RSS

عدن والرمال المتحركة

30 Jul

(2) عدن والرمال المتحركة – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من اليمن


مقدمة

بعد مرور أكثر من شهر على أحداث (13) يناير 1986م التي وقعت في عدن.. وعلى الرغم من إعلان فريق العطاس أنه يسيطر على الموقف، ومن الصمت المطبق الذي يلف تحركات الرئيس علي ناصر محمد الذي مازال البعض يصفه بالقيادة الشرعية.. على الرغم من ذلك فإن الوقت مازال مبكرا لأن نحكم على هذه الأحداث.

علي ناصر محمد و حيدر أبو بكر العطاس

وإذا كان العطاس قد قفز إلى السلطة في ربع الساعة الأخير كما ذكر محمد علي الهيثم رئيس وزراء اليمن الجنوبي السابق.. فإن في الوقت مزيدا من الاتساع للآخرين كي يقرروا الجهة التي ينضمون إليها.. فعوامل الداخل ومواقف الخارج.. وصراعات الأساطيل في المياه الممتدة أمام الميناء العريق.. كلها ستتدخل في تكامل الصورة التي مازالت أبعادها غير واضحة.

محمد علي هيثم

هل لهذه القسوة ما يبررها؟

جميع القوى المناهضة والصديقة كانت تتوقع الأحداث الأخيرة في اليمن.. ولكنها جميعا لم تكن تتصور أن تتم الأحداث بهذا العنف وهذه القسوة.. وسنحاول أن نلقي نظرة على الأحداث أولا، ومن ثم ندرس أسباب تحويلها إلى مجزرة يذبح فيها الرفيق رفيقه.. ويهدم الجميع الهيكل الذي تعاونوا معا على بنائه قرابة الخمس عشرة سنة.

فإذا أردنا أن نفهم الأحداث فلابد من الوقوف على النقاط التالية:

1- تشكل الجمهورية اليمنية الديمقراطية القسم الجنوبي من بلاد اليمن.. وهو القسم الذي يتحكم في مداخل البحر الأحمر، ويمتد على شاطئ المحيط الهندي، ويقع إلى الجنوب من المملكة العربية السعودية. حكمه الإنكليز منذ عام 1828م باعتباره أحد ركائز سفنهم في طريقها إلى الهند درة التاج البريطاني يومذاك.. وكان الإنكليز يعلنون بأن من حقهم أن يمتلكوا هذا الطريق.. كيف لا وهم إحدى دعامات الاستقرار العالمي! ولهذا فقد سيطروا على مصر والسودان، وملكوا شاطئ جزيرة العرب واليمن اعتبارا من الكويت وحتى عدن مرورا بالبحرين وقطر والإمارات وعمان، وبقيت منطقة اليمن الجنوبي عبارة عن قاعدة عسكرية ومعمل لتكرير النفط وأحياء لسكن الموظفين والعسكريين البريطانيين.. وباختصار كانت قاعدة لخدمة المستعمر وقوافله وجيوشه في المنطقة، وفي نفس الوقت أفلح الإنكليز في تقسيم اليمن الجنوبي إلى عشرات الإمارات والسلطنات الصغيرة وفي تعميق الشقاق بين القبائل والأقاليم على قاعدة فرق تسد.

2- وفي 26 سبتمبر 1962م قام الانقلاب العسكري في اليمن الشمالي بقيادة عبدالله السلال، وحدث التدخل المصري المسلح، وفي 14 أكتوبر 1963م ثار الشعب اليمني في جبال ردفان في الجنوب، وكان للتوجه المصري الناصري دور حاسم في تصعيد الصراع المعادي لبريطانيا.. وأحبت بريطانيا أن ترد التحية فغلّبت كفة الجبهة القومية وسلمت الحكم في 30 نوفمبر 1968م لقحطان الشعبي على حساب جبهة التحرير بزعامة عبد القوي مكاوي الذي تؤيده القاهرة.. وهكذا بدأت الصفحة الأولى للصراع فاعتقلت عناصر جبهة التحرير.

قتلوا بعضهم وفر إلى الخارج بعضهم الآخر ومازال زعيمهم عبد القوي مكاوي يتحين الفرصة للانقضاض على إخوان الأمس أعداء اليوم.

3- وبعد الاستقلال مباشرة بدأت شخصيات معينة تطرح الشعارات الاشتراكية والماركسية في إطار الجبهة القومية ومن هذه الشخصيات: عبد الله الغامدي، وعبد الفتاح إسماعيل، وعلي صالح عياد، ومحمد صالح مطيع، وسلطان أحمد عمر، وعبد الله الأشطل، وكان أبرز هؤلاء عبد الفتاح إسماعيل.

وفي المؤتمر الرابع للجبهة القومية الحاكمة الذي عقد في مدينة زنجبار (المحافظة الثالثة) ونتيجة للطرح الاشتراكي انقسمت الجبهة إلى جناحين:

    * يساري متطرف بقيادة: عبد الفتاح إسماعيل وسالم ربيع علي.

    * ويميني بقيادة قحطان الشعبي الذي أصبح رئيسا للجمهورية.

4- وكانت الصفحة الثانية للصراع، بالانقلاب الذي قاده الفريق اليساري ضد اليمينيين يوم 22 يونيو 1969م والذي أسفر عن مجازر في صفوف الرفاق دفعت إلى المقصلة رأس الرئيس قحطان الشعبي وابن عمه فيصل الشعبي وأعداداً كبيرة من أنصارهم، وأسفرت عن تشكيل مجلس رئاسة من عبد الفتاح إسماعيل، وعلي ناصر محمد، وسالم ربيع علي، واحتفظ عبد الفتاح إسماعيل بأمانة الحزب ومن أهم منجزات هذه المرحلة:

    * تغيير اسم البلاد إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كدلالة على التوجه السياسي والعقائدي الماركسي.

    * تطهير القوات المسلحة من العناصر التي لا تدين للقيادة الجديدة بالولاء.

    * تشكيل ميليشيات حزبية تحت إشراف مباشر من عبد الفتاح إسماعيل.

5- وبدأت الصفحة الثالثة للصراع منذ مطلع السبعينات وتفاقمت في الفترة (1975- 1978م) عندما انضم كل من علي ناصر محمد، وعلي عنتر، ومحمد سعيد اليافعي، مسؤول الأمن إلى جناح عبد الفتاح إسماعيل.

وكالعادة فقد اتهم جناح عبد الفتاح إسماعيل الرئيس سالم ربيع علي بأنه يريد أن ينفرد بالسلطة فقاموا ضده بانقلاب عسكري اسفر عن إعدامه مع عدد كبير من أنصاره، وقد دارت إثر ذلك معارك عنيفة بين المعارضين والموالين للشرعية (كما كانوا يطلقون على أنفسهم) نتجت عنها تصفية هؤلاء وتطهيرهم بالكامل من صفوف الجيش والسلاح الجوي والأمن العام.

وتقاسمت العناصر المنتصرة السلطة فكان من نصيب عبد الفتاح إسماعيل قيادة الحزب وعلي ناصر محمد رئاسة الدولة وعلي عنتر وزارة الدفاع.

6- وسرعان ما بدأت الصفحة الرابعة للصراع بالظهور عندما استطاع علي ناصر محمد عام 1980م إبعاد عبد الفتاح إسماعيل إلى موسكو بعد أن جرده من كافة مناصبه.. وعندما عاد بوساطة سوفياتية عام 1985م بدأ يستقطب القوى ويكتلها ضد الرئيس علي ناصر محمد.. وبذلك كانت الصفحة الخامسة لهذا الصراع المرير الدائم.

7- فكيف كانت الأحداث الأخيرة؟

تضاربت الأنباء وتنوعت البيانات التي تشرح الأحداث الأخيرة التي وقعت يوم 13 يناير 1986م في عدن.. ففي حين يدّعي الرئيس علي ناصر محمد بأن الفريق الآخر حرك قطعات الجيش واحتل المواقع الهامة في العاصمة بحجة أن إسرائيل تعد لضرب القوات الفلسطينية المتواجدة في اليمن الجنوبي.. وأعدوا كل شيء لقتل الرئيس وأنصاره يوم اجتماع المكتب السياسي للحزب الحاكم يوم 13 يناير 1986م، فيما يدعي الفريق الآخر الذي انتصر في النهاية بأن علي ناصر محمد هو الذي أعطى الأوامر لحرسه الخاص بتصفية خصومه عند حضورهم اجتماع المكتب السياسي، الأمر الذي مكّنه من قتلهم جميعا في اليوم الأول للأحداث.

ومهما يكن الأمر.. ومهما تكن الرواية الصحيحة فليس هذا ما يهمنا في هذا التحليل.. الذي يهمنا جملة أمور تستحق التأمل والتوقف عندها:

أولا- طبيعة الأنظمة القائمة على الانقلابات

إن الذي جرى في عدن على الرغم من إبراز الإعلام الغربي وبالتالي العربي لأحداثه.. وتركيزهم على الطريقة التي قتل فيها الرفاق بعضهم البعض.. وكيف دمروا بأيديهم ما بنوه في سنوات حكمهم.. على الرغم من ذلك فإننا نقول إن الذي حدث في عدن الماركسية هو الذي يحدث في جميع البلدان العربية بل الإسلامية فالحرب المستمرة في لبنان والتي قتلت شعبا بأكمله.. والحرب التي سحقت الشعب السوري في حماة وحلب وبقية المناطق.. والإرهاب في ليبيا ومصر.. والحرب المستمرة بين الجزائر والمغرب.. أو بين تشاد وليبيا.. أو بين تونس وليبيا.. أو بين ليبيا ومصر.. أو بين العراق وسوريا.. أو بين العراق وإيران.. أو بين اليمن واليمن.. أو بين عدن وعمان.. وغيرها، ما هي إلا حروب القيادات العربية التي تريد أن تحقق عن طريق الحرب زعامة دائمة ونصراً مؤزراً على الخصوم السياسيين، لا يهمهم عدد القتلى أو تدمير المدن أو تنكيس السلاح.. كل الذي يهم هو انتصار الزعيم، يتساوى في ذلك الماركسيون مع الليبراليين والثوريون مع الرجعيين.. والرؤساء الجمهوريون مع الملوك.. فما من انقلاب حدث في أي بلد من البلدان إلا وانقسم المنتصرون إلى قسمين.. صفى القسم الأول الفريق الآخر.. ثم انقسموا مرة ثانية ومرة ثالثة شعارهم الدائم: الشعار الذي رفعه الشيطان يوم قيام الثورة الفرنسية أن الثورات تأكل نفسها كما تأكل القطة أبناءها.. لا يهم الفرقاء مع من يتعاونون مع اليمين أو اليسار مع الروس أو الأمريكان مع الجيران أو البعيدين المهم أن ينتصر الزعيم ويثبت الكرسي العتيد.

إن التغيير الذي يحدثه العنف.. ينتهي بتغيير آخر عن طريق العنف كذلك ويشرب الفرقاء من نفس الكأس الحاقد المشؤوم.. ومن هنا حرص الإسلام على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.. حتى إذا حدث التغيير يكون تغيير قلوب لا تغيير قوالب وتغيير إيمان لا نفثات شيطان.

ثانيا- في سبيل الكرسي تسقط النظريات

القومية العربية التي تبنتها جبهة التحرير، والاشتراكية العربية التي تبنتها الجبهة القومية في أيامها الأولى، والاشتراكية العلمية أو الماركسية التي تبناها الحزب الاشتراكي اليمني الذي يقود البلاد خلال السنوات الأخيرة.. كل هذه الأسماء والأحزاب والعقائد.. لم تكن أكثر من قشرة سطحية تحيط برجالات السلطة.. وتحت هذه القشرة مازال السلطان للقبائل التي وزعت بريطانيا ولاءاتها وأوقعت العداوة والبغضاء بين رؤسائها، وجاءت القشرة الحاكمة لتستغل هذه الخلافات فتحول الماركسيون إلى قبائل تتصارع على السلطة وتأكل بعضها بعضا.

كانت عدن مستعمرة بريطانية، ميناؤها ومصفاتها وقواعدها العسكرية لخدمة بريطانيا العظمى!.

واليوم عدن قاعدة متقدمة للخدمات السوفياتية، فللاتحاد السوفياتي عدة قواعد برية وبحرية وجوية، أهمها في العاصمة عدن في منطقة (فقم) ومنطقة (بين الجبلين) وهي قاعدة جوية كبيرة كانت في الماضي قاعدة للإنكليز. وهناك قاعدة بحرية للسوفيات في ميناء عدن (التواهي)، وثمة قواعد فرعية في المحافظة الثانية (الجبلين) والمحافظة الرابعة (عتق) والمحافظة الخامسة (المكلا)، أما المحافظة السادسة التي تضم جزيرة سقطرة فتوجد فيها قاعدة بحرية وجوية كبيرة، وهذه الجزيرة تقع في المحيط الهندي وعلى حدود سلطنة عمان، وأنشئت منذ مدة قاعدة للقوات الكوبية  في منطقة يافع السفلى (الرميلة) الواقعة بين مدينة الحصن وجعار، فما الذي تغير غير استبدال سيد بسيد؟ وأين صارت حقيقة الشعارات؟!

كانت عدن قاعدة إمبريالية ينهب خيراتها علوج الاستعمار..

أما اليوم فشلة السلطة تسكن نفس البيوت والمساكن ويحتلون نفس مواقع الضباط الإنكليز (فعلي ناصر محمد يتمتع بخصوصية المطعم العسكري البريطاني السابق، وكان في مطبخه أفضل أقداح النبيذ، وكان يلعب كرة الطاولة في القاعة الزجاجية المطلة على الشاطئ في الأوقات الفاصلة بين جلسات القات، والمنزل مجهز بسلع غير بروليتارية مثل تقليد لأثاث لويس السادس عشر وأجهزة هاتف أمريكية الصنع وأشرطة كاسيت مسجل عليها سيمفونيات تشايكوفسكي، أما بيت عبد الفتاح إسماعيل فكان إحدى الفلل الفخمة المبنية لضباط البحرية الملكية البريطانية، وتقع في شبه جزيرة محاطة بالأشجار تطل على الميناء وسيارة ليموزين حديثة على مدخل الفيلا(التايمز البريطانية (11/2/1986م)).

أما شعب اليمن الجنوبي فهو من أفقر عباد الله يهاجرون ويضربون في الأرض ابتغاء الرزق ولم يتغير في بلادهم قبل الاستقلال وبعده غير استبدال فريق ليبرالي بفريق اشتراكي.

ثالثا- طبقة حكم أم فريق مافيا !

الأحداث في عدن كانت انقلابا وانقلابا مضادا..

كل فريق يتربص بالفريق الآخر ويخطط لذبحه مع أنصاره..

وتواعد الفريقان على اجتماع المكتب السياسي للحزب الحاكم يوم 13 يناير 1986م وأمر علي ناصر محمد حرسه بتصفية الخصوم.. وكان الخصوم في نفس الوقت على موعد مع السلاح..

انقسم الجيش.. وهاجمت الطائرات والدبابات قصر الرئاسة..

وبدأ كل فريق يطلق الرصاص وفي جميع الاتجاهات من شارع إلى شارع ومن مؤسسة إلى المطار إلى الميناء في أشد قتال يمكن تصوره.. كانت الشوارع ممتلئة بآلاف السيارات وناقلات الجنود والدبابات المحروقة.. وحتى الطائرات فقد تم إعطاب بعض المقاتلات والقاذفات وهي جاثمة على الأرض، كما تم في الوقت نفسه تدمير مدرجات المطار بواسطة قذائف مدافع الهاون وغيرها حتى تصبح هذه المدرجات غير صالحة للإقلاع والهبوط.

لقد جرت تصفية جميع المسؤولين تقريبا في الخدمة المدنية والإدارات التنفيذية للوزارات..

بعد توقف القتال انكشفت في عدن قبور جماعية تفضل الحكومة عدم الحديث عنها ولم تسمح للمراسلين الأجانب بزيارتها.

إن عدداً كبيراً يتجاوز العشرة آلاف سقط في عدن بين قتيل وجريح، معظمهم من رجال الميليشيا أو من مسؤولي الحزب.. وللحقيقة فإن النظام الذي انتصر أخيرا قد قام دون رحمة بتصفية خصومه الحزبيين بنفس الطريقة التي حاول بها علي ناصر محمد تصفية أعدائه في 13 يناير 1986م.

فهل يتصور إنسان أن هؤلاء الذين يتقاتلون هم رجال حكم يهمهم خير البلاد والعباد.. أم فريق مافيا يشهر أحدهم سلاحه قبل أن يتمكن رفيقه من إشهار المسدس والقتل!

رابعا – موقف الآخرين

وإذا كانت عدن ابتليت بمجموعة ربتها بريطانيا في حجرها وألبستها موضة هذا الزمان لباس الاشتراكية والتقدمية.. وأطلقتها تخرب البلاد وتقتل العلماء وتسحلهم في الشوارع.. وتؤمم كل شيء حتى الفقر.. فماذا كان رد فعل الأقربين والجيران والدول الاستعمارية الأخرى..؟

كانت جميع القوى متفرجة على مسرح الجريمة، شامته أو راغبة بالمزيد من سفك الدماء.. أو محرضة لهذا الفريق أو ذاك. ولم يتحرك أحد غير منظمة التحرير في محاولة لوقف سفك الدماء.. سرعان ما تراجعت خوفاً من الأبواق المأجورة..!

هذه هي قصة المأساة في عدن.. لا مأساة شرذمة من الأجراء الذين يتدافعون لمقاعد الحكم الأولى في كل فترة.. وإنما مأساة شعبنا المسلم الصابر في عدن في بلاد اليمن..!

يناير 1986م

 
 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *