RSS

المحنة في حياة حسن البنا

01 Jul

(3) المحنة في حياة حسن البنا – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من مصر

 الإمام الشهيد حسن البنا

تكاد تجمع الأمة في العصر الحديث على الدور الرائد الذي قام به الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله). فهو مؤسس الحركة الإسلامية في العصر الحديث.. أنشأها في مصر وانتقلت منها إلى جميع أطراف الدنيا.

ولقد كتب الله عز وجل على يد هذا الرجل من التوفيق الشيء الكثير.. حتى إن معظم الإسلاميين هذه الأيام لا يكادون يجمعون على أمر أكثر من إجماعهم على احترام شخصية الإمام حسن البنا.. وحتى أولئك الذي يخالفون طريقه وفكرته ينسبون أنفسهم إليه.

ولقد شق الإمام حسن البنا – شأنه شأن جميع المصلحين- طريقه في غاية الصعوبة. وإذا كانت شخصية الرجل، وقوة حجته، وعمق تفكيره، وأناته، وصبره، مكنته من التغلب على الكثير من التحديات والمصاعب التي واجهته، فإن ذلك لا يعني إهمالنا لهذا الجانب الهام والخطير في حياة الدعوة والدعاة.

والمحنة من مستلزمات الدعوة. قال الله تعالى: (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(العنكبوت (1-3)).

وقال أيضا: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)(الأنعام- 112).

وطريقة معالجة المحنة والخروج منها من أهم المواصفات الي ينبغي أن تتوافر في القيادات.. فالمحن واقعة لا محالة.. وعلى حكمة القائد وصبره وحسن تدبيره تتوقف النتيجة.. فتتحول المحنة إلى كارثة أو إلى فائدة.

منذ الأيام الأولى.. عندما قامت الدعوة بالإسماعيلية وأخذت تكتسب كل يوم موقعا جديدا على أرض الواقع وفي نفوس المخلصين الخيرين من ابناء هذه البلدة والبلدان المجاورة، بدأ شياطين الإنس بتدبير المكائد وإشاعة قالة السوء.. ولنترك الإمام يحدثنا عن بعض هذه المواقف:

(فإنه ما كان يظهر إعجاب الناس بالدعوة والتفافهم حولها، وتقديرهم للعاملين لها حتى أخذت عقارب الحسد والضغينة تدب في نفوس ذوي الأغراض، وراحوا يصورون الدعوة والداعين للناس بصور شتى: فهم تارة يدعون إلى (مذهب خامس)، وهم أحيانا شباب طائش لا يحسن عملا ولا يؤتمن على مشروع، وهم أحيانا نفعيون مختلسون يأكلون أموال الناس بالباطل وهكذا)(مذكرات الدعوة والداعية، ص-(74-75)).

(وعندما استطاع الإخوان أن يبنوا مسجدهم وآذن بالنهاية الموفقة، اشتدت تبعاً لذلك الدسائس والفتن، وقام المغرضون من كل مكان يريدون الحيلولة دون تمام هذا العمل النافع، فلم يجدوا سلاحاً إلا الدس والوشايات والعرائض المجهولة فكتبوا بهذا إلى السلطات المحلية بالإسماعيلية من البوليس والنيابة وغيرها.

ولما لم يجدهم ذلك نفعاً كتبوا عريضة بتوقيع لفيف من أهالي الإسماعيلية إلى رئيس الحكومة رأساً ضمنوها أموراً غريبة منها: أن هذا المدرس شيوعي متصل بموسكو، وهو وفدي يعمل ضد النظام الحاضر(مذكرات الدعوة والداعية، ص-80)، وعندما قدمت هيئة قنال السويس تبرعا بمبلغ 500 جنيه لمشروع المسجد (ثارت ثورة المعترضين وانطلقت الإشاعات تملأ الجو (الإخوان المسلمون يبنون المسجد بمال الخواجات) وآزرتها الفتاوى الباطلة ممن يعلم وممن لا يعلم).

