RSS

Monthly Archives: July 2013

عدن والرمال المتحركة

(2) عدن والرمال المتحركة – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من اليمن


مقدمة

بعد مرور أكثر من شهر على أحداث (13) يناير 1986م التي وقعت في عدن.. وعلى الرغم من إعلان فريق العطاس أنه يسيطر على الموقف، ومن الصمت المطبق الذي يلف تحركات الرئيس علي ناصر محمد الذي مازال البعض يصفه بالقيادة الشرعية.. على الرغم من ذلك فإن الوقت مازال مبكرا لأن نحكم على هذه الأحداث.

علي ناصر محمد و حيدر أبو بكر العطاس

وإذا كان العطاس قد قفز إلى السلطة في ربع الساعة الأخير كما ذكر محمد علي الهيثم رئيس وزراء اليمن الجنوبي السابق.. فإن في الوقت مزيدا من الاتساع للآخرين كي يقرروا الجهة التي ينضمون إليها.. فعوامل الداخل ومواقف الخارج.. وصراعات الأساطيل في المياه الممتدة أمام الميناء العريق.. كلها ستتدخل في تكامل الصورة التي مازالت أبعادها غير واضحة.

محمد علي هيثم

هل لهذه القسوة ما يبررها؟

جميع القوى المناهضة والصديقة كانت تتوقع الأحداث الأخيرة في اليمن.. ولكنها جميعا لم تكن تتصور أن تتم الأحداث بهذا العنف وهذه القسوة.. وسنحاول أن نلقي نظرة على الأحداث أولا، ومن ثم ندرس أسباب تحويلها إلى مجزرة يذبح فيها الرفيق رفيقه.. ويهدم الجميع الهيكل الذي تعاونوا معا على بنائه قرابة الخمس عشرة سنة.

فإذا أردنا أن نفهم الأحداث فلابد من الوقوف على النقاط التالية:

1- تشكل الجمهورية اليمنية الديمقراطية القسم الجنوبي من بلاد اليمن.. وهو القسم الذي يتحكم في مداخل البحر الأحمر، ويمتد على شاطئ المحيط الهندي، ويقع إلى الجنوب من المملكة العربية السعودية. حكمه الإنكليز منذ عام 1828م باعتباره أحد ركائز سفنهم في طريقها إلى الهند درة التاج البريطاني يومذاك.. وكان الإنكليز يعلنون بأن من حقهم أن يمتلكوا هذا الطريق.. كيف لا وهم إحدى دعامات الاستقرار العالمي! ولهذا فقد سيطروا على مصر والسودان، وملكوا شاطئ جزيرة العرب واليمن اعتبارا من الكويت وحتى عدن مرورا بالبحرين وقطر والإمارات وعمان، وبقيت منطقة اليمن الجنوبي عبارة عن قاعدة عسكرية ومعمل لتكرير النفط وأحياء لسكن الموظفين والعسكريين البريطانيين.. وباختصار كانت قاعدة لخدمة المستعمر وقوافله وجيوشه في المنطقة، وفي نفس الوقت أفلح الإنكليز في تقسيم اليمن الجنوبي إلى عشرات الإمارات والسلطنات الصغيرة وفي تعميق الشقاق بين القبائل والأقاليم على قاعدة فرق تسد.

2- وفي 26 سبتمبر 1962م قام الانقلاب العسكري في اليمن الشمالي بقيادة عبدالله السلال، وحدث التدخل المصري المسلح، وفي 14 أكتوبر 1963م ثار الشعب اليمني في جبال ردفان في الجنوب، وكان للتوجه المصري الناصري دور حاسم في تصعيد الصراع المعادي لبريطانيا.. وأحبت بريطانيا أن ترد التحية فغلّبت كفة الجبهة القومية وسلمت الحكم في 30 نوفمبر 1968م لقحطان الشعبي على حساب جبهة التحرير بزعامة عبد القوي مكاوي الذي تؤيده القاهرة.. وهكذا بدأت الصفحة الأولى للصراع فاعتقلت عناصر جبهة التحرير.

قتلوا بعضهم وفر إلى الخارج بعضهم الآخر ومازال زعيمهم عبد القوي مكاوي يتحين الفرصة للانقضاض على إخوان الأمس أعداء اليوم.

3- وبعد الاستقلال مباشرة بدأت شخصيات معينة تطرح الشعارات الاشتراكية والماركسية في إطار الجبهة القومية ومن هذه الشخصيات: عبد الله الغامدي، وعبد الفتاح إسماعيل، وعلي صالح عياد، ومحمد صالح مطيع، وسلطان أحمد عمر، وعبد الله الأشطل، وكان أبرز هؤلاء عبد الفتاح إسماعيل.

وفي المؤتمر الرابع للجبهة القومية الحاكمة الذي عقد في مدينة زنجبار (المحافظة الثالثة) ونتيجة للطرح الاشتراكي انقسمت الجبهة إلى جناحين:

    * يساري متطرف بقيادة: عبد الفتاح إسماعيل وسالم ربيع علي.

    * ويميني بقيادة قحطان الشعبي الذي أصبح رئيسا للجمهورية.

4- وكانت الصفحة الثانية للصراع، بالانقلاب الذي قاده الفريق اليساري ضد اليمينيين يوم 22 يونيو 1969م والذي أسفر عن مجازر في صفوف الرفاق دفعت إلى المقصلة رأس الرئيس قحطان الشعبي وابن عمه فيصل الشعبي وأعداداً كبيرة من أنصارهم، وأسفرت عن تشكيل مجلس رئاسة من عبد الفتاح إسماعيل، وعلي ناصر محمد، وسالم ربيع علي، واحتفظ عبد الفتاح إسماعيل بأمانة الحزب ومن أهم منجزات هذه المرحلة:

    * تغيير اسم البلاد إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كدلالة على التوجه السياسي والعقائدي الماركسي.

    * تطهير القوات المسلحة من العناصر التي لا تدين للقيادة الجديدة بالولاء.

    * تشكيل ميليشيات حزبية تحت إشراف مباشر من عبد الفتاح إسماعيل.

5- وبدأت الصفحة الثالثة للصراع منذ مطلع السبعينات وتفاقمت في الفترة (1975- 1978م) عندما انضم كل من علي ناصر محمد، وعلي عنتر، ومحمد سعيد اليافعي، مسؤول الأمن إلى جناح عبد الفتاح إسماعيل.

وكالعادة فقد اتهم جناح عبد الفتاح إسماعيل الرئيس سالم ربيع علي بأنه يريد أن ينفرد بالسلطة فقاموا ضده بانقلاب عسكري اسفر عن إعدامه مع عدد كبير من أنصاره، وقد دارت إثر ذلك معارك عنيفة بين المعارضين والموالين للشرعية (كما كانوا يطلقون على أنفسهم) نتجت عنها تصفية هؤلاء وتطهيرهم بالكامل من صفوف الجيش والسلاح الجوي والأمن العام.

وتقاسمت العناصر المنتصرة السلطة فكان من نصيب عبد الفتاح إسماعيل قيادة الحزب وعلي ناصر محمد رئاسة الدولة وعلي عنتر وزارة الدفاع.

6- وسرعان ما بدأت الصفحة الرابعة للصراع بالظهور عندما استطاع علي ناصر محمد عام 1980م إبعاد عبد الفتاح إسماعيل إلى موسكو بعد أن جرده من كافة مناصبه.. وعندما عاد بوساطة سوفياتية عام 1985م بدأ يستقطب القوى ويكتلها ضد الرئيس علي ناصر محمد.. وبذلك كانت الصفحة الخامسة لهذا الصراع المرير الدائم.

7- فكيف كانت الأحداث الأخيرة؟

تضاربت الأنباء وتنوعت البيانات التي تشرح الأحداث الأخيرة التي وقعت يوم 13 يناير 1986م في عدن.. ففي حين يدّعي الرئيس علي ناصر محمد بأن الفريق الآخر حرك قطعات الجيش واحتل المواقع الهامة في العاصمة بحجة أن إسرائيل تعد لضرب القوات الفلسطينية المتواجدة في اليمن الجنوبي.. وأعدوا كل شيء لقتل الرئيس وأنصاره يوم اجتماع المكتب السياسي للحزب الحاكم يوم 13 يناير 1986م، فيما يدعي الفريق الآخر الذي انتصر في النهاية بأن علي ناصر محمد هو الذي أعطى الأوامر لحرسه الخاص بتصفية خصومه عند حضورهم اجتماع المكتب السياسي، الأمر الذي مكّنه من قتلهم جميعا في اليوم الأول للأحداث.

ومهما يكن الأمر.. ومهما تكن الرواية الصحيحة فليس هذا ما يهمنا في هذا التحليل.. الذي يهمنا جملة أمور تستحق التأمل والتوقف عندها:

أولا- طبيعة الأنظمة القائمة على الانقلابات

إن الذي جرى في عدن على الرغم من إبراز الإعلام الغربي وبالتالي العربي لأحداثه.. وتركيزهم على الطريقة التي قتل فيها الرفاق بعضهم البعض.. وكيف دمروا بأيديهم ما بنوه في سنوات حكمهم.. على الرغم من ذلك فإننا نقول إن الذي حدث في عدن الماركسية هو الذي يحدث في جميع البلدان العربية بل الإسلامية فالحرب المستمرة في لبنان والتي قتلت شعبا بأكمله.. والحرب التي سحقت الشعب السوري في حماة وحلب وبقية المناطق.. والإرهاب في ليبيا ومصر.. والحرب المستمرة بين الجزائر والمغرب.. أو بين تشاد وليبيا.. أو بين تونس وليبيا.. أو بين ليبيا ومصر.. أو بين العراق وسوريا.. أو بين العراق وإيران.. أو بين اليمن واليمن.. أو بين عدن وعمان.. وغيرها، ما هي إلا حروب القيادات العربية التي تريد أن تحقق عن طريق الحرب زعامة دائمة ونصراً مؤزراً على الخصوم السياسيين، لا يهمهم عدد القتلى أو تدمير المدن أو تنكيس السلاح.. كل الذي يهم هو انتصار الزعيم، يتساوى في ذلك الماركسيون مع الليبراليين والثوريون مع الرجعيين.. والرؤساء الجمهوريون مع الملوك.. فما من انقلاب حدث في أي بلد من البلدان إلا وانقسم المنتصرون إلى قسمين.. صفى القسم الأول الفريق الآخر.. ثم انقسموا مرة ثانية ومرة ثالثة شعارهم الدائم: الشعار الذي رفعه الشيطان يوم قيام الثورة الفرنسية أن الثورات تأكل نفسها كما تأكل القطة أبناءها.. لا يهم الفرقاء مع من يتعاونون مع اليمين أو اليسار مع الروس أو الأمريكان مع الجيران أو البعيدين المهم أن ينتصر الزعيم ويثبت الكرسي العتيد.

إن التغيير الذي يحدثه العنف.. ينتهي بتغيير آخر عن طريق العنف كذلك ويشرب الفرقاء من نفس الكأس الحاقد المشؤوم.. ومن هنا حرص الإسلام على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.. حتى إذا حدث التغيير يكون تغيير قلوب لا تغيير قوالب وتغيير إيمان لا نفثات شيطان.

ثانيا- في سبيل الكرسي تسقط النظريات

القومية العربية التي تبنتها جبهة التحرير، والاشتراكية العربية التي تبنتها الجبهة القومية في أيامها الأولى، والاشتراكية العلمية أو الماركسية التي تبناها الحزب الاشتراكي اليمني الذي يقود البلاد خلال السنوات الأخيرة.. كل هذه الأسماء والأحزاب والعقائد.. لم تكن أكثر من قشرة سطحية تحيط برجالات السلطة.. وتحت هذه القشرة مازال السلطان للقبائل التي وزعت بريطانيا ولاءاتها وأوقعت العداوة والبغضاء بين رؤسائها، وجاءت القشرة الحاكمة لتستغل هذه الخلافات فتحول الماركسيون إلى قبائل تتصارع على السلطة وتأكل بعضها بعضا.

كانت عدن مستعمرة بريطانية، ميناؤها ومصفاتها وقواعدها العسكرية لخدمة بريطانيا العظمى!.

واليوم عدن قاعدة متقدمة للخدمات السوفياتية، فللاتحاد السوفياتي عدة قواعد برية وبحرية وجوية، أهمها في العاصمة عدن في منطقة (فقم) ومنطقة (بين الجبلين) وهي قاعدة جوية كبيرة كانت في الماضي قاعدة للإنكليز. وهناك قاعدة بحرية للسوفيات في ميناء عدن (التواهي)، وثمة قواعد فرعية في المحافظة الثانية (الجبلين) والمحافظة الرابعة (عتق) والمحافظة الخامسة (المكلا)، أما المحافظة السادسة التي تضم جزيرة سقطرة فتوجد فيها قاعدة بحرية وجوية كبيرة، وهذه الجزيرة تقع في المحيط الهندي وعلى حدود سلطنة عمان، وأنشئت منذ مدة قاعدة للقوات الكوبية  في منطقة يافع السفلى (الرميلة) الواقعة بين مدينة الحصن وجعار، فما الذي تغير غير استبدال سيد بسيد؟ وأين صارت حقيقة الشعارات؟!

كانت عدن قاعدة إمبريالية ينهب خيراتها علوج الاستعمار..

أما اليوم فشلة السلطة تسكن نفس البيوت والمساكن ويحتلون نفس مواقع الضباط الإنكليز (فعلي ناصر محمد يتمتع بخصوصية المطعم العسكري البريطاني السابق، وكان في مطبخه أفضل أقداح النبيذ، وكان يلعب كرة الطاولة في القاعة الزجاجية المطلة على الشاطئ في الأوقات الفاصلة بين جلسات القات، والمنزل مجهز بسلع غير بروليتارية مثل تقليد لأثاث لويس السادس عشر وأجهزة هاتف أمريكية الصنع وأشرطة كاسيت مسجل عليها سيمفونيات تشايكوفسكي، أما بيت عبد الفتاح إسماعيل فكان إحدى الفلل الفخمة المبنية لضباط البحرية الملكية البريطانية، وتقع في شبه جزيرة محاطة بالأشجار تطل على الميناء وسيارة ليموزين حديثة على مدخل الفيلا(التايمز البريطانية (11/2/1986م)).

أما شعب اليمن الجنوبي فهو من أفقر عباد الله يهاجرون ويضربون في الأرض ابتغاء الرزق ولم يتغير في بلادهم قبل الاستقلال وبعده غير استبدال فريق ليبرالي بفريق اشتراكي.

ثالثا- طبقة حكم أم فريق مافيا !

الأحداث في عدن كانت انقلابا وانقلابا مضادا..

كل فريق يتربص بالفريق الآخر ويخطط لذبحه مع أنصاره..

وتواعد الفريقان على اجتماع المكتب السياسي للحزب الحاكم يوم 13 يناير 1986م وأمر علي ناصر محمد حرسه بتصفية الخصوم.. وكان الخصوم في نفس الوقت على موعد مع السلاح..

انقسم الجيش.. وهاجمت الطائرات والدبابات قصر الرئاسة..

وبدأ كل فريق يطلق الرصاص وفي جميع الاتجاهات من شارع إلى شارع ومن مؤسسة إلى المطار إلى الميناء في أشد قتال يمكن تصوره.. كانت الشوارع ممتلئة بآلاف السيارات وناقلات الجنود والدبابات المحروقة.. وحتى الطائرات فقد تم إعطاب بعض المقاتلات والقاذفات وهي جاثمة على الأرض، كما تم في الوقت نفسه تدمير مدرجات المطار بواسطة قذائف مدافع الهاون وغيرها حتى تصبح هذه المدرجات غير صالحة للإقلاع والهبوط.

لقد جرت تصفية جميع المسؤولين تقريبا في الخدمة المدنية والإدارات التنفيذية للوزارات..

بعد توقف القتال انكشفت في عدن قبور جماعية تفضل الحكومة عدم الحديث عنها ولم تسمح للمراسلين الأجانب بزيارتها.

إن عدداً كبيراً يتجاوز العشرة آلاف سقط في عدن بين قتيل وجريح، معظمهم من رجال الميليشيا أو من مسؤولي الحزب.. وللحقيقة فإن النظام الذي انتصر أخيرا قد قام دون رحمة بتصفية خصومه الحزبيين بنفس الطريقة التي حاول بها علي ناصر محمد تصفية أعدائه في 13 يناير 1986م.

فهل يتصور إنسان أن هؤلاء الذين يتقاتلون هم رجال حكم يهمهم خير البلاد والعباد.. أم فريق مافيا يشهر أحدهم سلاحه قبل أن يتمكن رفيقه من إشهار المسدس والقتل!

رابعا – موقف الآخرين

وإذا كانت عدن ابتليت بمجموعة ربتها بريطانيا في حجرها وألبستها موضة هذا الزمان لباس الاشتراكية والتقدمية.. وأطلقتها تخرب البلاد وتقتل العلماء وتسحلهم في الشوارع.. وتؤمم كل شيء حتى الفقر.. فماذا كان رد فعل الأقربين والجيران والدول الاستعمارية الأخرى..؟

كانت جميع القوى متفرجة على مسرح الجريمة، شامته أو راغبة بالمزيد من سفك الدماء.. أو محرضة لهذا الفريق أو ذاك. ولم يتحرك أحد غير منظمة التحرير في محاولة لوقف سفك الدماء.. سرعان ما تراجعت خوفاً من الأبواق المأجورة..!

هذه هي قصة المأساة في عدن.. لا مأساة شرذمة من الأجراء الذين يتدافعون لمقاعد الحكم الأولى في كل فترة.. وإنما مأساة شعبنا المسلم الصابر في عدن في بلاد اليمن..!

يناير 1986م

 
 

جلسات القات

(1) جلسات القات – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من اليمن

عندما تزور اليمن.. تتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الإيمان يمان والحكمة يمانية).. وتتوقع أن تجد هذا الإيمان والحكمة في وجوه الشعب اليمني الطيب المضياف.. وفي حديثه المفعم بالوضوح والراحة والبساطة.. في مختلف طبقاته.. بين السياسيين ورجال الأعمال والعمال وكل الطبقات الكادحة في اليمن.

وكما تتذكر الحكمة، تتمنى أن تتعرف على شجرة القات التي كثر ذكرها.. وتناول الحديث عنها الشعراء والأدباء والفقهاء.. بين محارب لهذه الشجرة الخبيثة كما يصفها البعض.. ومدافع عنها باعتبارها وسيلة المجالس ولقاء الأصحاب والأحباب.

بعد الظهر تخلو معظم الشوارع من المارة.. فإذا سألت عن السبب.. أشاروا إلى (المقايل) وهي الأماكن التي يتجمع فيها الناس لتعاطي القات. هنا نجد القيادات السياسية مشغولين بالسياسة.. ورجال الفكر بالأفكار.. والشعراء بالأشعار.. وعامة الناس بالنكات والكلام الفارغ. إذا سألت بعض المهتمين بموضوع القات.. أفادوك بأنه شجرة تزرع في مناطق الحبشة وأوغندا وكينيا وملاوي وجنوب أفريقيا.. ومن هذه البلاد دخلت إلى اليمن في القرن الرابع عشر الميلادي.

فإذا ذهبت للسوق حيث يباع القات.. وجدته يشبه البرسيم (إلى حد ما).. وإذا كان البرسيم نوعا واحدا.. فإن القات أنواع فيه الجيد وفيه المتوسط.. وفيه غالي الثمن وفيه الرخيص.. وإذا أحببت أن تشبع فضولك وزرت المناطق التي يزرع فيها القات.. فوجدته يحتل أخصب المناطق.. شجرته مثل شجيرة البن.. صغيرة الحجم.. دائمة الخضرة.. يقطعون أوراقها.. ويعرضونها في الأسواق.. وإذا تجرأت وزرت المقايل.. وجدت منظرا عجيبا.. يجلس الرجال على شكل حلقات.. وقد اهتم كل منهم بوضع أوراق القات لفافة تحت أحد الشدقين ثم يمضغه بهدوء.. ويحدث الأثر من خلال امتصاص الشعيرات الدموية الموجودة في الفم لهذه المادة.. وقد تستمر جلسة القات هذه عدة ساعات متواصلة.

أهم مكونات هذه العصارة التي تمتصها الشعيرات من القات هي مادة الكاتين ومادة الكاتينون.. وهاتان المادتان اللتان تتسببان في ازدياد ضربات القلب والشعور بالأنس.. يعقبه الاكتئاب والقلق النفسي.

زراعة القات في اليمن

لمجالس القات طقوس معينة.. حيث تتفق المجموعة على مكان محدد لتناول القات وتحرص أن يكون هادئا مريحا.. يحرق فيه البخور.. ويتوفر في المنزل الماء البارد.. تبدأ الجلسة بعد العصر وقد تستمر عدة ساعات وكلما انتهت عصارة الأوراق قذفها من فمه في مكان مخصص لذلك.. المنظر كريه والحركة مقززة.. ومع ذلك فلا يبالي بها أحد من ماضغي القات.

ويؤكد الأطباء أن كثيرين من ماضغي القات وخاصة كبار السن يشكون من صعوبة التبول والإفرازات المنوية اللاإرادية بعد التبول.. وذلك للآثار السلبية على البروستات والحويصلات المنوية وما يسببه من احتقان وتقلص. وإن القات يسبب رفع نسبة السكر في الدم، كما يرفع عدد الصفائح الدموية بشكل ملحوظ، كما أنه يقلل نسبة البروتين في الدم المسؤول عن النمو، كما أنه يسبب التهابات اللثة والغشاء المخاطي للفم، ويحدث اضطرابات معوية مصحوبة بعسر الهضم وتؤدي إلى البواسير بسبب مركبات التانين وربما أدى إلى سرطان الفم والرئة.

مؤتمر مكافحة المخدرات

عقد في الرياض مؤتمر مكافحة المخدرات.. وكان من جملة مقرراته اعتبار القات مادة مخدرة ومحرمة شرعا.

ولقد استنكر علماء اليمن ذلك وتداعوا إلى لقاء في صنعاء يردون فيه على الفتوى.. جاء فيه: (إن القات ليس مادة مخدرة ودللوا على صحة فتواهم بأن الكثير من علماء اليمن وأعلامه كانوا يتناولونه ولم يشعروا بالتخدير الذي ذكر)(28/3/1982م).

وكم نحتاج إلى إخراج هذه القضايا من إطارها السياسي.. ونعود بها إلى رجال العلم فنسألهم: ماذا وجدوا في مختبراتهم.. أليس شفاء العيّ السؤال؟

 
 

التيجاني أبو جديري في ذمة الله

التيجاني أبو جديري في ذمة الله – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من السودان

كل شيء في الخرطوم كبير وضخم حتى اسمها..

ومن غرفتي في الطابق التاسع في الفندق كنت أنظر إلى النيل يتدفق باعتزاز وشموخ.. وفي مصر نيل.. وفي السودان نيلان.. النيل الأبيـض والنيل الأزرق.

وعند العاصمة المثلثة يلتقيان في منظر بديع أخاذ يوحي للإنسان بكل ذكريات البطولة، بكل التاريخ المجيد الذي سطره زعماء المسلمين في هذا البلد الإسلامي العريق.

هنا هزم المهدي القائد البريطاني كتشنر.. وهنا قامت الدولة الإسلامية المهدية.. وهنا وقف السودان يجمع بين الشمال والجنوب، ينقل الحضارة ويرفع أعلام الإسلام.. ويعيد للحاضر ذكريات الماضي.

منذ زمن طويل وأنا احلم أن أزور الخرطوم.. فلي فيها إخوة وأصدقاء.. ويدافع الزمنُ الزمنَ.. وتمر الأيام مثقلة بالأعمال المتراكمة فلا تكاد تترك مجالاً للاختيار.. حتى جاءني الخبر.. أن التيجاني أبو جديري قد توفاه الله .. ونزل الخبر كالصاعقة.. وسافرت إلى الخرطوم.. لأقدم العزاء وأن أتلقاه.. والأمر لا يتم إلا هناك بين أبناء الفقيد وأهله وإخوانه..  صفوف من المعزين كلهم يستشعر فداحة الخطب وعظم المصيبة.

التيجاني أبو جديري

قال أحدهم: لم نكن نعرف قيمة الرجل حتى فقدناه.. وأصعب شيء هو هذا السهل الممتنع.. إذا رأيته قائماً على عمله ظننت أن كل أحد يستطيع أن يصنع مثله، فإذا غاب واستجبت للتحدي فشلت لقد كان من السهل الممتنع (رحمه الله).

وقال أحدهم: بل هو صلتنا مع العالم الخارجي.. مع الحركات الإسلامية في العالم. مع الاتحادات الطلابية.. في ميدان الدعوة.. في ميدان السياسة.. أو ميدان الاقتصاد.. فلقد كان يدنا التي تناول الآخرين، وخطونا الذي نتقدم به منهم.. عيوننا التي نراهم من خلالها.. لقد كان مجموعة في واحد.. أو أمة في رجل (رحمه الله).

هل يقال هذا الكلام عن التيجاني ابو جديري على طريقة (اذكروا محاسن موتاكم).. أم إنها الحقيقة.. ورجعت بنفسي إلى الوراء خمس عشرة سنة.. يوم أسسنا الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية.. وكان من بين الحاضرين: المعارضون والمؤيدون، والمتفائلون والمتشائمون.. بل واليائسون من العمل الإسلامي أن تقوم فيه مؤسسات تقويه وتدعمه.. وكان صوت أخينا التيجاني ويده التي تشارك فمه في الحديث.. عالية مؤثرة في اتخاذ القرار.. وتكرر هذا الموقف بالنسبة للأخ التيجاني في كل منظمة إسلامية قامت.. فلقد كان له فيها فضل السبق.. أو فضيلة العمل والإصرار.. كان إيجابياً سباقاً إلى كل مكرمة (رحمه الله).

حدثني مرافقه الأخ مبارك.. قال كنا قبل يومين في الرياض.. وكان على عجلة من أمره يريد أن يعود فوراً إلى السودان.. وحاول إخوانه إقناعه انه لا ضرورة لهذه العجلة ومن الأفضل أن نمضي يوماً آخر في جدة نلتقي فيه بالأحباب.. ثم نتوكل على الله.. ولكنه أصر.. ووصلنا الخرطوم.. وأصر كذلك أن يسافر إلى مكان آخر لأداء مهمة كان عليه أن يؤديها.. وأصرّ إخوانه أن يأخذوا قسطاً من الراحة والنوم.. وأصرّ هو بالمقابل.. وانتزع مفتاح السيارة قائلاً لمرافقه: سأقود السيارة بنفسي!

كانت السماء مغبرة حزينة.. والظلمة دامسة لا ضوء فيها ولا حياة.. وفي غفلة من كل شيء في الدنيا الكئيبة.. أغمض الأخ التيجاني عيناه المرهقتان المتعبتان.. وكانت المرة الأخيرة.. فقد أسلم الروح.. ونُقل أخواه إلى المستشفى.

رحم الله الفقيد.. وأحسن الله عزاء إخوانه.. الذين يلتقون كل يوم، وفي عيونهم دمعة، وفي قلوبهم غصة، ولسان حال كل منهم قول الشاعر:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر          فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

رحم الله الأخ الحبيب التيجاني أبو جديري رحمة واسعة.

 
1 Comment

Posted by on July 22, 2013 in خواطر حول العالم

 

عبد المنعم أبو الفتوح والإخوان

(8) عبد المنعم أبو الفتوح والإخوان – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من مصر

تناولت الصحف في الآونة الأخيرة بعض تصريحات الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح القيادي في جماعة الإخوان المسلمين.. تناول فيها الجماعة التي نشأ وتسنم فيها مواقع قيادية.. ولقد عرفته في بعض المؤتمرات التي التقيته فيها.. فاستغربت هذه المواقف الأخيرة التي اتخذها.

ففي الندوة التي انعقدت بمكتبة الاسكندرية في 23 مارس 2011م قال الدكتور أبو الفتوح: على مستويات الإدارة في الإخوان أن تستقيل، وأن تعاد الانتخابات بشكل شفاف وتحت سمع وبصر المجتمع من الناحية المالية والإدارية.. وتوقع أن الإسلاميين قد يحصلون على 70% من المقاعد البرلمانية، بفصائلهم المختلفة.. أما الإخوان فلن يحصلوا على أكثر من 20% من المقاعد إذا كانت الانتخابات نزيهة.

الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح

وأعلن أنه لن ينضم إلى حزب الحرية والعدالة الذي تعتزم الجماعة تأسيسه.. وأنه عرضت عليه رئاسة ستة أحزاب حتى الآن.. رغم أنه يعتز بحزب النهضة الذي أسسه الدكتور إبراهيم الزعفراني القيادي في حركة الإخوان.

ولم يقبل الأخ ابو الفتوح رأي المرشد العام للإخوان الذي قال: إن أي أخ ينضم إلى حزب لا يتبع الإخوان سيتم فصله من الجماعة.

وقال الدكتور عبد المنعم: إن آراءه تتعارض مع آراء بعض مسؤولي الإخوان.. إلا أنه يمثل فيها جمهور الإخوان وإن لم يمثل الإدارة العليا للجماعة.

وأدلت صحيفة هآرتس الإسرائيلية بدلوها في هذا الموضوع.. فقالت تحت عنوان حالة تمزق خطيرة تضرب جماعة الإخوان المسلمين، بدأت بعد وقت قصير من توقف المظاهرات الضخمة بميدان التحرير.. يقف على رأس تلك المجموعة د. عبد المنعم أبو الفتوح ود. إبراهيم الزعفراني. ولفتت الصحيفة إلى أن تلك ليست المرة الأولى التي يحدث فيها صدام وانقسام في الرأي في صفوف الإخوان، فمنذ تأسيسها عام 1928م على يد حسن البنا عرفت تلك الجماعة انقسامات شتى، مثل جماعة التكفير والهجرة، وحزب الوسط، وغيره.

واختتمت الصحيفة أنه في غضون ذلك يحاول الحزب الوطني التابع للنظام المصري السابق إظهار عضلاته وقوته من خلال إنشاء صفحات إلكترونية على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك معلنين فتح صفحة جديدة مع المواطنين، ووفق لما هو منشور على الفيسبوك، فإن الحزب الوطني يأمل في تجميع أغلبية تسانده في الانتخابات المقبلة خاصة في مناطق مثل سوهاج والمنيا وأسيوط بصعيد مصر، موضحاً في تقريره أن رجال الوطني يعتمدون في مسلكهم هذا على صعوبة انضمام أحزاب المعارضة في الوقت القصير المتبقى على الانتخابات علاوة على أخذهم بحقيقة هامة وهي أن جزءا كبيرا من الأجهزة الحكومية وغالبية الإدارات التي تتعامل مع المواطنين ما زالت تدعمهم، أي تدعم رجال الوطني.

ولا بأس أن ننشر هنا بعض الحوادث التاريخية التي واجهها الإخوان المسلمون في الماضي، فقد يكون في استذكارها عبرة.

وسائل محاربة الجماعة

نبه الإنكليز ومعهم الأحزاب الفاسدة الحكومات في مصر إلى خطورة دعوة الإخوان في وقت مبكر.. فقد كان موقفهم من القضية الوطنية واضحاً لا غموض فيه ولا مساومة.. وموقفهم من اليهود وقضية فلسطين في رأس اهتماماتهم.. ولهذا أعلنوا الحرب على الجماعة.. أحياناً بشكل علني وأحياناً بطرق غير منظورة.. وكان على رأس وسائلهم:

1- البوليس السياسي الذي لم يكن يعمل لحساب الحكومة المصرية وحدها.. بل إن صلته بالضباط الإنكليز كانت أقوى وأظهر. ولقد نال الإخوان من مضايقات البوليس السياسي الشيء الكثير.

2-   إنشاء جمعيات تحمل أسماء لامعة مهمتها حرب الإخوان، مثل جمعية الإصلاح الاجتماعي وجمعية إخوان الحرية وغيرها.

3-   محاربة الإعلام الإخواني بتهديد كل من يكتب، وتهديد المطابع، وتهديد شركات التوزيع.

4-   محاولة تصديع البناء الداخلي للإخوان وهو أخطر هذه الوسائل.

وأهم حلقة في هذا التآمر الداخلي ما يتعلق بالأستاذ أحمد السكري وكيل الجماعة.. والأستاذ السكري كفاءة لا شك فيها، وهو رجل نشأ في أحضان التصوف وتربى في البيئة التي تربى فيها الأستاذ المرشد حسن البنا في المحمودية.. وكان ذا مواهب يغبط عليها فهو خطيب مطبوع، وذو قوام فارع وسمت جميل وهندام جذاب، ومع أن دراسته لم تتجاوز الثانوية إلا انه كان ذا ثقافة واسعة.. ولننقل بعض ما جاء في مذكرات الإمام حسن البنا حول السكري، يقول: (إنه قائد موهوب ولكنه منصرف بهذه القيادة وهذه المواهب إلى السفاسف، مسرف في وقته لا يقدر له قيمة، قلبه مملوء بأوهام لا حقيقة لها، ومنصرف إلى ناحية لا تثمر إلا العناء، فالاعتماد عليه ضرب من المخاطرة العقيمة. والأخ الشيخ.. له أساليبه الخاصة به، وهو ينظر إليّ كأخ زميل، فلا يصغي لآرائي إلا قليلاً ومن هذه الناحية يكون توحيد الفكر ضرباً من التعسر، فالاعتماد عليه مخاطرة كذلك)(مذكرات الدعوة والداعية- حسن البنا).

ولقد سألت(المؤلف) أحد معاصري هذه الفتنة (ممن يوثق بحديثهم) فأضاف المزيد إلى ما ذكره الإمام المرشد.. قال: كان السكري يتملق الكبار والإخوان يكرهون التملق، وكان يحاول أن يظهر بمظهر الآمر الناهي وليس ذلك من خلق الإخوان. وعندما بدأ الإمام البنا يفوض بعض القضايا للأستاذ عبد الحكيم عابدين، اعتبر السكري ذلك تعدياً على اختصاصاته.. وبدت بوادر التمرد تلوح في الأفق.. واجتمعت الهيئة التأسيسية مرة في 13 مارس 1947م ومرة ثانية في 9 يوليو 1947م للفصل في هذا الأمر.. وكان الأمر واضحاً بعد عرض الأدلة.. فاعتذر السكري للجماعة وجدد بيعته للإمام المرشد.

ولم يكد الاجتماع ينفض وأعضاء الهيئة التأسيسية يصلون إلى مناطقهم حتى أعلن السكري استقالته من الإخوان، وبدأ يكتب في صحيفة الوفد سلسلة من المقالات يهاجم فيها الإخوان والإمام البنا.. تحت عنوان: كيف انحرف حسن البنا بالجماعة.

ولقد شغلت الأحداث، التي تمثلت بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947م بتقسيم فلسطين، والتعبئة التي أعلنتها الجماعة لدخول المعركة، شغلت الإخوان عن متابعة قضية السكري والآخرين الذين حاولوا في أحلك الظروف قصم ظهر الدعوة من الداخل.

5- بين الإخوان والوفد، في أعقاب سقوط حكومة صدقي باشا، برزت جماعة الإخوان كقوة حقيقية توجه الأحداث في مصر.. ولقد جرّ عليها ذلك ويلات من كل جانب. أحسّ الإنكليز بزعزعة وجودهم في مصر.. وأحسّ الملك فاروق أنه بمواجهة هيئة وطنية لا تساوم على مبادئها.. وأحسّ الوفد أكثر من غيره بأن مركزه الشعبي أصبح في خطر.. واقتنعت قيادات الوفد بأن خطورة الإخوان المسلمين عليه تفوق خطورة كل أعدائه، لأنها تنازعه الزعامة الشعبية التي هي رأس ماله. وأصدر الوفد جريدتين هما الوفد المصري وصوت الأمة وليس لهما من مهمة سوى التشنيع على الإخوان.. (واستغلت جريدة صوت الأمة قضية أحمد السكري وانفصـاله عـن الجماعة.. فنشرت له سلسلة من المقالات التي تهاجم الجماعة وتزعم أن الجماعة تتهاوى!).

لم تكن خسائر الإخوان من جراء هذه الحملة الشرسة ذات بال، فقد خرج من الجماعة عدد محدود من الأفراد.. كان وجودهم ضاراً بالجماعة..

وبدأ التوتر يتصاعد بين الإخوان وحزب الوفد منذ 21 فبراير 1946م، عندما أصرّ الإخوان أن تكون لهم تحركاتهم ومواقفهم المستقلة في التحرك الذي سمي يوم الجلاء ووحدة وادي النيل.. وأعلن مكتب الإرشاد في 21 مارس 1946م أنه لن يشترك مع أية هيئة أو حزب أو جماعة في تشكيلات أو لجان لا تحمل طابع الوحدة الكاملة الحقيقية لجميع الهيئات التي تمثل الشعب (خاصة وقد كانت اللجنة الوطنية التي أعلن الوفد عن تشكيلها كانت بقيادة الحزب الشيوعي (حدتو) والوفديين اليساريين).

في 17 أبريل انهارت العلاقات بشكل تام.. ووصل التوتر ذروته، وفي 6 يوليو 1946م اصطدم الإخوان مع الوفديين في بورسعيد. ورد الوفديون بمهاجمة المركز العام والنادي الرياضي وحرقوهما، وحوصر المرشد العام في أحد المساجد.. وطالب الوفد حكومة صدقي بحلّ فرق جوالة الإخوان ووضع حدّ لأعمال العنف الفاشية التي يرتكبونها(الحركات السياسية في مصر- طارق البشرى، ص- 108).

وعلى إثر توقيع اتفاقية صدقي – بيفن، ومواجهتها برفض وطني شامل.. حاول الوفد تشكيل لجنة اتصال تضم كافة الهيئات السياسية المعارضة للاتفاقية بغية إسقاطها.. ومثّل الإخوان في هذه اللجنة الدكتور حسن إبراهيم وأحمد السكري.

وعندما عاد الإمام حسن البنا من رحلة الحج حيث عقد هناك نوعاً من مؤتمر إسلامي مصغر مع ممثلي الفروع الإخوانية والمتآخية(الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية- إسحاق موسى الحسيني، ص- 137).. عرضت عليه أعمال هذه اللجنة.. فـدعا الإمام حسن البنا الهيئة التأسيسية إلى اجتماع طارئ، وعرض عليهم الاتفاق فأقروه واشترطوا عدة شروط ملزمة للجنة وهي:

    * أن يتعهد الوفد بعدم التفاوض مع الإنكليز إذا استلم الحكم إلا بعد أن يسلموا بالجلاء الناجز عن وادي النيل وبوحدته الحقيقية (أي وحدة مصر والسودان).

    * أن يستلهم روح الإسلام في كل الأوضاع الاجتماعية إذا ما عاد الوفد إلى الحكم.

    * أن يساهم في صندوق للجهاد يشارك فيه الجميع.

لقد أبطلت هذه الشروط الملزمة.. مكر الوفد الذي كان من الناحية العملية يكتل القوى إلى جانبه ليتسلم الحكم بعد إسقاط حكومة صدقي.

6-   الفتنة الطائفية، في هذه المرحلة الحرجة لجأ الإنكليز إلى أساليبهم الخسيسة، فهاجموا بعض الكنائس والمعابد، وتولت الصحافة الأجنبية إلصاق هذه الاعتداءات بالإخوان المسلمين(جريدة فيلادلفيا تريبيون (25/5/1947))، وقد ثبت أن هذه الأحداث كانت من تدبير الإنكليز. الأمر الذي أوقع الحكومة المدعومة من الإنكليز بشر أعمالها.

7-   إعلان الأحكام العرفية، كانت الأوضاع في داخل مصر في غاية الخطورة..

    * فالأحزاب لا يهمها إلا كرسي الحكم والتقرب من كل ما يقربها إليه.

    * والإنكليز يعيثون في الأرض فساداً.. يتحكمون بالأرض والشعب والقصر والسياسة في مصر.. ويمكنون لليهود في فلسطين.

    * واليهود وهم أقلية صغيرة، ولكنهم اليد اليمنى للمستعمر يملكون معظم الشركات والمرافق الهامة التي وضعوها في خدمة قيام دولة إسرائيل

كان رأي الإخوان أن تقليم أظافر المستعمر الغاصب، إنما يتم بتأديب أذنابه وبث الذعر في نفوسهم سواء في مصر أو فلسطين.

أما في فلسطين فقد كانت كتائب الإخوان تقوم بدورها الجهادي، إلى جانب الحركات الجهادية المخلصة في داخل فلسطين.

ومما يستحق التسجيل بالخزي والعار هو موقف الحكومة المصرية، حكومة الأحزاب الفاسدة من خدام القصر وسدنة نزواته.. فقد اتخذت من هذه الأحداث البطولية الرائعة وسيلة للتشهير والبطش بالإخوان(الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (المرجع السابق) 1: 487).

الصحافة الأجنبية تؤزم الموقف

في هذا الجو السياسي المتوتر لعبت الصحافة الأجنبية دوراً مشبوهاً في التحريض على الإخوان..

ففي 2 مارس عام 1946م كتبت مجلة (ذي تابليت) البريطانية مقالاً قالت فيه: (إن مصر تتولى الزعامة بين الدول الإسلامية التي فقدتها تركيا بعد الحرب الماضية وصحف القاهرة تهدد الآن جامعة الأمم البريطانية بجهاد ديني، وقد أكد صدقي باشا من جديد صداقته مع بريطانيا، ولكنه مصر على أن تنسحب القوات البريطانية فوراً).

ونشرت الصحف المصرية في نفس العام ترجمة لما جاء بإحدى كبريات الصحف الأمريكية عن حسن البنا، ووصفته شكلاً وثقافة وذكاء ومقدرة على حسن التصرف وعلى تملكه قلوب سامعيه وعلى سيطرته على المجتمع الإسلامي ثم عقبت على ذلك بقولها: (إن هذا الرجل هو أقوى رجل بالعالم الإسلامي اليوم، ولا يمكن أن يغلب إلا أن تصير الأحداث أكبر منه).

وقد حملت هذه العبارة القصيرة كل ما يبيتون من تخطيط وتآمر للقضاء على حسن البنا وجماعته، وهذا ما كشفت عنه الأيام القليلة التي أعقبت هذا النذير(الإخوان المسلمون في مصر- مصطفى محمد الطحان، ص- (101-105)).

مع الأخ الدكتور أبو الفتوح مرة ثانية

ولقد نفى الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، ما تردد عن إستقالته من الجماعة قائلا :  أن ذلك لا أساس له من الصحة وليس واردا أو مطروحا لديه، فجماعة الإخوان هي بيتي الذي بنيته وكنت خادما وحارسا له وكل ما هنالك أنني أعلنت سابقا في حال ترشحي للرئاسة فسأقدم استقالتي بشكل إداري فقط من الجماعة احتراما لموقفها من الرئاسة وحتى أكون مرشحا مستقلا لكن طالما لازلت أدرس الأمر فإن ذلك لم يحدث ، وما حدث مجرد عبث إعلامي وأمنى حيث أن أطراف وأجهزة الأمن لازالت تعبث بأجهزة الإعلام وأحذر من استمرار تلك الأطراف الأمنية.

ويذكر إن صحيفة المصري اليوم هي التي نشرت خبر استقالة أبو الفتوح على لسان القيادي الإخواني إبراهيم الزعفراني والذي أعلن أنه اتفق مع أبو الفتوح على الاستقالة.

وذكر أبو الفتوح في، برنامج 90 دقيقة، أنه بالرغم من أن هناك تقصير وأخطاء داخل جماعة الإخوان إلا أنه يشرفه الانتماء للجماعة واصفًا نفسه بأنه أمين على هذه الجماعة التي لابد من الحفاظ عليها لأنها تمثل الإسلام الوسطى المتسامح .

وعن انتقاده للمرشد مؤخرًا أكد أن المرشد ليس كهنوت بل أنه شخص عادى يخدم الإخوان، والدكتور بديع هو رجل لطيف جميل طيب الخلق فليس هناك أحد يعمل في عزبة أحد وبالتالي فالنقد متاح ومباح فكل أعضاء الإخوان شركاء في الجماعة التي لا يوجد فيها أجير .

وكلمة أخرى أقولها للإخوة الأعزاء.. وهم بكل تأكيد يعرفونها ويعايشونها.. أن لا نضم صوتنا بالنقد الجارح إلى أصوات الثورة المضادة التي لا همّ لها إلا تجريح الإخوان والنيل منهم.. لنصحح ولكن برفق.. ولنقل ولكن بدون تجريح حتى لا نكرر المآسي التي دفعنا ثمنها باهظا أيام حكومة الوفد.. وأيام حكومة عبد الناصر يوم استقطب فريقا من قيادات الإخوان.. فكانوا شجى في حلوق الإخوان.. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند..

فإلى إخواننا الذي نحب.. أهدافنا أكبر من قدراتنا.. وأساليبنا مازالت تئن تحت ضغط الواقع الكريه الذي عشناه مائة سنة أو يزيد ونحتاج إلى بعض الوقت لتلافيه وتصحيحه.

والحمد لله رب العالمين.

الكويت في 18/4/2011م

 
 

محمد سليم العوا يدعو الإخوان إلى البعد عن السياسة والاكتفاء بالأمور التربوية والدعوية

 (7) محمد سليم العوا يدعو الإخوان إلى البعد عن السياسة .. – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من مصر

قرأت المقال الذي كتبه الدكتور محمد سليم العوا الذي يدعو فيه الإخوان إلى البعد عن السياسة والاكتفاء بالأمور التربوية والدعوية.. وقرأت المقالات التي ردت على مقال العوا بين مؤيد ومعارض.

ولم أكن راغباً في الرد على الدكتور العوا.. فعندي ما يشغلني هذه الأيام حيث أكتب مذكراتي (أوراق مسافر) والتي تتضمن جولاتي في أركان الأرض الأربعة. والتي تناولت فيها شؤون المسلمين وأشواقهم.. وتعرفت على أوضاع المسلمين وحاجاتهم.. وأرى ذلك أولى بالاهتمام..

ولكن مقال العوا استثارني.. فقد بدا لي أنه متكلف.. وأنه في مجموعه يمثل هجوماً على الإخوان أكثر مما يمثل توضيحاً لفكرة.

أنا لا أريد أن أناقش فكرة الفصل بين السياسي والدعوي فهي دعوة متهافتة لم يقل بها إلا أعداء الإسلام.. فيوم ألغى أتاتورك الخلافة الإسلامية.. ألغى قبلها السلطنة عام 1923 أي الجانب السياسي من الإسلام.. واكتفى بالجانب الكهنوتي العبادي.. وبعد سنة أي عام 1924 ألحق الخلافة بالسلطنة.

جميع الأحزاب الغربية والعلمانية تطالب بفصل السياسي عن الدعوي تحت مسمى فصل الدين عن الدولة. وعندما تم هذا الفصل في معظم بلاد المسلمين، قامت عندنا مؤسسات دينية تتمثل في الحركات الصوفية وفيها الجيد والسيء.. وبالمقابل مؤسسات تعني بشؤون الحكم والسياسة لا دين لها ولا طعم ولا رائحة.

الدكتور محمد سليم العوا

هل هذا ما يريده الأستاذ العوا.. ولكنه جمّله بعبارات ألطف؟

الأمر الثاني: أريد أن أسأل الدكتور العوا.. ما هو الموقف الذي مارسه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أو في المدينة.. أيام الاضطهاد والتعذيب والتنكيل بالمؤمنين في مكة.. أو أيام الدولة التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وسلم  في المدينة وأصبح المسلمون فيها آمنين في سربهم يعيشون حياتهم كما يعيشها الناس الآخرون بدون إزعاج..

ما هو الموقف الذي يمكننا أن نصنفه أنه دعوي تربوي.. أو نصنفه على أنه سياسي.. لا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يخبرني إلا إذا كان متكلفاً.

عندما دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه في مكة للإيمان بالشهادتين.. لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. قال المشركون أن محمداً يدعو ليتمكن من إقامة سلطانه في مكة.. فإذا كانت كلمة التوحيد هي دعوة وتربية.. والسلطان سياسة.. فكيف فهم مشركو مكة أن الأمرين واحد ولم يكن رأسمالهم في المعرفة سوى فهمهم لمعاني اللغة العربية..؟

كيف فهم أبو جهل كلمة التوحيد التي أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو قومه إلى نبذ عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وأن يؤمنوا بالدين الحق وأن الله خالق كل شيء، وهو المحيي والمميت وإليه يرجع الأمر كله..

فقال: كنا وبني عبد مناف كفرسي رهان أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، حتى قالوا: منا نبي والله لا نؤمن إلا لنبي من بني مخزوم.. كيف فهم أبو جهل أن كلمة التوحيد تعني سلطان الإسلام.

في أواخر العهد المكي استراح المسلمون للتعذيب الذي يقع فوق رؤوسهم.. فهم يتعبدون ويصلون ويتحملون الأذى في سبيل الله.. وهذه هي الغاية التي يبغيها المسلم.. فبدأت آيات الذكر الحكيم تتنزل على المؤمنين.. تفهمهم أن القرآن الكريم تنزل على أمة حية تبني الحياة وتقيم العمران.. فانتفض المسلمون من أنسهم بالتعذيب في سبيل الله.

كيف نفهم صلح الحديبية وأين نصنفه.. في ظاهر الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار بالمسلمين لأداء سنة العمرة وهي عبادة محضة.. وإذا بالحدث قضية سياسية من الطراز الأول كما يقول العقاد في كتابه عبقرية محمد.

إن فصل السياسي عن الدعوي في الإسلام أمر محال.. قد يكون مثل هذا الفهم موجوداً عند من يقول: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.. وإن كنت أشك بهذا القول وبهذا الفهم.

الأستاذ عبد العزيز السيسي أحد الإخوان المصريين.. عاش آخر أيامه في الكويت.. فقد كان ممنوعاً من زيارة بلده، كان يقول لنا: أنا لن أبقى مع الإخوان.. ولكن الرجولة تقتضي أن لا أفعل ذلك اليوم.. ولكن عندما تنتهي المحنة فلن أبقى يوماً واحداً مع الإخوان.

نعم نحتاج إلى خلق الرجولة.. فكيف أسمح لنفسي أن أنتقد الإخوان وأطالبهم بتعديل منهجهم في الدعوة.. ثم أقول إن هذا الاقتراح قديم قبله فريق من الإخوان ورفضه أصحاب القرار؟ هل هو تحريض على أصحاب القرار؟

ثم إذا كان للدكتور العوا رؤية حول هذه الفكرة فلماذا لا يقبل أن يكون لدى قيادة الإخوان رأي مخالف؟

أليس الدكتور ممن يؤمنون بالحوار وبالرأي والرأي الآخر..؟!

كنت أتوقع: انطلاقاً من خلق الرجولة – أن يصدر العوا بياناً يرفض فيه مهزلة محاكمة قادة الإخوان أمام محاكم عسكرية خاصة وهو المحامي الأريب الذي يعرف هذه القضايا أكثر من غيره.

كنت أتوقع: أن يجمع العوا زملاءه الدكاترة وينطلق نحو مؤسسة الحكم.. يطالب بإطلاق سراح هؤلاء الشرفاء الأبرياء.

أنا لا أنكر ضرورة إقامة علاقات طبيعية وتواؤم مع المسيحيين داخل المجتمع المصري.. وأن يشغل ذلك الاهتمام في مؤتمر الإفتاء في عالم مفتوح.. ولكن هل المسيحيون مظلومون..؟ والكل يستجدي الاهتمام بهم والتقرب إليهم..؟

رمزي كلارك القانوني الأمريكي جاء متطوعاً يدافع عن الإخوان المظلومين.. ولما منعوه من دخول قاعة المحكمة.. قال أنه سيعقد مؤتمراً صحافياً في نيويورك يشرح فيه قضية الإخوان المسلمين وسيشرح هذه القضية في كل مكان يصل إليه.

لماذا فعلها كلارك ولم يفعلها المفتون في اتحاد علماء المسلمين خاصة وهم مهتمون بالعمل الإسلامي من رشيد رضا إلى (أبو العلا ماضي)( عنوان مقال كتبه الدكتور العوا يشيد فيه بحزب الوسط وبأبي العلا ماضي).

أم أن الأمر لا يستحق.. باعتبارهم بضع مئات.. أو أقل من ذلك لكن صوتهم عال.. (كما جاء في مقالكم).

والحمد لله رب العالمين

الكويت 18/7/2007م