

عاصر الأستاذ مصطفى مشهور عن قرب جميع قيادات الإخوان. عاش بالقرب من مؤسس الجماعة حسن البنا، وكان شاهداً على مولدها وأحد الرموز التي نشرت أفكارها. وكان بالقرب من مرشدها الثاني الإمام حسن الهضيبي الذي خلف البنا بعد اغتياله.. وهذه الفترة في حدّ ذاتها كانت مليئة بالأحداث الجسام.

الشائع عن مصطفى مشهور أنه رجل الإخوان القوي، ويبدو أن قوته تنبع من التزامه الشديد بمبادئ الجماعة ومواقفها.. فهو لا يعرف فيها مجاملة ولا مهادنة. وهو من القلائل الذين تزعموا – داخل السجون – القطيعة الكاملة مع الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، ورفض أن يرسل له برقية تأييد.

وعندما تسلم الأستاذ مصطفى مشهور منصب المرشد العام، تابع المخطط الذي رسمته الجماعة، وعمل بجد واجتهاد لتنفيذه، وقد لجأ إلى التحالفات السياسية مع بعض الأحزاب وخاضت الجماعة الانتخابات البرلمانية والنقابية، وحققت نجاحات كبيرة.

ولقد غدت الجماعة في عهده المعارضة الأولى في البرلمان المصري، وحققت صموداً عجيباً، بل وحققت معجزة الانتصار على محاولات الإفناء والتغييب، ولم تكتف الحركة بالمحافظة على بقائها في ظروف صعبة تمثلت في عداء نشط من قبل الأجهزة الأمنية والدولة، ومن المناخ العالمي، بل تفوقت كذلك على كل منافسيها، بحيث أصبحت الحركة السياسية الأولى في البلاد.

والذي يطالع الرسالة التي بعث بها الأستاذ مصطفى مشهور إلى الرئيس الأمريكي بوش الابن، بعيد انتخابه، يعرف أي رجل كان هذا الشيخ.

لقد اتسم عهده بالعقلانية المفرطة في ابتعاده عن أي صدام مع الدولة، مهما بلغت تجاوزات الحكومة والأجهزة الأمنية، كان دائماً يرفض الاستدراج إلى المواجهة الشاملة، وعده بعض المفكرين السياسيين، أفضل عهود الحركة، فلم يعد الإخوان حركة هامشية على الساحة السياسية.

إنه سياسي محنك، و داعية حكيم يضبط نفسه و نفوس إخوانه، مع أنه كان في خط المواجهةالأول، منافحاً عن مبادئه و جماعته باليد والقلم واللسان.

ويتساءل الأستاذ المرشد، هل سيظل الإخوان يتلقون الضربات ويتجرعون المحن دون رد أو مقاومة؟

يقول: ولعله من المفيد قبل الرد على هذا التساؤل أن نرجع إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنجد فيها الإجابة الواضحة، فقد تعرَّض عليه الصلاة والسلام هو والمسلمون معه إلى الإيذاء والتعذيب الشديدَيْن من المشركين في مكةَ، وكان يمرُّ على آل ياسر، وهم يعذبون ويقول لهم: صبرًا آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة، وقد صبروا حتى استشهد ياسر وزوجته سمية رضي الله عنهما تحت التعذيب.

ولم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحدًا من المسلمين برد العدوان والإيذاء بالقوة في ذلك الوقت؛ لأن أي محاولة من ذلك القبيل لم تكن لتوقف العدوان، بل من شأنها أن تصعده وتصل به إلى البطش الشديد الذي يقضي على المسلمين، وهم لا زالوا قلة.

وتروي لنا السيرة أنه لما اشتدَّ الإيذاء على بعض المسلمين قال أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تستنصر لنا؟.. فظهر الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه، فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه.. ثم بشَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمام هذا الأمر فقال: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).

كان في إمكانه صلى الله عليه وسلم أن يأمر بعض المسلمين بقتل أئمة الكفر كأبي جهل أو أبي لهب أو بتحطيم الأصنام أو بعضها، ولكنه لم يفعل لما سبق أن ذكرنا، ولم يعتبر ذلك موقفًا سلبيًّا منه؛ لكنه الحكمة ومصلحة الدعوة اقتضت ذلك، فليس الهم والقصد إيقاف الإيذاء الذي يقع على المسلمين، ولكن القصد هو تبليغ دعوة الله وتكوين القواعد التي سيقوم عليها صرح الدعوة والدولة الإسلامية.

كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الإيذاء والابتلاء ليس أمرًا طارئًا غريبًا على طريق الدعوة يلزم التخلص منه وإيقافه في الحال، ولكنه سنة الله في الدعوات لحكمةٍ ساميةٍ هي التمحيص والصقل وزيادة الإيمان؛ لأن أمانات النصر ثقيلة ولا يقوى على تحملها وحسن أدائها إلا هذه النوعيات الممحصة بحيث لا تفتنها دنيا ولا تثنيها شدة.

ثم إننا نجد بمتابعتنا للسيرة بعد الهجرة، وعند بدء تكوُّن قاعدة انطلاق المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُفكِّر في مواجهة المشركين بالقوة، فعند خروجه إلى بدر خرج لقافلةِ التجارة وليس للحرب، ولكنَّ الله تعالى أراد أن تكون ذات الشوكة بعلمه وتقديره، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقف تحت العريش يدعو ربه ملحًّا في الدعاء حتى سقط البرد من على كتفيه ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصبة فلن تُعبد في الأرض.

ومعنى ذلك أنه ما زال بتقديره البشري مشفقًا على مجموعة المؤمنين أن يُقضى عليهم في تلك الحرب وهم قلة فتتوقف مسيرة الدعوة، لكن كان في تقدير الله النصر للمؤمنين والهزيمة النكراء لأعداء الله، وكانت بدر فاصلة بين فترة الإيذاء والاستضعاف وفترة النصر والتمكين.

وهكذا نرى أن البدء في رد عدوان أعداء الله لا بد له من توفر ظروف وملابسات تجعله مناسبًا، وأن أي محاولة قبل ذلك لا تؤمن عواقبها، وتكون في غير صالح الدعوة التي هي القصد وليس أشخاص المعتدى عليهم.

قال تعالى: (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ( يوسف-21).

هل هو خطأ القيادة؟

وفي جو المحن ومع طول أمدها يتهيؤ الجو لتساؤلٍ آخر، وربما يُثيره البعض كتشكيكٍ وهو: هل هذه المحن والضربات نتيجة أخطاء وقعت فيها القيادة؟ وهل من الممكن تفاديها؟

ونعود أيضًا إلى السيرة لنجد فيها الإجابة فنجد أن ما تعرَّض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من إيذاء وتعذيب لم يكن نتيجة أخطاء وقعوا فيها، ولكنه الموقف الطبيعي لأعداء الله من دعوة الله والدعاة إلى الله، إنهم يحسون فيها الخطر على باطلهم وعلى سلطانهم القائم على البغي والظلم، ويعلمون أن في قيام دعوة الحق وانتصارها قضاء على باطلهم وهزيمة لهم، فهم لذلك يحاربونها ويحاولون القضاء عليها قبل أن تقضي عليهم؛ لكنهم يفشلون في ذلك لأنها دعوة الله ونور الله، ولن يطفئ نور الله بشر (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف-8).

القيادة اجتهدت وسعيها للخير

ولكن أعداء الله حينما يحاربون دعوة الله لا بد، وأن يقدموا لجمهور الناس أو للرأي العام مبررًا زائفًا يستندون إليه في حربهم واعتدائهم، فيلصقون التهم الباطلة بالدعاة إلى الله، كما قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كاذب وساحر وكاهن وشاعر ومجنون، وأنه بدعوته وبدينه يفرق بين المرء وأهله إلى غير ذلك.

وكما سبقهم فرعون والملأ حوله باتهام موسى وقومه بالإفساد في الأرض، وكما حدث في عصرنا هذا بأن اتهم أعداء الله الإخوان والدعاة إلى الله بالتطرف والإرهاب والتستر وراء الدين للتسلق إلى الحكم.

وكما افتعلوا الأحداث كمبررٍ لضربهم كتمثيلية محاولة قتل عبد الناصر في الإسكندرية، إلى غير ذلك من أساليب التضليل والتشكيك والتشويه، ولكن نور الحق أقوى وأسطع من أن تحجبه هذه التهم الباطلة، كما يحلو لبعض من تقصر همتهم عن مواصلة المسيرة نتيجة لهذه الضربات والمحن أن يعودوا باللائمة على القيادة، وأنها التي تسببت في هذه المحن نتيجة أخطاء وقعت فيها، وهذا غير الواقع، وكما أنه لم يكن في استطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفادى وقوع الإيذاء والتعذيب عليه وعلى المسلمين معه إلا إذا تنازل عن كثيرٍ مما يدعو إليه مما يُثير الأعداء ويقلقهم، وخاصةً الدعوة إلى إلهٍ واحدٍ وترك هذه الأصنام، وما كان له صلى الله عليه وسلم أن يتنازل عن شيء من ذلك والله يدعوه: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف (43-44)).

وبالتالي لم يتوقف اعتداء أعداء الله وإيذاؤهم له وللمسلمين حتى تحقق النصر، ولا نعني بذلك أن الإخوان وقيادتهم معصومون من الخطأ، ولكن يجب أن نُفرِّق بين أخطاء جزئية أو فردية لا تخلو منها جماعة أو حركة حتى الجماعة الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن نرجع المحن في أصلها إلى أخطاء من القيادة، أو أنه كان من الممكن تفادي المحن بتفادي الأخطاء، فهذا التصور هو عين الخطأ .

الأستاذ مصطفى مشهور مع بعص الأخوة

بين الدعوة والسياسة

لم تشغله السياسية عن الدعوة و التربية، فقد كان يكتب في هذه المجالات كلها، ويصول ويجول في ميادينها بحنكة تدل على تجاربه العميقة في هذه المجالات التي كان يوازن بينها، بحيث لا تطغى إحداها على الأخرى، وإن كان العمل التربوي هو المقدم عنده، لأنه أمضى سنوات مديدة مع طلبة الجامعات، يربيهم ويغرس الإيمان والتضحية والبذل في نفوسهم، ليكونوا مؤهلين لتسلم العمل المناسب لكل منهم، وليكونوا قادة المستقبل وحملة الراية من بعد.

كان يعتبر تغليب العمل السياسي على العمل الدعوي و التربوي انحرافاً عن مسار الجماعة نحو أهدافها وغاياتها، مع أن العمل الدؤوب لإقامة الدولة التي تحكم بما أنزل الله، لم يغب عن باله قط.

كان يؤمن بفكرة الجماعة إطاراً تنظيمياً شاملاً يتم من خلاله ممارسة دعوة الإخوان المسلمين بجوانبها وأبعادها المختلفة، وإن وجود الجماعة على هذا النحو يوجبه الشرع الإسلامي.

أما الحزب فهو مجرد أداة متخصصة بالعمل السياسي.. نحرص عليها، ولا نرى الحزب في أي وقت بديلاً عن الجماعة.

الشارح الأول لمبادئ الدعوة

لقد كان الشيخ مصطفى مشهور صاحب مدرسة فكرية وسياسية ودعوية تحتاج إلى دراسة دقيقة لاستخلاص عناصرها ومقوماتها وما فيها من دروس وعبر.

إن من يقرأ كتب ومقالات الأستاذ مصطفى مشهور، يتوقف أمام فكرة أساسية هي: المضي في طريق الدعوة مهما كانت العقبات، وامتزاج شخصية الداعية بها، وتغلغلها في أعماقه، حتى لقبه البعض بالشارح الأول لمبادئ دعوة الإخوان المسلمين، ولقد احتلت فكرة ضبط الدعوة بأصولها، ووزنها بميزان مبادئها، حيزاً كبيراً في فكره وكتاباته، وكان أبرز ما شغله في حياته، التوازن بين الدعوة في حركتها العامة، وخاصة على صعيد العمل السياسي، وبين ميدانها الأصيل وهو ميدان العمل التربوي. كما احتلت فكرة الدولة الإسلامية مكاناً بارزاً في تفكيره وكتبه، بمعناها الحضاري الواسع، ورأى أن الدولة بناء ضخم يحتاج إلى أساس عريض وعميق ومتين، وبالتالي يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، على اعتبار أن الأساس أشق مراحل البناء، وكان دائماً يردد: لا نريد لبنائنا أن يقوم ثم ينهار. ومن هنا يمكن فهم اهتمامه بالعمل البرلماني وقضية الانتخابات، وكذلك العمل النقابي الخدمي والخيري، باعتبارها وسائل تعين على قيام الدولة الإسلامية.

بناء الذات الإنسانية

إن بناء الذات الإنسانية المسلمة لرجل الدعوة، هي أهم وأصعب ميادين البناء، لأن بناء الرجال أشق من بناء المؤسسات.

لهذا اتجه في كثير من كتبه إلى تقوية هذه الذات، وتدعيمها، وإكسابها الصلابة، فكان كتاب عقبات في الطريق الذي تناول فيه المحن وما تتركه من إرباك للعاملين في الصف الإسلامي، ربما دفعهم للتشكك في صحة الطريق، أو رشد القيادة، ويرى أن الإيمان أهم سلاح نتسلح به، يصبِّرنا ويثبتنا ويطمئننا أن المستقبل للإسلام، فعلينا أن نصبر ونثابر حتى يتحقق وعد الله بالنصر إن شاء الله فأين فرعون وهامان؟ وأين الاتحاد السوفييتي وغيره؟ وإسرائيل إلى زوال إن شاء الله، إذا واصلنا مسيرتنا على هذا الطريق.

فالتربية، واستغلال الوقت، والمحن التي نتعرض لها، ليست ضربات معجزة أو معوقة، ولكنها سنة الله في الدعوات، في الصقل والتمحيص والتمييز بين الثابت والمنهار، لأن أهم مرحلة في الدولة المستقبلية هي أساسها، فإذا كان الأساس متيناً يعلو البناء ويرتفع، أما إذا كان ضعيفاً فسينهار، فهذه المحن للصقل والتمحيص وإعداد القاعدة الصلبة التي يثبت عليها البناء.

يجب على الإخوان ألا ينزعجوا من هذه المحن، بل يعتبرونها شرفاً، فالزمن لا يقاس بعمر الأفراد، بل بعمر الدعوات والأمم، وليس هذا بالكثير من أجل تحقيق هذا الهدف الكبير.

علينا أن نتواصى بالجيل الجديد، ونهتم به، ونورِّثه الدعوة، وندعوه لمواصلة المسيرة بالإيمان والدعاء والصبر والاحتساب والاستبشار بأن المستقبل لهـذا الدين، ونهتم بالتربية، وبالأشبـال، وبأبنـاء الإخوان، وهـذا معنى مهم جداً، فالأستاذ البنا قال: نريد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم الذي يرفض أيّ حكم يفرض عليه غير الحكم الإسلامي. إن هذا الجيل من الأشبال، وأولاد الإخوان، ربما يتحقق على يديه النصر، فعلينا أن نهتم به.

ولقد حدد الإمام حسن البنا المقومات التي يلزم توفرها في الفرد المسلم وهي: (قوة الجسم، ومتانة الخلق، وثقافة الفكر، والقدرة على الكسب، وسلامة العقيدة، وصحة العبادة، والنفع للغير، وأن يكون منظماً في شؤونه، مجاهداً لنفسه، وحريصاً على وقته).

ولقد حدد الأستاذ مصطفى مشهور بعض الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الأخ المسلم الملتزم:

* أن يقوم بواجب الشورى.

* أن يلتزم بموقف القيادة الذي تتبناه، وإن خالف رأيه.

* ألا يتأثر بما يثيره البعض من النيل في موقف القيادة.

* الاجتماع على الصواب خير من الافتراق على الأصوب.

الصحوة في العالم الإسلامي قابلها انهيار الأخلاق في العالم الغربي، ولقد دخل كثيرون في الإسلام وانتشر الإسلام في أوروبا وأمريكا، فلابد لنا أن نستبشر ونشعر بالعزة: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)( المنافقون-8).

قضية حزب الوسط

بتاريخ 3 أبريل 1996 تم إلقاء القبض على 13 شخصاً من قادة الإخوان المسلمين على رأسهم الأستاذ محمد مهدي عاكف عضو مكتب الإرشاد.. وقدموا إلى محكمة عسكرية بتهمة التحايل على الشرعية من خلال تشكيل حزب الوسط ليكون واجهة لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة. وفي 15 أغسطس 1996 أصدرت المحكمة العسكرية حكمها بسجن (7) من قيادات الإخوان المسلمين لمدة (3) سنوات، وتبرئة (5) من بينهم مؤسسو حزب الوسط. ولقد استنكرت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان. والمرشد العام للإخوان المسلمين هذه الأحكام ، باعتبار أن القضية خالية من أية جريمة أو أدلة ذات شأن(رسالة الإخوان 23/8/1996م).

أما حزب الوسط الذي تولى أمره المهندس أبو العلا ماضي فقد قال عنه فضيلة المرشد مصطفى مشهور: إنه ليس حزب الإخوان وليس واجهة الإخوان ولم ترخص به الجماعة، والذين شاركوا في ذلك الحزب أعلنوا أنهم تصرفوا من أنفسهم.

ولقد أصدرت لجنة شؤون الأحزاب قرارها برفض الحزب.. ولكن أبو العلا ماضي أعلن أنه مستمر هو ومن بقي معه من المؤسسين في مواصلة إجراءات تأسيس الحزب.. مبرراً ذلك بأنه إضافة إلى رصيد الحركة الإسلامية وليس شقاً لصفها.

ولقد أحدث تأسيس الحزب بدون مراجعة قيادة الإخوان.. ودخول أطراف متعددة على الخط بقصد تصعيد الموقف بين الحزب والإخوان.. والمقالات شديدة اللهجة التي دبجها أبو العلا ماضي وبعض زملائه والتي كانت تتلقفها الصحف في داخل مصر وخارجها والتي احتوت على الكثير من الإساءات والافتراءات على الجماعة وقياداتها.. كل هذه الأمور أسدلت الستار على هذه القضية التي توقعت الأجهزة الأمنية والحكومية أن تستمر لتتخذ منها وسيلة لتصعيد حربها على الجماعة.

الأستاذ المرشد يستقبل السكرتير الثاني للسفارة الأمريكية

استقبل الأستاذ مصطفى مشهور نائب المرشد العام في مكتبه السكرتير الثاني للسفارة الأمريكية بالقاهرة.. ودار بينهما الحديث حول اتفاق غزة – أريحا أولاً.. وعن عدم اعتراف الإخوان بوجود إسرائيل.. وحقوق الإنسان.. وسأل المسؤول الأمريكي الأستاذ مصطفى مشهور عن علاقة الإخوان مع الجماعات الإسلامية التي تمارس العنف فأجاب فضيلته:

لقد جلسنا معهم قبل عام 1981 ونصحناهم بخطأ فكرة العنف ولكنهم لم يقتنعوا فقطعنا صلتنا بهم، وعندما التقى بعض إخواننا بهم في السجون اختلفوا معهم وكان يمكن أن نؤدي دوراً لو سمح لنا بممارسة نشاطنا القانوني في الندوات والمحاضرات والصحف، وظاهرة العنف ليست مشكلة إسلامية فقط وإنما لها جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية.

البعض يتخيل أن بيننا وبين الجماعات المتطرفة تنسيق وتوزيع أدوار وهذا غير صحيح وقد خطأناهم في الماضي(أكتوبر 1993م).

الرحيل

دخلت عليه ابنته في غرفته قبيل العصر فرأته مرمياً على الأرض في غيبوبة ما لبث أن أفاق منها، وقام ليتوضأ، رجته ابنته أن يشفق على نفسه ويصلي العصر في البيت، فأبى وخرج إلى المسجد، وبعد صلاة العصر أصيب بجلطة دماغية ألقته أرضاً، ليدخل في غيبوبة استمرت سبعة عشر يوماً، حتى وفاته يوم الخميس 9 رمضان 1423هـ الموافق 14 نوفمبر 2002م.

شيع جثمانه الطاهر عقب صلاة الجمعة من مسجد السيدة رابعة العدوية بمدينة نصر في القاهرة .

صلت عليه جموع غفيرة، أمهم المستشار محمد المأمون الهضيبي، ثم حمل جثمانه في صندوق خشبي متواضع، وسار خلفه المشيعون، وكانوا مئات الآلاف وصل تقدير بعضهم إلى نصف مليون، وقال آخرون: كانوا مليوناً يسيرون في موكب مهيب، يبكون في صمت وحزن وخشوع.

وشارك في التشييع عدد من رؤساء الأحزاب المصرية، وأساتذة الجامعات، والعلماء، والشخصيات الاعتبارية، وأعضاء مكتب الإرشاد، ونواب الإخوان في البرلمان، وكان حضور الصحافة العالمية كبيراً.

وكان شباب الإخوان يرفعون المصاحف إلى الأعلى من حين خروج الجنازة من المسجد إلى أن ووري في مثواه الأخير، وفي مقابر (الوفاء والأمل) التي تضم جثماني المرشدين السابقين التلمساني وأبي النصر، رحمهم الله رحمة واسعة، وقد استغرقت الجنازة مدة ساعتين من المسجد حتى القبر.

وألقى المستشار الهضيبي كلمة وداع ووفاء على قبر الفقيد الغالي.

وفي المساء تقبل الإخوان العزاء الذي حضره عشرات الآلاف، تحدث الأستاذ مأمون الهضيبي عن مسيرة المرشد الفقيد في ميادين للعمل الدعوي طوال خمسة وستين عاماً، تحدث عن نضاله وعن فترات السجن الطويلة، وما لقي فيها من ألوان العذاب، كما تحدث عن جهوده في إعادة الجماعة إلى الحياة، وتعاونه مع الأستاذ عمر التلمساني في سبيل ذلك.

وفي قصيدة نظمها الشاعر الكبير د. جابر قميحة قال فيها:

وسألت مات؟ فلم يجبني من أسى            أحد وقد علت الوجوه كـسور

عجبًا!! ولكن كيـف تـجـمعوا              عجبًا!! وإن نشاطهم محظور؟

لا تعجـبوا، فالله جـمَّع جـنده              والحظر محظور هنا مقهـور

يكفيك في التـاريخ أنـك مرشد              يكفيك أنك مصطفى مشـهور

أهم مؤلفاته

1- طريق الدعوة.

2- زاد على الطريق.

3- تساؤلات على طريق الدعوة.

4- الحياة في محراب الصلاة.

5- الجهاد هو السبيل.

6- قضية الظلم في ضوء الكتاب والسنَّة.

7- القائد القدوة.

8- التيار الإسلامي ودوره في البناء.

9- القدوة على طريق الدعوة.

10- قضايا أساسية على طريق الدعوة.

11- من التيار الإسلامي إلى شعب مصر.

12- وحدة العمل الإسلامي.

13- طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف.

14- مناجاة على طريق الدعوة.

15- بين الربانية والمادية.

16- مقومات رجل العقيدة.

17- الإيمان ومتطلباته.

18- الدعوة الفردية.

19- من فقه الدعوة (جزءان).

20- الإسلام هو الحل.

 

 

 

 

مع الأستاذ عمر عبد الفتاح التلمساني

بقلم: مصطفى محمد الطحان

هو المرشد الثالث بعد الإمام المؤسس حسن البنا والإمام حسن الهضيبي.. وبعدهما جاء الأستاذ عمر التلمساني مرشداً عاماً للإخوان المسلمين.

والأستاذ عمر.. هادئ الطبع، لين الكلمة، رقيق المشاعر، إذا قرأت كتبه وجدت عجباً، كيف ينفذ هذا الرجل بالكلمات الهادئة فتصنع بك أكثر من الخطب الحماسية.. كأنها الإعصار الصامت الذي لا تحسّ له أثراً إلا في نفسك وقلبك.

الأستاذ عمر التلمساني

أول مرة التقيته كانت في مصر في المركز العام للإخوان المسلمين.

كان يجلس على منضدة صغيرة.. ويجلس على منضدة مثلها الأستاذ صلاح شادي.. كانا يعملان في تحرير مجلة الدعوة.

جلست إليه، وتحدث معي حديثاً عاماً فلم يكن يعرفني.. صليت معه العصر في غرفة متناهية في الصغر.. بالكاد تتسع لثلاثة مصلين.. هذه هي كل مسافات المركز العام.. غرفتين صغيرتين ومصلى صغير.

 

من هذا المكان الصغير.. كانت تخرج مجلة الدعوة الناطقة باسم الإخوان المسلمين قوية بكلماتها.. صادقة في لهجتها.. تفعل فعل السحر في نفوس قرائها.

 وبعد صلاة العصر اصطحبني إلى مكتب المحامي شوكت التوني الذي كان يتابع الدعوى التي رفعها الإخوان على الدولة.. فقد كانت الدولة تدعي أن مجلس قيادة الثورة قد حلّ جماعة الإخوان.. وقال القضاء انه ليس لهذا الادعاء صحة.. ومع ذلك فمازالت الجماعة محظورة!!

في السيارة الصغيرة التي كانت تقلنا.. قال لي: لقد كنت أجد في المعتقل وقتاً أنام فيه.. وللأسف فلم أجد مثل هذا الوقت في هذه الأيام.

ولد الأستاذ عمر في عزبة التلمساني بناحية نوى من أعمال مركز شبين القناطر محافظة القليوبية بمصر عام 1904م. ونشأ في بيت واسع الثراء، فجده لأبيه من بلدة تلمسان غرب الجزائر، فقد هاجر أحد أجداده إلى القاهرة عام 1830م، وكان جده ووالده يعملان في تجارة الأقمشة والأحجار الكريمة.. ثم أنهيا تجارتهما واتجها إلى الزراعة، واستقرا في قرية نوى التابعة لمركز شبين القناكر بالقليوبية.

 نشأ الأستاذ عمر في أسرة كريمة تتمسك بالدين والفضائل، وكان جده سلفي النزعة، طبع كثيراً من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب على نفقته الخاصة. تلقى دراسته الابتدائية في الجمعية الخيرية، ثم التحق بالمرحلة الثانوية بالمدرسة الإلهامية بالحلمية، وكانت أسرته قد انتقلت إلى القاهرة بعد وفاة جده.

وفي هذه الفترة المبكرة من حياته قرأ كتب الأدب الشعبي من أمثال: سيرة عنترة بن شداد، وسف بن ذي يزن، وطالع كل ما كتبه المنفلوطي، وإلى جانب ذلك حفظ القرآن الكريم، وقرأ كثيرا من أمهات الكتب العربية مثل: تفسير القرطبي والزمخشري وابن كثير وطبقات ابن سعد ونهج البلاغة والعقد الفريد لابن عبد ربه وصحيح البخاري ومسلم، كما طالع العديد من كتب الأدب العالمي.

ولعل هذه الثقافة المتنوعة هي التي طبعت شخصية التلمساني، ووسعت أفقه ونظرته في الحياة، وأرهفت حسه ومشاعره، وأنضجت خبراته ومعارفه.

ويصور هو شخصيته فيقول: كنت بحبوحاً أحب النكتة البريئة والقفشة الرقيقة، متسامحاً مع كل من أساء إليّ بالقول أو العمل، وأتركه إلى الله، وما كنت أحب إحراج محدثي أو أقنعه بأن الحق إلى جانبي إذا ما ألفيته متعصباً لرأيه.

وفي سن الثامنة عشرة تزوج الأستاذ عمر التلمساني، وهو لا يزال طالباً في الثانوية العامة، وظل وفياً لزوجته حتى توفاها الله في أغسطس عام 1979م.

وفاته

توفي الأستاذ عمر التلمساني في 22 مايو 1986 عن عمر يناهز 82 عاماً. صلّي عليه بجامع عمر مكرم بالقاهرة.. وكان تشييعه في موكب شارك فيه أكثر من نصف مليون نسمة.. وحضر الجنازة رئيس الوزراء، وشيخ الأزهر، وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية، ورئيس مجلس الشعب، وبعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية.. وممثل عن الكنيسة القطبية. وعلق صوت أمريكا على ذلك فقال: إن هذه الجنازة أظهرت قوة وفعالية التيار الإسلامي في مصر خاصة وإن أغلبية من حضروا كانوا من الشباب.

جنازة الأستاذ عمر التلمساني

لقد عاش شيخ الإخوان في شقة متواضعة جداً.. في حارة المليجي الشعبية القديمة في حي الظاهر بالقاهرة وفي زقاق ضيق وسلم قديم متداع، وكان أثاث الشقة غاية في البساطة، برغم أنه ينحدر من أسرة غنية لها مكانتها الاجتماعية المتميزة.. ولكنه زهد الصالحين من أمثال أبي بكر الصديق وعمر التلمساني رضي الله عنهما.

عندما انتخب الأستاذ عدنان سعد الدين مراقباً عاماً للإخوان في سوريا، جاء إلى الكويت، وفي طريقنا إلى المطار ذكر لي: إننا لن نترك النظام السوري يتحكم برقاب العباد وخاصة الإسلاميين منهم.. وعندما استفسرت منه عن الجهة التي ستساعد الإخوان.. قال: العراق.

وعندما سافر أرسلت شخصاً إلى القاهرة ليطلع الأستاذ عمر التلمساني على هذه المأساة التي تنتظر الإخوان في سوريا.. فلم يكن في معلوماتنا أن الإخوان يحملون السلاح لإسقاط الأنظمة..

واهتم الإخوان في مصر للأمر، وأرسلوا رسولاً إلى عدنان سعد الدين وكان في هذا الوقت في الإمارات.. فأنكر الأمر وقال: إنه لم يرني منذ فترة طويلة.

وجاء الأستاذ عمر إلى الكويت وسألني عن الأمر.. وقال: سألنا الأستاذ عدنان ونفى الحديث وقال: أنه لم يرك منذ مدة طويلة.

قلت: على كل حال، لقد قمت بواجبي.. وأنتم المسؤولون بعد ذلك.. نظر إليّ الأستاذ عمر وقال: صدقت وكذب.

وكان الأمر كما نطق الأستاذ عمر.. فالصالحون ينظرون بنور الله.

وفي مرة أخرى التقيت مع الأستاذ الجليل عمر التلمساني في مدينة لاهور في مؤتمر إسلامي جمعيت الطلبة.. وهو مؤتمر حاشد حضره عشرات الألوف من الطلبة الباكستانيين.. وعندما تحدث الأستاذ عمر علت الهتافات: الله أكبر ولله الحمد.. الله غايتنا، الرسول زعيمنا، القرآن دستورنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.. كان الاحتفاء بإخواننا عمر التلمساني ومصطفى مشهور احتفاء منقطع النظير.. هي دعوة واحدة.. من مشكاة واحدة.. تنتسب إلى مصدر واحد وإلى زعيم واحد. بعد اللقاء الحاشد.. وفي اليوم التالي.. تجدد اللقاء مع الأخوين عمر التلمساني ومصطفى مشهور مع الطلبة العرب في اتحاد الطلبة المسلمين وكان حديثاً كريماً شيقاً مشبعاً بالإيمانيات التي يملك منها أستاذنا الشيء الكثير.

في باكستان.. وكانت الدولة الأكثر اهتماماً بالقضية الأفغانية.. قمنا بزيارات ميدانية لمعسكرات المجاهدين في منطقة قريبة من بيشاور.. وعلى الرغم من شيخوخته فقد كان مع إخوانه يتنقل ماشياً بين معسكر ومعسكر.. هذا للجمعية الإسلامية.. وآخر للحزب الإسلامي.. وثالث للاتحاد الإسلامي ورابع وخامس.. وفي كل معسكر كان حديثه رائعاً.. يلتقط المناسبة.. ويعرف تاريخ الجهاد.. ويتحدث للناس حديث العارف بالتفاصيل فتقع كلماته من إخوانه موقعاً حبيباً قريباً.

الرئيس ضياء الحق

أرسل الرئيس ضياء الحق أحد إخوانه إلى الأستاذ عمر التلمساني يقول له: إما أن تأتينا أو نأتيك.. وكان خلق الأستاذ عمر الكريم وتواضعه الجم هو الذي يتكلم.. فقال: بل نحن نزور الرئيس ضياء الحق.. ومن صباح الغد ركبنا السيارات في طريقنا إلى بيت الرئيس ضياء الحق.. كان الركب يتكون من الأستاذ عمر والأستاذ مصطفى مشهور والأستاذ طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية والأستاذ خليل الحامدي رئيس دار العروبة للترجمة والنشر وكنت

معهم.. احتفى الرئيس بالمرشد العام وإخوانه احتفاء كبيراً.. وحاوره في كثير من القضايا وخاصة قضية أفغانستان.. وقضية الطلبة في باكستان فقد كانت العلاقة متوترة بينهم وبين الرئيس.. وفي ختام اللقاء ودعنا الرئيس وعدنا إلى مقر إقامتنا في فندق إنتركونتنتال في إسلام آباد.

في المساء كان عندنا حديث بالتلفزيون الباكستاني.. ورفض الأستاذ عمر أن يعمل له بعض الموظفين المكياج حتى تظهر الصورة بشكل أوضح.. وطويلاً حاورته حتى اقتنع أن هذه قضية فنية وليست قضية تجميل.. تحدث كلاماً مهماً حول دور باكستان في القضية الأفغانية وفي قضايا المسلمين.. فهي من أكبر دول العالم الإسلامي.

كان الأستاذ عمر مريضاً أجريت له عملية جراحية في ألمانيا.. وجاء إلى سويسرا ضيفاً على أخويه أبي حمزة والأخ غالب.. لقضاء فترة نقاهه، في هذا الوقت كنت في بعض بلدان أوروبا أحضر بعض مؤتمراتها الطلابية فسافرت إلى سويسرا لزيارة الأستاذ عمر المريض.. نزلت في الفندق الذي ينزل فيه.. وفي غرفة مجاورة لغرفته. كنت أدخل عليه في الصباح فأجده جالساً مقابل إحدى النوافذ.. يقول لي وهو ينظر إلى الثلج الذي كللّ بالبياض كل شيء: إني أشاهد هذا المنظر لأول مرة في حياتي.. وهذه الكلمات كانت مجرد مقدمة لأحاديث استمرت بيننا عدة أيام.

حدثني عن اسرته.. وعن اشتراكه في المظاهرات في ثورة عام 1919م يهتف بشعارات حزب الوفد.. لقد كانت ثورة حقيقية نابعة من أعماق الشعب.. كان الشعب بكل طبقاته ضد الاستعمار يرفضه ويطالب بخروجه. يقول: كنت معجباً بكل زعامات الأمة.. إلى أن تكشفت لي الحقيقة شيئاً فشيئاً.. فقد علمت كما يعلم كل المصريين أن سعد زغلول زعيم الأمة نشأ في صالون الأميرة (نازلي) وكان هذا الصالون يضم كل الأسماء اللامعة في ذلك الوقت، وكان معروفاً عن تلك الأميرة صلاتها بالسفارة أو دار الحماية البريطانية.

سعد زغلول

وحدثني عن عمله بالمحاماة بعد تخرجه من كلية الحقوق.. وأنه استمر في عمله حتى عام 1954 عندما حكم عليه بالسجن لمدة  15 سنة.. يقول: في مهنتي كنت صادقاً مع نفسي ومع الناس ومع الله والحمد لله رب العالمين.

 ثم تعود به الذاكرة إلى سنة 1933م عندما زاره في عزبته اثنان من شباب الإخوان المسلمين وسألاه: ماذا تعمل؟ فقلت لهما ساخراً: أقوم بتربية الكتاكيت، ولم يضايقهما الرد، وأجاب أحدهما مبتسماً، ولكن هناك من هم في حاجة إلى التربية أكثر من الكتاكيت.. قلت من؟ قال المسلمون..

يقول الأستاذ عمر: كانت هذه هي البداية، فالتقيت بعدها بالإمام حسن البنا في بيته المتواضع، ودار بيننا حديث عن أوضاع المسلمين.. واقتنعت بوجهة نظره.. وبعد أسبوعين تمت بيني وبينه البيعة بأن أكون وفياً لدعوة الإخوان المسلمين.. ويتابع الأستاذ عمر فيقول: لقد اخترت هذه الجماعة دون غيرها لأنه لم يكن في تلكم الأيام أية جماعة أخرى تغشى الأندية والقهاوي والمساجد والمجتمعات والجامعات تدعو إلى الإسلام.. ويتابع الأستاذ عمر فيقول: في بداية الأمر لم يكن الإنكليز والسراي منتبهين لأداء حسن البنا، وكانوا يظنونه شيخاً من مشايخ الطرق الصوفية، ولما تكشفت لهم الحقائق، وعلموا أن الإخوان المسلمين يريدون الحكم شورى بين المسلمين، ويريدون تحرير بلاد المسلمين من الاستعمار.. عندها أدركوا قوة وخطورة الإخوان.

ومنذ لحظة انضمام التلمساني إلى دعوة الإخوان المسلمين أصبح ملازماً للأستاذ البنا يتعلم منه مبادئ الدعوة، ويرافقه في سفراته إلى مختلف أنحاء القطر المصري، كما كان الأستاذ التلمساني في قلب كل المحن التي ألمت بالجماعة، وكان شاهداً على حركة الجماعة في مدها وجزرها.

وبعد وفاة الأستاذ حسن الهضيبي ونائبه الدكتور خميس حميدة، تولى الأستاذ عمر التلمساني في نوفمبر 1973م إرشاد الجماعة باعتباره أكبر أعضاء مكتب الإرشاد سناً، ولم يكن للجماعة وضع قانوني منذ أن عُصف بها وبفروعها، وأصبح التلمساني هو مرجع الجماعة، حيث لم يكن للجماعة تنظيم يخشاه الأمن في مصر، وكان الأمن في مصر يتعامل معه على هذا الأساس.

وحدثني الأستاذ عمر عن الثورة المصرية وعن جمال عبدالناصر.. وما اقترفته يداه بحق الإخوان المسلمين.. يقول: كانت القضية الكبرى بيننا وبينه عندما رفضنا تأييد معاهدة الجلاء التي وقعها مع الإنكليز.. كانت المعاهدة تمسّ بأمن مصر، ولا يمكن أن نوافق على ذلك.

كان عبدالناصر يعتقد أنه لن يستطيع أن يحكم مصر على طريقته، إلا إذا قضى على الإخوان المسلمين.. فلفق لهم مسرحية المنشية..

يقول محمد نجيب الذي كان رئيسا للجمهورية أيام مسرحية المنشية: أقسم بشرفي العسكري أن ما جرى في ميدان المنشية مهزلة من أولها إلى آخرها، رتبها رجل من رجال المباحث في مصر وكوفئ عليها بمنصب كبير.

وحدثني عن الاغتيالات عموماً.. وقال: لو قبلت الاغتيال لحكمت على نفسي، إذ أن معنى هذا أن من حق كل إنسان يختلف معي في الرأي أن يقتلني. الاغتيال لا يصنع التغيير، فالتغيير الحقيقي يجب أن يكون بالتوعية السليمة لا بالعنف.. ولا حرج أو ضرر إذا استغرق التغيير زمناً.. فإن حياة ألأمم ليست سنوات معدودة.

الأستاذ عمر التلمساني وعبد المعز والشهيد عبد القادر عودة وجمال عبد الناصر في الصلاة

ويتحدث الأستاذ عمر عن مرحلة السادات التي بدأت بعد موت جمال عبد الناصر الذي حكم مصر 18 عاماً، فيقول: لقد تنفس الكثير من أصحاب الرأي والفكر والعقيدة الصعداء، وخاصة من كان داخل السجون السوداء لهذا العهد، لانتهاء العصر الذي حوربت فيه الكلمة والعرض والشرف والعقل، وسحق فيه كل معارض ينبس ببنت شقة، وجرى ذلك كله تحت شعارات زائفة ترضي أذواق الحكام في دول متخلفة منها حماية مكاسب الثورة، والقضاء على أعداء الثورة.

لقد بدأ هذا العهد بمصر والسودان كيان واحد، وانتهى بمصر فاقدة السيادة على ثلث أرضها بعد أن سلمت سيناء لقمة سائغة لدولة إسرائيل.. المزروعة قسراً في المنطقة العربية كجسر للصهيونية العالمية.. ولمطامع الغرب في احتواء المنطقة العربية والإسلامية.. لقد صغّروا من حجم هذه الهزيمة النكراء فقالوا عنها نكسة.. مجرد نكسة.. وبعد 17 عاماً قضاها شيخنا التلمساني في السجن خرج مع من خرج من الإخوان بعد إعلان السادات إغلاق المعتقلات والإفراج عن المعتقلين السياسيين.. لم ينس الإخوان بالطبع أن أنور السادات كان أحد قضاة محكمة الشعب التي حكمت بالسجن والإعدام على قادة الإخوان في نهاية عام 1954م.

وتحدث الأستاذ عمر عن مجلة الدعوة.. ولقد شاركته الحديث في هذا الموضوع فقد كانت مجلة الدعوة المهاجرة تصدر من مكتبي في الكويت..

غلاف مجلة الدعوة

يصدرها الصحفي القدير الأستاذ إبراهيم المصري.. وكان الأستاذ عمر يرسل لنا مقالها الافتتاحي.. ويتابع الأستاذ عمر فيقول: إن الخلاف الحقيقي الذي حدث بين الإخوان والسادات يتعلق بزيارته للقدس واعترافه بإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني.

الأستاذ إبراهيم المصري

ولقد حدد ذهاب أنور السادات في مبادرته للقدس وتوقيع اتفاقية كامب ديفد ومعاهدة الاستسلام لإسرائيل، حدد العلاقة بينه وبين الإخوان الذي يرفضون الاستسلام للعدو على حساب شعب فلسطين.

ويتابع الأستاذ عمر فيتحدث عن الرسالة التي بعث بها ريتشارد ميتشل إلى رئيس هيئة الخدمة السرية بالمخابرات المركزية الأمريكية جاء فيها أن القوى الحقيقية التي يمكن أن تقف ضد اتفاقية السلام المزمع عقدها بين إسرائيل ومصر هي التجمعات الإسلامية وفي مقدمتها الإخوان المسلمين، وبناء على ذلك ينصح بتوجيه ضربة قوية لهذه الجماعة قبل توقيع الاتفاقية.

ويوم تحدث السادات في خطاب عام ولمز في حديثه الإخوان.. قال له الأستاذ عمر  أشكوك إلى الله.. وعندما طلب منه السادات أن يسحب شكواه.. قال له: لقد شكوت إلى عادل بيده الحكم وإليه المصير.

الأستاذ عمر التلمساني والدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق

وإذا كان لا يعرف الفضل إلا ذووه.. فلنقرأ معا شهادة الأستاذ محمد الغزالي بالأستاذ عمر التلمساني.. في مقال كتبه في مجلة الأمة (ذو القعدة 1406 هـ).. أختم به مقالتي عن الأستاذ عمر التلمساني.

 عمر التلمساني كما عرفته

كنت في شبابي أرى الأستاذ عمر التلمساني يتردد على الأستاذ المرشد العام، ويتحدث معه في شئون الدعوة، ويتزود منه بشتى التوجيهات: كان يومئذ يشتغل بالمحاماة، وله مكتبه في بلدة شبين القناطر وكان إلى جانب ذلك عضوًا في مكتب الإرشاد.

السمة العامة التي كنا نعرفه بها: وجهه البشوش وأدبه الجم وصوته الهادئ، وظاهر من حالته أنه كان على جانب من اليسار والسعة لا يسلكه في عداد المترفين، وإنما يحصنه من متاعب الكدح ومعاناة التطواف هنا وهناك، ويحفظ عليه حياءه الجم.

وقد حمل الرجل في شبابه أعباء الدعوة الإسلامية في غربتها، ورأيته يومًا ينصرف من مكتب أستاذنا حسن البنا بعد لقاء لم أتبين موضوعه، ورأيت بصر الأستاذ المرشد يتبعه وهو يولّى بعاطفة ناطقة غامرة، وحب مكين عميق، فأدركت أن للأستاذ عمر مكانة خاصة لم يفصح عنها حديث.

كان ذلك في أوائل الأربعينيات من القرن الميلادي، ولم أكن أدري ولا خطر ببالي يومئذ أن عمر التلمساني سيخلف حسن البنا، وأنه سيقود ركب الدعاة في أيام عصيبة..

محنة وقى الله شرها

واستشهد الإمام البنا سنة 1949م، واعتقل الألوف من أتباعه، وكان من قدري أن أساق إلى منفى الطور مع بضعة آلاف من الإخوان، وفي طور سيناء رأيت الأستاذ عمر التلمساني في خطواته الوئيدة ونظراته الهادئة يمشي في رمال المعتقل باسماً متفائلاً يصبّر الإخوان على لأواء الغربة وقسوة النفي، ويؤمل الخير في المستقبل.

وحدثت بيننا وبين إدارة المعتقل جفوة خطيرة، لأننا أحسسنا بأن أقواتنا تسرق، وأن تجويعنا مقصود، وبدأنا حركة تمرد كادت تنتهي بمذبحة لولا لطف الله.

ولقيني الأستاذ عمر طيب الله ثراه يقول: محنة وقانا الله شرها، إنك تصرفت بحدة الشباب ومغامرته، ورأيي أن الأمور تعالج بغير هذا الأسلوب.

وشرعت أستمع إليه وهو يشرح فلسفته في الحياة يقول: أنا أكره الظلم وأرثي للظلمة، أنا أكره أعمالهم وحسب، ولا أحقد على أشخاصهم بل أرجو لهم التوبة، وأدعو الله تعالى أن يبصرهم الحق، ويلهمهم الرشد..

ورأيتني أمام رجل من طراز فذ، تحركه في الدنيا مشاعر الحب والسلام، وكأنما فيه قال الشاعر:

أنا نفس محبة كلَّ نفس          كلَّ حيّ، حتى صغير النبات..!!

من شمائله

كان عمر التلمساني يكره الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ويؤثر العزلة، ويرى أنسه في الانقطاع إلى الله، ولم يكن رذائل الرياء والتطلع تعرف طريقا إلى فؤاده، وربما استفاد من مهنته – المحاماة- أن يعرض قضيته بوفاء وشرف، وأن يدع القضاء بعد ذلك يصدر حكمه، فإن كان له رضي، وإن كان ضده قرر أن يستأنفه ليعيد الشرح والإيضاح، وهكذا فعل في قضية الإسلام كله عندما كُلّف بالدفاع عنها أمام الجاهلين والجائرين، كان يلوذ بالنفس الطويل والصبر الجميل، ويحاول بالإقناع المتكرر أن يبلغ هدفه.

وخلال النزاع المحتدم تراه طيب النفس، بادي السماحة، يرمق خصوم الحق وهو يردد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).

الأستاذ عمر التلمساني الزاهد العابد في منزله

ومات حسن البنا، ومات بعده حسن الهضيبي، وشغر المنصب الكبير، وشعرت القافلة المحزونة بأنها تتحمل الكثير في سبيل الله، قتل والله رجال أكابر طالما باتوا لله سجدا وقياما، وطاحت هامات قضاة ودعاة وشيب وشباب كانوا زينة المحافل.. وعشش في السجون آباء تركوا بناتهم في أعمار الورود، فلما خرجوا كانت البنات قد تزوجن: ويا هول ما نزل بضيوف السجن من عذاب: لقد استقدمت كل وسائل التعذيب التي استخدمها ستالين وهتلر حديثا، وفراعنة الشرق والغرب قديماً، فمات من مات وهو يرى في الموت راحته، على نحو ما قال أبو الطيب:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا       وحسب المنايا أن يكن أمانينا

وأما من تخطته المنون لأمر ما فقد عاش مقتول الروح كسير الفؤاد غريبا على الدنيا..

نحتسب ما أصابنا..

وفي وسط الأنواء العاصفة قيل لعمر التلمساني: احمل العلم قبل أن يسقط.

وغضب لفيف من الناس لهذا التكليف، لماذا؟ قالوا: في غمرات المحن التي أصابتنا، وأصابت عمر التلمساني معنا، مات جمال عبد الناص الآمر بكل ما قاسينا من مصائب، وتنفس الصعداء كثير من السجناء، ولكن الخبر لما بلغ الأستاذ عمر التلمساني قال: مات؟ انتهى؟ ذهب إلى الله! الله يرحمه..!!

وتصايح الإخوان في غضب: ماذا تقول؟ وبم تدعو؟ كيف يرحم الله قاتل العشرات، وجلاد الآلاف، وقاهر الجماهير، ومزهق كرامتها ورجولتها؟؟

زينب الغزالي وحميدة قطب ومحاكمات 1965

بيد أن عمر التلمساني قال: نحتسب ما أصابنا في سبيل الله، ولا داعي للشماتة..!!

ورأيي أن عمر التلمساني كان صادقاً مع طبيعته، وكأنما كان اختبارا إلهياً أخيرا للقوى المعادية للإسلام، فإن من أبى التفاهم مع الرجل، ورفض لقاءه وأصر على حرب الدعوة وأهدافها النبيلة كما شرحها المرشد الثالث فلن تكون له عند الله وجاهة ولن تنهض له حجة ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)( الشورى- 16).

وذهبت إلى الأستاذ عمر التلمساني لأتعاون معه على خدمة الإسلام، فقال لي: تعلم أن هذا عبء تحملته برغمي، وقبلته وأنا كاره، قلت: أعلم ذلك، قال: والله لو وجدت من يريحني منه ما ترددت في تركه له. قلت: أعلم ذلك. ومن أجل ما أعرفه عنك جئت إليك وأنا موقن بأن الله سيؤيدك، فأنت ما سعيت إلى صدارة ولا تطلعت إلى إمارة، ومثلك جدير برعاية الله وتسديده.

قال: لست داعية حرب ولا ذلك من شيمي، ولا تعلمت هذا من حسن البنا.. سأجتهد في جمع فلول الإخوان بعد المحن الرهيبة التي وقعت بهم، وسأعتمد على الله في تكوين قاعدة شعبية عريضة تحيا بالإسلام.. وتكون صورة وضيئة له.

صنفان

وكان يزعجه صنفان من الناس.. الأول: الساسة الضائقون بدين الله النافرون من تعاليمه، وموقفه منهم رحمه الله التريث والمهادنة وإسداء النصح بأدب، وعندما أحرجه أنور السادات قال عمر التلمساني: إذن أشكوك إلى الله، ولما رد عليه السادات: اسحب هذا الشكوى – ولا أدري أكان جاداً أم هازلاً؟- قال له: إنني أشكوك إلى الله وهو عادل..!

الحق أن عمر التلمساني كان ملكاً كريما في إهاب بشر أرهقته السنون، وأن الذين أبوا من الساسة المحترفين أن يستمعوا إليه لم يكونوا من أهل الإسلام، ولا من بغاة الخير لأمته.. 

أما الصنف الثاني: فهو الشباب الشديد الحماس، القليل التجربة، الراغب في الاستشهاد ولما يتهيأ الميدان له بعد.

كان الأستاذ عمر شديد الحنو على هؤلاء الفتية، شديد الرغبة في المحافظة على حياتهم وتجنيبهم معارك لا يستفيد منها إلا أعداء الإسلام..

وهو يرى- والحق معه- أن نفرا من الساسة يدور في فلك إحدى الجبهتين العاملتين المتنافستين.. وكلتاهما تكره الإسلام وتكيد له، وكان رحمه الله يكره تمكين هذا النفر من البطش بالإسلاميين لحساب سادته الدهاة المستخفين، ويقول: لا معنى لتكثير الضحايا، والزج بالإسلام في معارك خاسرة..!

وأذكر أنه عندما وقعت فتنة الزاوية الحمراء ذهبنا إلى وزير الداخلية الأسبق، أنا وعدد من رجال الجمعيات الإسلامية، وعلى رأسنا الأستاذ عمر، وكنا غضابا لما وقع على المسلمين من عدوان.. وقال لنا الوزير: عاونوني على إطفاء الفتنة، ولكم ما تطلبون بعد إخمادها.

وشاء الله أن تثمر جهودنا في إعادة الاستقرار إلى المنطقة، وألقيت كلمة في الحفل الذي أقيم عند وضع الحجر الأساسي للمسجد جلوت فيه طبيعة الإسلام في أمثال هذه الأحداث.. وقد لاحظت أن ناسا مُريبين كانوا يشتهون إلصاق التهم بالمسلمين.

والغريب أن هؤلاء الناس أنفسهم حاولوا في فتنة فرق الأمن المركزي أن يختلقوا أمورا لا أصل لها البتة كي يجعلوا المتدينين مسؤولين عن تعكير الأمن.

قال لي الأستاذ عمر: إنني حريص على حماية الدعوة من أولئك الذين يتلمسون العيوب للأبرياء، حريص على حماية الشباب المؤمن من أن يُقاد إلى السجون ويتعرض للتعذيب كي تُثبت عليه تهم باطلة.

وعلى أولئك الشبان الطيبين أن يضبطوا حماسهم حتى لا يمكنوا الأشرار منهم، إن سذاجتهم قد تكون مزلقة لهم إلى ما نكره.

رحم الله عمر التلمساني، ورضي عنه، ورزق جماعته من يفيد التجارب  ويبذل للناس وده وبشاشته وطيبة قلبه.

ما أحوج أمتنا إلى ذوي القلوب الكبيرة والنفوس المطمئنة، وإلى التوكل على الله والنفور من الحزازات.

توفي المرشد العام عمر التلمساني، وفي ذكرى وفاته كتب عنه رفيق دربه الشيخ محمد عبد الله الخطيب فقال:

الأستاذ محمد عبد الله الخطيب

في مثل هذه الأيام من عام 1986م.. سكت الصوت الجريء في الحق، الصوت القوي الصريح المؤدب.. فقد غادر المرحوم الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام للإخوان المسلمين هذه الدنيا الفانية، ولحق بالرفيق الأعلى، عن عمر يناهز 82 سنة.. وهو أحد رجال الرعيل الأول من الإخوان، ومن الذين رصدوا حياتهم لدعوة الإسلام، وعاشوا بها ولها.. ومن الذين حملوا الأمانة بصدق، وتعرضوا لأبشع ألوان التعذيب والتشريد والسجن لمدد طويلة.. ولقد أخذ نفسه بالعزيمة، كشأن أصحاب الدعوات دائماً، وظل حارسا وفيا أمينا عليها حتى لقي ربه.. عزيزا كريما على دعوة الإسلام.

لقد حاول عمر التلمساني مع إخوانه أن ينبهوا المسلمين للكارثة التي تنتظرهم.. فأمريكا سحقت روسيا، ثم استدارت إلى تطويق العالم الإسلامي، وتصفية الحساب مع المسلمين، سواء في آسيا أو في أفريقيا، وبخاصة مع الحركات الإسلامية الداعية إلى الله، والبعيدة عن العنف أو الإرهاب.. لكن المسلمين لم يسمعوا إلا من رحم الله.. ولقد نادى رحمه الله بترك كل أطروحات السلام.. وذكّر كثيرا بأن هذه الشعارات ما هي إلا أوهام وسراب يتوهمه البعض، ويظنون أنها يمكن أن تحقق لهم شيئاً، وهي في المحصلة تكريس للوجود الصهيوني، واعتراف بشرعيته.. وأكد دائما أن الطريق الوحيد لتحرير فلسطين والأقصى الأسير والقدس يتمثل في اتحاد الأمة الإسلامية التي تعلن الجهاد في سبيل الله، رداً للعدوان وحفاظا على وجودها وكيانها.. وكان يحث دائما على ضرورة إعداد الجيل المسلم ليكون بمستوى التحدي لهذه الهجمة الشرسة على الأمة كلها.. وما قاله بالأمس القريب تحقق اليوم.. فها هي يهود تضرب بكل القيم وبكل المعاهدات عرض الحائط.. وتمضي في غيها، تبني المستوطنات، وتطارد أهل الديار، تقتل وتسجد وتعذب كيف شاءت.. ولا حول ولا قوة إلا بالله(رسالة الإخوان 4/6/1999م).

ويتساءل الأستاذ عمر التلمساني: لماذا قتلوا حسن البنا؟ فيقول:

ألأنه أسس ألفي شعبة في القطر المصري كله كانت كل واحدة بمثابة مدارس للوطنية والجهاد والكفاح، وكانت إحياء للرجولة والفتوة وتنويرا للأذهان بحقيقة ما يدور في الموقف السياسي، فربت جيلا جديدا يلتهب وطنية وحماسا وعلى أتم استعداد لبذل روحه وماله وكل ما يملك في سبيل الدفاع عن وطنه وكرامته.

ألأنه انضم تحت لوائه خمسة وسبعون ألف جوال نظفت الشوارع، وأعدت فوانيس الإضاءة وعملت مجالس مصالحات للمتخاصمين وشجعت الشباب على خدمة وطنهم، وقوت أواصر الترابط بين ابناء القرى والمدن بعد أن عمت الخنوثة والميوعة. وعندما اشتد وباء الملاريا في الصعيد كانت جوالة الإخوان في المقدمة مع المسؤولين، وعندما اشتد وباء الكوليرا عام 1947م في الوجه البحري – وكان كثير من المسؤولين يفرون من خطر الموت- وضعت جوالة الإخوان سبعين ألفا تحت امرة المسؤولين وقد كان لدقة اتصالاتهم وسرعتهم في تبليغ الحالات وتلقي التعليمات والتوجيهات أثرا كبيرا في نجاح المقاومة ووقف تيار الوباء، وهذا ما أعلنه وزير الصحة آنذاك نجيب اسكندر.

ألأنه كان طرازاً فريدا في الوطنية وحب الوطن، لم يألفه من أبرموا مواثيق الذل وصكوك العبودية؟! ففي إبان محنة الاضطهادات والاعتقالات بعد حل الجماعة حدّث الإخوان بقصة الطفل الذي اختصمت فيه امرأتان إلى سليمان الحكيم وادعت كل منهما بنوته، فحكم بشطره نصفين بينهما، فوافقت المرأة التي لم تلده على قسمته بينما لم توافق الأم الحقيقية وتنازلت عن نصيبها في ابنها نظير أن يظل متمتعا بحياته، وكان يعقب بقوله: إننا نمثل نفس الدور مع هؤلاء الحكام، ونحن أحرص منهم على مستقبل هذا الوطن وحريته، فتحملوا المحنة ومصائبها، وسلموا أكتافكم للسعديين ليقتلوا ويشردوا كيف شاءوا حرصا على مستقبل وطنكم وإبقاء على وحدته واستقلاله.

ونختم حديثنا عن أستاذنا الكبير عمر التلمساني بهذه المناجاة:

ربي.. كيف أناجيك؟!.. بلساني.. وهو جم العثرات؟! بفمي وهو وافر الهفوات؟! بجوارحي؟! إنها كليلة قاصرة. فما حيلتي.. وهذا قدري؟ ولكني محب مستهام، أضناه طول السرى، يبغي الهدى، فهل من رضا؟! القلب تائق، والسعي موصول، وباب العطاء مفتوح، فهل من إذن بالدخول، الأمل قائدي إليك، والرجاء مبسوط بين يديك، لا استقصر الليل إذا بسطت يد الضراعة، ولا استطيل الليل إذا لج بي الشوق في حناياه، فأنت أنت القريب أقرب من حبل الوريد، أنت أنت القريب، القائم علمه بين المرء وقلبه، فلا خلجة إلا بتدبير، ولا طرفة عين بغير إحاطة وتقدير. أنت.. أنت القريب.. في الخاطر.. في النفس.. في الأمل.. في القول.. في العمل.. أنت أنت القريب قبل أن تخطر خواطر خاطري.. أنت أنت القريب، لأنك ماثل في كل الوجود قدرة.. واقتدارا.. وحسنا وجمالا.. وروعة وابداعاً.. وإحكاماً وإتقانا..( مناجاة- عمر التلمساني)

 

مراجع البحث

1-   الأستاذ عمر التلمساني- واضح رشيد الندوي.

2-   عمر التلمساني قائد الجماعة ومرشد الأمة- زينب الغزالي.

3-   عمر التلمساني.. ملك في إهاب بشر- مسعد خيري.

4-   عمر التلمساني كما عرفته- محمد الغزالي.

5-   في إجواء ذكرى المرشد الحيي الوفي- محمد عبد الله الخطيب.

6-   عمر التلمساني إمام المجاهدين في مصر- عبد المتعال جبري.

7-   لماذا قتلوا حسن البنا- عمر التلمساني.

 

الشهيد أحمد أحواس

وهل سنلتقي.. وأين يا أحمد..؟

… وأحمدنا… هو أحمد أحواس… الضابط في الجيش الليبي.. إن رسالته التي كتبها في 18 يناير 1981 تلخص مواقفه، وجزءاً لا باس به من مسيرته..

يقول: عرفت معمر القذافي بو منيار طالبا بالكلية العسكرية سنة1965 ‏عندما كنت مدرسا بها، ثم عرفته ضابطا بالجيش الليبي حتى انقلاب عام 1969م. عرفته شاذا في تفكيره وتصرفاته. وما أشد دهشتي وقلقي عندما أصبح على رأس السلطة في ليبيا عبر انقلاب ستظهر الأيام من كان وراءه.
‏لقد رفضت اقتراحا في الأيام الأولى للانقلاب بإرسال برقية تأييد حتى لا يفهم منها اعترافي بهذا الوضع المريب، كما عدلت عن فكرة كتابة مذكرة إلى القذافي أنصحه فيها وأعرض له تصوري لمنهج التغيير المطلوب، وذلك لقناعتي انه لا يؤمن بالحوار ‏ولا يعدل عن رأيه حتى ولو تبين له الحق في سواه.
‏لقد كان من الصعب علي وآنا أعرف جيدا من هو القذافي أن أعلن رأيي فيه ابان ذلك التأييد العفوي من جماهير شعبنا الطيب، فاخترت أن أقوم بخدمة ديني وأمتي من أي موقع أكون فيه. ولقد علمت من مصدر موثوق ومقرب حرص القذافي على بقائي خارج البلاد فكانت حياتي كلها تنقلاً بين السفارات، كان آخرها في غويانا بأمريكا الجنوبية.
‏كنت أتابع أخبار البلاد وأرى بعيني عندما أعود بين الحين والآخر الخراب الاقتصادي، والتفسخ الخلقي، والانحراف العقيدي والفكري، والفوضى الإدارية، والتخبط السياسي، فضلا عن التذمر الشعبي على كل المستويات وفي جميع القطاعات، وأتابع أخبار الإرهاب والتسلط والقهر والظلم ومصادرة الحريات والأموال بشكل لم أسمع بمثله في التاريخ القديم والحديث لأمتنا.
‏لقد كانت تؤلمني من الأعماق حماقات القذافي وتهجماته على كل عزيز، واستهتاره بكل المقدسات والقيم، كما كنت استغرب ممن يتبنون أفكاره الباطلة ويروجون لها. وكنت أتساءل في نفسي عما يحدث وكيف يحدث وكيف يمكن مواجهته، كما كنت أدرك آن دورا ايجابيا يتحتم علي القيام به، وقد تنامى لدي هذا الشعور مع تمادي نظام القذافي المتعجرف في ممارسته الوقحة لكل أشكال الظلم والطغيان التي أدت إلى ارتفاع كثير من الأصوات المعارضة له في الداخل والخارج وأصبح السكوت في نظري تقصير لا تبرره كل الاعتبارات التي حالت دون إعلان موقفي منه إلى الآن.

‏وان في تجربة العالم مع القذافي وفي خذلانه للقضايا الإسلامية والتحررية وتدخلاته في شئون الدول الأخرى وبالأخص الدول الأفريقية والعربية الشقيقة ما يكفي للتدليل على الدور التخريبي الذي يقوم به والذي أدى إلى تدمير سمعة ليبيا ومكانتها بين أمم العالم.

‏لذلك فأنني وباسمي الشخصي أدين وبشدة كل الممارسات الخاطئة التي قام ويقوم بها التسلط القذافي العابث على الصعيدين الداخلي والخارجي. وأحس أنني أعبر بذلك عن موقف الغالبية العظمى من الشعب الليبي المنكوب الذي ما فتئ يسعى جاهدا للتخلص من هذا الكابوس المزعج بعد أن تكشفت حقيقته منذ الأشهر الأولى للانقلاب النكد.

‏بناء على ما تقدم.. أعلن استقالتي من منصبي كمستشار بأمانة الخارجية وكقائم بأعمال السفارة الليبية في غويانا.. كما أعلن عن عزمي للوقوف وبكل ما ‏أملك مع كل العاملين المخلصين للعمل الجاد من أجل الإطاحة بهذا الطاغية الذي نكبت به بلادنا العزيزة لنعيد للشعب الليبي حريته المغتصبة لكي يختار نظام حياته وحكمه ضمن إطار عقيدة الإسلام وشريعته الراسخة وليحقق آماله في العزة والكرامة والازدهار والتقدم.

ولله الأمر من قبل ومن بعد..

وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(أحمد إبراهيم أحواس (18/1/1981م).)

إن الإنسان الذي يسعى وراء هدف نبيل… يتحول إلى رمز عظيم يسمق ويكبر كلما تواضع صاحبه وخفض جناحه لله وللمؤمنين.

وحتى لا يلتقي الآخرون حول الرمز، وفي مسلسل الترغيب والترهيب. خرج أحمد أحواس سفيرا يتنقل بين اليمن والصومال والدانمارك وماليزيا وغوايانا في أمريكا الجنوبية.

لقد بدأ تعارفنا في عدن يا أحمد…!

ومن يجرأ أن يستعمل السفارة والدبلوماسية لنقل الفكر الإسلامي والمجلة الإسلامية و(الأخبار العزيزة عليك)، غير من شغلهم هدفهم عن مركزهم، فتمسكوا بالهدف النبيل مهما تكن الظروف.. واستخدموا وسائلهم لخدمة أهدافهم.

وعندما كانت تغرق عدن في ظلمات الماركسية، عندما امتلأت سجونها بالأحرار… وصارت تحصي على إنسانها الحركة والسكنة.. يومها كان أحمد أحواس الضمير الذي ينبض بالحيوية… والشعلة التي تضيء الدرب للآخرين.

وضعوه في عدن والصومال… وقد رأوا أنهم نقلوه من زنزانته في سجن ليبيا الكبير إلى سجن أكبر اسمه عدن والصومال… ولم يعرفوا أبدا دوره فقد كان دور البطل!

لم تغب عني يا أحمد وأنت في الدنمارك… أو ماليزيا… فقد كانوا يريدون أن لا تستقر فخيبت ظنهم فقد كنت تزرع فسيلة الدعوة في كل البلاد… فأنت في عجلة من أمرك وفي سباق مع الزمن… ومثلك من يقدر على ذلك… (نظرات في واقع الدعوة والدعاة- المؤلف)

أتذكر تلك الرسالة التي بعثتها لي من غويانا… لقد كانت بتوقيعك… وعلى الرغم من استغرابي لبعض معانيها في البداية، غير أن النهاية التي قدرها الله لك، والشموخ الذي تطاولت نفسك إليه، وزيارتي لترنداد وغويانا ولقائي بإخوانك وتلاميذك في أمريكا الجنوبية ومنطقة الكاريبي من بعد، وانضمامك إلى إخوانك في العقيدة ضمن جبهة الإنقاذ الوطني لتحرير ليبيا من الطغاة والطغيان، كل ذلك فسر لي الكلمات التي غمضت علي… ذكرت لي ضرورة التحرك الإيجابي فلا معنى للعمل الإسلامي الذي يتحول إلى ردود فعل لا نحسن توجيهها أو الاستفادة منها..

وتحدثت لي عن النظرة الضيقة التي تريد كل شيء أو تفقد كل شيء… وذكرت لي ضرورة التخطيط في عالم تجريبي يؤمن بالعلم والتكنولوجيا ويسخرها لمصلحة الإنسان… شكوت لي خلافات العاملين للإسلام وكيف يخسرون جهودهم واخوّتهم ويتحولون إلى أعداء… من أجل تفاهات، على الرغم من أن عناصر اللقاء بينهم لا حدود لها… نسوا الحب في الله… فأنساهم أنفسهم فأصبحوا أعداء يتناكرون بعد أن كانوا أحبابا يتعارفون ويتآلفون…

هل غفرت لي… يا أحمد رسالتي الجواب..؟

إني والله لم أقصد الإساءة… ولكني لم أفهم يومها ما قصدت.. كنت أحلم..

كنت أظن أن الحماسة شجاعة، والبلاغة فكرة، والحديث المنمق دعوة، والمقالة وصاحبها مثالا… وما علمت إلا مؤخرا أن الماء قد يكون ماء… وقد يكون سرابا أو تيها ضاربا في حشايا الرمال… اغفر لي يا أحمد… ومثلك من يغفر!

تضاربت الأنباء حول نبأ استشهادك… ذكروا أنك دخلت مع اثنين من رفاقك من البحر… وذكرت وكالة الأنباء الرسمية الليبية أنك اشتبكت مع الحرس على الحدود التونسية الليبية وأن إصابتك كانت قاتلة… وذكر مراسل اللوموند الفرنسية أنك دخلت البلاد قبل أسبوعين ثم اكتشف أمرك في حادث ما زال غامضا.. وذكرت أخبار أخرى أنك كنت تقود الهجوم على ثكنات العزيزية حيث يقيم معمر القذافي… وأن قسما من الجنود انضموا إليكم… وإن المقاومة استمرت أكثر من سبع ساعات كاملة… استشهدت فيها مع جميع رفاقك الآخرين…

قالوا تدرب في السودان… وقالوا بل دفعته أمريكا وانكلترا… وهذا هو منطق العملاء..!

بل تدرب في ليبيا وكان من أذكى ضباط جيشها وألمعهم..

ودفعه دينه وإسلامه لانقاذ بلده من طغيان الارهاب… الذي استشرى في بلده الطيب..

يا أحمد…

مهما كانت طريقة استشهادك فستبقى حيا عند ربك..

وستبقى حيا في ذاكرة إخوانك.. لن ينسوا أبدا.. الداعية المثقف والقيادي الذكي والسياسي المجاهد..

وستبقى أحد رموز الكفاح الذين يلهمون شباب هذه الأمة.. كيف يدافعون عن حقوقهم.. بل وكيف يستشهدون..

عندما زرت تلاميذك في منطقة الكاريبي.. حدثوني عنك.. وعن الوجه الآخر الذي لم أكن أعرفه.. يومها أدركت معنى الصمت الذي كنت تلوذ به أحياناً.. فليس كل صمت جبن.. وليس كل صمت معناه عدم معرفة الجواب.

كل من سمعك تتحدث في المؤتمر الطلابي في الولايات المتحدة وتقول: لن نتخلى عن دورنا، ولن نقعد مع القاعدين.. ولن نقنط مع القانطين.. والخيار الوحيد الذي نرضاه لأنفسنا أن نعيش أحرارا أعزاء أوفياء أو نموت واقفين ونسقط سقطة الشهداء الصالحين.. كل من سمعك أدرك نهايتك..

سطور من حياته

ولد الشهيد أحمد إبراهيم أحواس في مدينة جردينة من ضواحي بنغازي في ليبيا عام 1938م. انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين في عام 1954م، وفي سنة 1960م التحق بالكية العسكرية وتخرج في العام 1962م متفوقاً على كافة أفراد الدفعة.

من عام 1962 إلى 1969م عمل ضابطاً في سلاح الهندسة بالجيش الليبي.

تقلد الشهيد عدة مناصب خلال عمله بالجيش منها: آمراً لسرية هندسة الميدان، ومدرساً بالكلية العسكرية، ومدرساً بمدرسة الهندسة، كما التحق بعدة دورات دراسية عسكرية في كل من ليبيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

تدرج الشهيد في الرتب العسكرية حتى رتبة رائد التي رقي إليها بتاريخ 9 أغسطس 1969م.

كان الشهيد طيلة عمله في القوات المسلحة مشهوداً له بالكفاءة والإخلاص والأخلاق العالية، كما كان يحظي بتقدير واحترام رؤسائه وحب ومودة مرؤسيه.

بعد انقلاب القذافي عام 1969م كان الشهيد من ضمن الضباط الذين اعتقلهم القذافي، ثم جرى إبعاده للعمل في السفارات الليبية في كل من: الدنمرك، واليمن الشمالي، والصومال، واليمن الجنوبي، وماليزيا، وغويانا. ورغم سوء سمعة نظام القذافي إلا أن ما كان يتحلى به الشهيد من نبل في التعامل وأصالة في الأخلاق وتفان متواصل في خدمة قضايا الإسلام والمسلمين، جعله يحظى بالتقدير والاحترام من الأجهزة الرسمية، وبالتجاوب المتزايد من كثير من العاملين في الهيئات الأهلية والتعاون الخير مع الشباب في الجمعيات الإسلامية في تلك الدول لا تزال آثاره شاهدة على ذلك حتى اليوم.

في فبراير 1981م أعلن الشهيد أحمد إبراهيم أحواس استقالته من منصبه كقائم بأعمال السفارة الليبية في غويانا، وأعلن انضمامه إلى المعارضة الليبية في الخارج حيث شارك في تأسيس الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا. وتم اختياره عضواً في اللجنة التنفيذية للجبهة.

  • ·    في 6 مايو عام 1984م كان الشهيد أحمد أحواس في مهمة تتعلق بقوات جبهة الإنقاذ داخل ليبيا، ولم يكن دخوله أو تسلله إلى ليبيا هو الأول من نوعه، بل كان يقوم بذلك بصورة دورية منذ استقالته. واستطاع في المرة الأخيرة، كما تقول إحدى الروايات، التسلل عن طريق البحر، ظل بعدها يتنقل داخل البلاد لمدة أسبوعين تقريباً، كان يقوم خلالهما بالاتصال والتخطيط والتنسيق مع وحدات وإفراد من الجناح العسكري للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، اصطدم إثناء تنقلاته الأخيرة.. بدورية مسلحة قرب مدينة زوارة، فتم تبادل إطلاق النار الذي انتهى باستشهاده.

ولا نستطيع أن نعزل واقعة استشهاد الرائد احمد أحواس عن وقائع وإحداث الثامن من مايو 1984م، وما جرى في ذلك اليوم من تصادم بين مجموعة بدر التابعة لقوات الإنقاذ وبين قوات النظام الليبي، وما تلى ذلك من أحداث ووقائع انتهت باستشهاد أفراد المجموعة.

سلام عليك يا أخي أبا أسعد… ورحمة الله وبركاته.