وعندما اقترح أحد الإخوان أن نحيي هذه السنة ونقوم بصلاة عيد الفطر في ظاهرة المدينة قامت حملة عنيفة.. (ومن الذي يقول: إن الشارع أفضل من الجامع.. وكانت حملة ويا لها من حملة..).

ولم يكتف المعترضون بذلك.. (بل وأشاعوا بأن الإمام البنا يقول للناس في دروسه اعبدوني من دون الله. وأن الإخوان المسلين يعتقدون بناء على ذلك أن الشيخ البنا إله يعبد وليس بشراً ولا نبياً ولا ولياً ولا شيخاً.. ولقد تحرينا مصدر الإشاعة فعرفنا أن الذي يذيع هذا شيخ عالم يشغل منصباً دينياً ويصدقه الناس فيما يقول)(مذكرات الدعوة والداعية، ص-(104-105))، ويوم قرر الإمام حسن البنا ترك الإسماعيلية والانتقال للقاهرة اقترح على إخوانه أن يتولى الشيخ علي الجداوي مسؤولية المركز من بعده فوافقوا عليه بالاجماع في فرح شامل وسرور عجيب بهذا الاختيار.. (واغتاظ من هذا الاختيار شيخ أريب أديب عالم فقيه لبق ذلق اللسان واضح البيان.. وكان محترما من الجميع فتطلع إلى أن يكون رئيسا للجماعة في الإسماعيلية.. ولم يسلك إلى تحقيق هذه الرغبة طريقها الطبيعي وهو الإخلاص في العمل والتفاني في خدمة الدعوة، ولكنه سلك إليها الطريق الملتوية، طريق الدس والتفريق والوقيعة. هل يستوي الشيخ على الجداوي (النجار) مع الأزهري الذي يحمل العالمية!، وتعلل هؤلاء أن الإخوان لم يكونوا جميعا حاضرين، وكانت الدعوة مفاجئة، لم يكن المقصود منها معلوما!.. وبعد الاقتراع الثاني.. انفرد كذلك هؤلاء الأربعة والذين أرادوا أن يفرضوا رأيهم على أكثر من خمسمائة أخ. ولكن النفوس إذا تمكن منها الهوى في ناحية فإنه يعميها عن الخير ويصم أذنها عن الحق وكذلك كان..

فبدأ هؤلاء يذيعون عن الدعوة والجماعة السوء في ثوب النصيحة والإشفاق.. ولما فشلوا تقدموا للنيابة ببلاغ يقولون فيه: (إن حسن أفندي البنا رئيس الإخوان المسلمين يبعثر في أموال الجماعة!. وتلت ذلك البلاغ بلاغات وإشاعات انتهت وانتهوا معها فكل من يفقد إدراكه لسمو الدعوة ويفقد إيمانه بها لا خير فيه في صفها..)(المصدر السابق، ص-(106-113)).

أما الفتن في القاهرة فكانت أدهى وأمر.. فبينما كانت الجماعة في أزهى ايامها تشق طريقها بثقة، وتكتسب كل يوم موقعا جديدا، إذ بالأخ أحمد رفعت يعترض على كل ما تتخذه الدعوة من أساليب، ويدعو الإخوان إلى أساليب أخرى.. ويتجمع حوله نفر من الإخوان فلا يدعون اجتماعا عاما أو خاصا ينعقد في المركز العام إلا وفرضوا أنفسهم عليه وتحدث فيه أحمد بالأسلوب المهاجم الذي لا يقبل مناقشة ولا معارضة، فتعطلت بذلك الاجتماعات والدروس وحتى حديث الثلاثاء.. ولقد حددت هذه المجموعة مطالبها في ثلاث بنود:

الأول: أنه يرى أن الإخوان تجامل الحكومة وتتبع معها سياسة اللف والدوران ويجب على الإخوان أن يواجهوا الحكومة بالحقيقة التي قررها القرآن في قوله: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).

الثاني: موضوع المرأة وإلزامها حدود الإسلام في الاحتشام وعدم التبرج، يرى أحمد أن الإخوان لم يتخذوا إجراء ما في شأنه مكتفين بدعوة المرأة إلى ذلك بالنصيحة والكلام دون العمل. ويرى أحمد أن يسلك الإخوان بصدد هذا الأمر الخطير مسلكا عمليا بأن يوزع الإخوان أنفسهم في شوارع القاهرة ومع كل منهم زجاجة حبر كلما مرت أمامه فتاة أو امرأة متبرجة ألقى عليها من هذا الحبر حتى يلطخ ملابسها فيكون هذا رادعا لها.

الثالث: موضوع فلسطين، يرى أحمد أن وقوف الإخوان في مساعدة مجاهدي فلسطين عند حد الدعاية وجمع المال لهم هو تقصير في حق هذه القضية وقعود عن الجهاد وتخلف عن المعركة وعلى الإخوان أن يتركوا أعمالهم ويتطوعوا في صفوفهم وإلا كانوا من الخالفين) (المصدر السابق، ص-(106-113)).

ثم كان انشقاق آخر تكونت على أثره جماعة شباب محمد في سنة 1939م، وقد أذاعت هذه الجماعة برنامجها في العدد الأول للنذير (مجلة الإخوان) (أحداث صنعت التاريخ، 1: (200-202)) بعد أن آلت ملكيتها لشباب محمد، وقد حصر هذا البيان أوجه الخلاف بين الجماعتين في أربع نقاط هي:

1- الشورى: ويرى المرشد العام للإخوان المسلمين أنه لا شورى في الدعوة وأن الدعوة إنما ينهض بها فرد واحد له أن يأمر وعلى الجميع أن يطيع.

وقد خالفناه في هذا الرأي وأصررنا على موقفنا لأن في رأي فضيلته مخالفة للنظام السياسي للإسلام وتحديا لمصدريه العظيمين الكتاب والسنة ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

وقد حاولنا أن نتفاهم مع فضيلته كثيرا فأبى إلا أن يكون رأيه الفصل ولو كان في ذلك لإقصاء للمخلصين من الإخوان المسلمين ثم عاد إلى التعلل أخيرا بأنه لم يجد في الإخوان من هو أهل للشورى وهذا ما لا نقره عليه.

2- العمل تحت لواء الحاكمين بغير ما أنزل الله: من مبادئ الإخوان المسلمين أنه لا نجاح للدعوة إلا بقوة الشعب الذاتية وتوجيه الرأي العام توجيها إسلاميا خالصا دون الاعتماد على الحكام، ولكن الأستاذ – يقصد البنا- حاد عن هذا المبدأ القويم معلنا أن نجاح الدعوة مرهون بإرضاء الحكام والعمل تحت ألويتهم الحزبية، وأخذ يسلك سبلا متفرقة ما بايعنا الله عليها (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) متناسيا ألا أمل للإسلام فيهم وأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله ( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ). عارضنا هذا بكل قوة مرددين أقوال فضيلته بأننا إسلاميون غير حزبيين وأننا نعمل لله ولرسوله لا لزعيم ولا لحزب.. فأبى إلا العمل برايه والمضي فيه ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا).

3- التلاعب المالي: طلبت من فضيلته تكوين هيئة قوية لمراقبة المال والمحافظة عليه لتكون مسؤولة أمام الإخوان فأعرض فضيلته وأصم أذنيه عن هذا القول الذي نعده طلبا عادلا يتفق مع أبسط مبادئ الإدارة وكان من نتيجة عدم الأخذ بهذا الرأي أن أنفقت أموال كثيرة لا نقول في أغراض شخصية ولكن على ألأقل في غير الأغراض التي جمعت من أجلها.

4- تطهير الدعوة: ألححنا على فضيلته ورجوناه غير مرة أن يحرص على طهارة الدعوة بإقصاء كل الأعضاء الذين تشوب أخلاقهم الشوائب ليسلم هذا البناء الذي كنا ومازلنا نفتديه بأنفسنا وحتى يسمو عن المظان والشبهات وكان من بين هؤلاء الأعضاء أشخاص اعترف فضيلته في أحاديث متعددة بعد أن تبين من تحقيقات أجراها بنفسه بأن وجودهم مضر بسمعة الدعوة من الناحية الخلقية، ولكنه أصر على بقائهم فضلا على أنه أسند إليهم أعمالا رئيسية وأخذ يشيد بذكرهم في رحلاته إلى الصعيد وغيره).

ثم راحت جريدة النذير تتهم البنا شخصيا بحبه وسعيه لألقاب التقديس والزعامة والقيادة وأن نفسه تحدثه بالجاه والسطوة والسلطان قبل أن تحدثه بالجهاد والتضحية والصبر على المكاره، وأنه لا يرضى أن يعمل بجانبه من يحس منه المنافسة في الزعامة والإمامة).

وشهد عام 1947 انشقاقا آخر في صفوف الإخوان.. وكان من أخطر ما واجهته من فتن في تلك الفترة (.. ففي الوقت الذي كان فيه البنا يجمع جهوده في مقاومة الأحداث يلجأ السكري ومعه الدكتور إبراهيم حسن إلى صحيفة الجماهير اليسارية لينشرا مقالات هجومية ضده وضد جماعته ويتهمانه بالعمالة لصدقي والنقراشي وهي نفس التهم التي توجهها التنظيمات اليسارية والوفد، ويتهم السكري البنا بالغدر به ويلوح بأن تقاضى أموالا من الإنكليز).

هذه نماذج من الفتن التي تعرض لها الإمام الشهيد حسن البنا من داخل الصف.. فكان وقعها عليه أشد بكثير من الفتن التي واجهها من أعداء الدعوة.. وفرق بين عدو تنتظره فتهيئ نفسك للقائه.. وبين عدو قريب يعرف مقاتلتك فيؤذيك ويخدعك بقربه منك.

ولقد تجلت عبقرية الإمام البنا بالأسلوب الأمثل الذي عالج فيه هذه المحن واستطاع بفضل الله ثم بفضل  إخوانه أن يجنب الدعوة الكثير من المطبات التي أحكمها الأعداء بايدي الأقربين.

وفي هذه المناسبة نقول لجميع الشباب المسلم – ولهم في أخيهم حسن البنا عبرة قريبة- إن الداعية المسالم الذي يكتفي من الدعوة بمجاملة الجميع هو إنسان يعيش لنفسه وسلامتها.. أما ذك الشاب المسلم المندفع لخدمة دعوته الذي يريد أن يسجل لها كل يوم نصرا وفي كل أرض أفقا جديدا وفي كل مجال طموحا وتقدما فسيواجه المحنة من أقرب الناس إليه، من رفاق صفه، ومن إخوان دربه، ممن يمارسون صفة الصلاح والتقوى، سيقولون عنه: إنه يؤسس جماعة جديدة.. كما قالوا لأخيهم حسن البنا من قبل أنه يدعو إلى مذهب خامس!

سيقولون له: إنه شاب طائش لا يؤتمن على عمل، نفعي مختلس يأكل أموال الناس بالباطل، تماما كما قالوا للقائد حسن البنا مثل ذلك..

وسيقولون له: إنه متحرك له اتصالات واسعة بل خطر على الأمن أبعدوه من كل الأرض حتى نسلم.. تماما كما قالوا للقائد حسن البنا من قبل..

وسيقولون له: إنه يعبد ذاته، ويتحرك في إطار زعامته، باع نفسه للحكومات حتى يصبح من اصحاب السلطان، تماما كما قالوا للقائد حسن البنا هذا القول..

سيجتمعون ويتآمرون، على شخصه فهو يستحق الموت..

وعلى فكره الذي يعلنه وهل بقي في هذا الزمان فكر..

في هذه المناسبة نقول للشباب المسلم الصابر المجاهد – إن لهم في أخيهم حسن البنا عبرة قريبة- فبدون الصبر لا يدرك الحق.. وبدون المحنة لا يكون النصر.. والنصر أساسا  صبر ساعة!

1985/2/12م

 
 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *