RSS

Category Archives: خواطر حول العالم

الإمام حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين

(4) الإمام حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من مصر

الأستاذ حسن الهضيبي

عندما يتحدث الشباب المسلم عن دعوة الإسلام في العصر الحديث، فإنهم يتحدثون تلقائياً عن الإمام المؤسس حسن البنا رحمه الله، يتناولون سيرته ويستشهدون بكتاباته ورسائله.. ويجدون دائما القائد الراشد، والمرشد الأمين.. والرائد المبدع.

وعندما يصل الأمر إلى الإمام حسن الهضيبي.. تراهم، مع حبهم الشديد لشخصه، وإعجابهم بصموده وصبره.. يصمتون في أكثر الأحيان، فمعلوماتهم عن الرجل قليلة، ماذا عساهم يعرفون عن الرجل وقد انتقل من محنة إلى محنة إلى محنة حتى توفاه الله يوم الحادي عشر من نوفمبر عام 1973م.

في 8 ديسمبر 1948م أصدر رئيس وزراء مصر النقراشي قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها جماعة إرهابية تهدف إلى قلب نظام الحكم في البلاد.. وفند الإمام حسن البنا دعوى الحكومة فقال: (مستحيل أن يكون الدافع الحقيقي لهذه الخطوة الجريئة من الحكومة مجرد الاشتباه في مقاصد الإخوان، أو اعتبارهم مصدر تهديد للأمن والسلام، وهو ما لم يقم عليه دليل ولا برهان، ولكن الدافع الحقيقي فيما نعتقده هو اللقاء الذي عقده سفراء بريطانيا وامريكا وفرنسا في فايد وكتبوا لدولة النقراشي باشا في صراحة بأنه لابد من حل جماعة الإخوان المسلمين).

وكان في وسع دولته أن يزجرهم عن مثل هذا التدخل في شأن داخلي بحت.. ولكنه بدلا من ذلك استجاب لهذه الرغبة الآثمة وأصدر قرار الحل، فأشمت الأعداء، وأحزن المؤمنين الأتقياء.

وبدلا من أن تتراجع الحكومة عن خطئها.. فقد تمادت وتآمرت وقتلت الإمام حسن البنا في 12 فبراير 1949م، فصار الإخوان بين شريد وطريد، وبين معتقل أو سجين.

في هذه الظروف العصيبة بدأ تفكير الإخوان يتجه إلى ضرورة انتخاب مرشد جديد للجماعة. فلا يجوز بحال أن تبقى السفينة بغير ربان.. وبخاصة إذا كانت العواصف هوجاء والظلمات حولها تمتد من كل جانب.

تداول الإخوان في هذا الأمر ووقع اختيارهم على الأستاذ حسن الهضيبي.. وعندما فاتحوه اعتذر في البداية بشدة وقدم لذلك أسبابا عدة أهمها أنه كان بعيدا عن صفوف وتنظيمات الجماعة، وكذلك عدم معرفته بكثير من الأفراد، غير أنهم تمسكوا به مفندين لهذه الاعتذارات واعدين أنهم سيكونون سندا له وعونا في قيامه بهذه المسؤولية الخطيرة، وأخيرا قبل على أن يكون هذا الوعد أحد الشروط ،والشرط الآخر هو موافقة أعضاء الهيئة التأسيسية بالإجماع على اختياره.

وتم اختياره فعلا من الهيئة التأسيسية بالإجماع في أكتوبر سنة 1951م.

وقد دلت حادثة اختياره على أن الرجل حريص على الشرعية، فلابد من انتخابه من الهيئة التأسيسية.. وحريص على وحدة الجماعة.. فلابد لانتخابه أن يكون بالإجماع.. وكان واضحا عند الرجل أنه سيترك منصبه الكبير في القضاء، وسيصبح مرشدا عاما للإخوان المسلمين، مع ما يستتبع ذلك من مهمات وتبعات، خاصة والجماعة مازالت تحت وطأة قرار الحل وكثير من أعضائها ما يزالون في السجون.. ومع ذلك فلقد كان اعتذاره في البداية واشتراطاته في النهاية كلها لمصلحة الجماعة ووحدة صفها، ولم يشترط لنفسه أو لأسرته أو لموقعه أو لراتبه أو لأمنه أية شروط على الإطلاق.

وللمرشد في نفوس الإخوان مكانة المعلم للتلاميذ، والأب للأبناء، والسياسي في موطن السياسة، والكاتب في ميدان الكتابة، والخطيب الذي لا يشق له غبار في موطن الخطابة.

كان أحدهم إذا رزق بمولود قدم من الصعيد إلى القاهرة ليسأل الإمام المرشد عن اسم يختاره لابنه.. فالمرشد في نظره كل شيء.. هكذا كان حسن البنا.. وهكذا انتظر الإخوان من حسن الهضيبي أن يكون.

وبدأ الإخوان يفدون إلى حسن الهضيبي، كل يحدثه بما يراه من خطأ يلزم إصلاحه في نظام الجماعة أو في رجالها.. وكان هؤلاء في شأن.. والإمام الهضيبي في شأن آخر.. فهو ليس مرشدا مؤسسا يستمع لكل الناس ويتحدث في كل مناسبة، ويقول رأيه في كل الأحداث، يسافر ويناظر ويحاور.. بل هو مرشد آخر جاء والجماعة تملأ شعبها مصر وفي كثير من البلدان العربية الأخرى.. وتعاني من تآمر الغرب وأذنابه عليها، وتخوض محنة الحل والسجن.. وتنظر إليها جميع القوى العالمية بحذر، فهي التي تريد اقتلاع النفوذ الغربي، وتطالب بتحرير فلسطين.

كان الرجل قاضيا في المحكمة.. وكذلك أحب أن يبقى.. وما أحوج الجماعة في هذه المرحلة إلى مرشد في منصب قاض.

وإذا كان حسن البنا هو المناسب للمرحلة الأولى.. فمما لاشك فيه أن حسن الهضيبي هو رجل المرحلة التالية.. ولكل مقام مقال ورجال.

في زيارته لسوريا عام 1954م تحدث إلى شباب الإخوان في مدينة حماة عدة جمل.. بل عدة كلمات لو وزنتها بالذهب لرجحت عليه.. ولكن جماهير الشباب كانت تريد الخطيب.. وكان يدرك ما يريدون فقدم لهم سعيد رمضان ليطربهم بخطاب يناسب حماسهم وقوتهم.

وإذا كانت لكل مرحلة ظروفها ووسائلها.. فقد عمل الإمام الهضيبي على إعادة تشكيل الأمور.. وإعادة النظر في بعض الوسائل بما يناسب المرحلة الجديدة..

ولقد تحمل الأستاذ المرشد في هذه المرحلة من إخوانه الشيء الكثير.. تمردوا عليه، واحتلوا المركز العام، وطالبوه بالاستقالة، وكان له هنا موقف.. كما كان له هناك موقف آخر.

موقفه الاعتذار يوم عرضوا عليه، وموقفه هنا التماسك والثبات ومعالجة الأخطاء وفصل المتطاولين.. فهو راع ومسؤول.. وسيحاسبه الله عن مسؤوليته وعن رعيته.

وعندما حانت ساعة تنفيذ انقلاب 23 يوليو 1952م اتصل الضباط الأحرار بالإخوان المسلمين وسألوهم عن مدى استعدادهم للقيام بدورهم في الانقلاب.. وعندما عرض الإخوان ذلك على الإمام حسن الهضيبي، وجه إليهم عدة استفسارات أهمها مدى تمسك هؤلاء الضباط بالإسلام، ومدى التزامهم في قولهم بالعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وهل تم الاتفاق في وضوح وصراحة على هذا الأمر؟

وهل اتفق على المشاركة الكاملة بين الإخوان والضباط الأحرار في الانقلاب والمسؤولية إزاءه.. والتعاون في تنفيذه وبعد نجاحه.. وفي النهاية أعطاهم المرشد موافقته المشروطة بالأمرين السابقين.

وأقسم الضباط على الشروط.. وجددوا بيعتهم التي أدوها منذ سنوات..

لم يكن حسن الهضيبي ممن يؤمنون بالعنف، أو بحرق المراحل والانقلابات، ولكنه كان يعلم أن الانقلاب العسكري أمر واقع.. وأن التفاهم مع ضابط الاستخبارات الأمريكي كوميت روزفلت قد تم.. وكانت موافقة الجماعة قضية شكلية لا أكثر(يراجع في ذلك كتاب لعبة الأمم لمايلزكوبلاند).

وفي يوم 30 يوليو – وبعد الانقلاب- تم اللقاء بين المرشد العام وعبد الناصر، ودار الحديث بينهما من منطلق ما اتفق عليه.. غير أن عبد الناصر بدأ يتنصل شيئا فشيئا من بعض الالتزامات التي تقتضيها المشاركة المتفق عليها.

أبدى المرشد العام عقب انصرافه من اللقاء عدم اطمئنانه إلى اتجاه هذه الحركة، وعدم ثقته بالقائمين عليها.. فلا مجال للثقة بمن ينقض العهود أو يكذب في المواثيق.

وكانت نظرة الهضيبي ثاقبة في هذا المجال.. ففي الوقت الذي اندفع فيه بعض الإخوان بلا حدود في تأييدهم لحركة الجيش.. كانت الصورة واضحة جدا أمام الرجل.. وفي يوم 13 يناير عام 1954م صدر بيان مجلس قيادة الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين.. وبزج قادتهم في السجون.. وكان على راسهم بالطبع الإمام حسن الهضيبي.. وكرر التاريخ نفسه، فليس هناك فرق بين طغيان يلبس الطربوش.. وبين طغيان يلبس قبعة العساكر.

كان سلوك عبد الناصر مع الإخوان يتلخص في كسب الوقت مع محاولة إيجاد ثغرات في صفوفهم لينفذ من خلالها لضربهم وتصفيتهم.

حاول ذلك عن طريق أخذ بعض شخصيات الإخوان في الوزارة بدون علم الجماعة.. فاجتمع مكتب الإرشاد وقرر عدم الاشتراك في الوزارة.. وعندما قبل الباقوري المنصب فصله الإخوان.

وحاول الاتصال بعبد الرحمن السندي وكان مسؤول الجهاز الخاص الذي فصله الهضيبي.. في محاولة لشق صف الجماعة وضرب فريق بفريق.

وحاول إيهام الناس بأن للإخوان علاقة بالأجانب وأنهم يتآمرون مع الإنكليز.. واحتقر الناس هذا الكلام.. فلا يمكن للشعب أن ينسى وبهذه السرعة كتائب الإخوان تجاهد في القنال.. أو كتائب الإخوان تقاتل في فلسطين.

حاول ضرب الإخوان بهيئة سياسية مصطنعة أسماها هيئة التحرير، وليس لها من قيمة الهيئة أو الحزب إلا بمقدار ما كان ينفق عليها من أموال الدولة لتجميع المحاسيب والقيام بمظاهرات تهتف بسقوط العلم والمتعلمين، وسقوط الحرية والأحرار.

كان الاتفاق المشبوه الذي وقعه قادة الانقلاب العسكري مع الإنكليز، وكانت معارضة الإخوان العلنية للاتفاق، الشعرة التي قصمت ظهر البعير بين الإخوان والثورة..

ولقد ذكر الإخوان في معارضتهم أنهم يطالبون بجلاء الإنكليز من مصر بدون قيد أو شرط.. وأن قبول المفاوض المصري بإبقاء عدد من القواعد العسكرية صالحة ومعدة للاستخدام تعود إليها القوات البريطانية إذا ما هوجمت دولة من دول معاهدة الدفاع المشترك أو تركيا! بل وإن الاتفاق الذي اباح للإنكليز العودة إلى مصر لم يحدد لخروجهم بعد ذلك أمدا طويلا أو قصيرا.. ثم ذكر الإخوان في بيان اصدروه رفضهم لهذا الاتفاق، ويصرون على أن أي اتفاق بين الحكومة المصرية وأية حكومة أجنبية لا يجوز أن يتم دون أن يعرض على برلمان منتخب.. فما كان لأحد أن يتحكم في مصائر الشعب دون الرجوع إليه.

لقد كانت نظرة الإخوان صائبة سديدة فلم تتخلص مصر من الإنكليز إلا بعد معركة عام 1956م.. وهو ما كان يؤكده الإخوان من أن هؤلاء لا يخرجون بغير قتال.

1983/12/12م

 
 

المحنة في حياة حسن البنا

(3) المحنة في حياة حسن البنا – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من مصر

 الإمام الشهيد حسن البنا

تكاد تجمع الأمة في العصر الحديث على الدور الرائد الذي قام به الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله). فهو مؤسس الحركة الإسلامية في العصر الحديث.. أنشأها في مصر وانتقلت منها إلى جميع أطراف الدنيا.

ولقد كتب الله عز وجل على يد هذا الرجل من التوفيق الشيء الكثير.. حتى إن معظم الإسلاميين هذه الأيام لا يكادون يجمعون على أمر أكثر من إجماعهم على احترام شخصية الإمام حسن البنا.. وحتى أولئك الذي يخالفون طريقه وفكرته ينسبون أنفسهم إليه.

ولقد شق الإمام حسن البنا – شأنه شأن جميع المصلحين- طريقه في غاية الصعوبة. وإذا كانت شخصية الرجل، وقوة حجته، وعمق تفكيره، وأناته، وصبره، مكنته من التغلب على الكثير من التحديات والمصاعب التي واجهته، فإن ذلك لا يعني إهمالنا لهذا الجانب الهام والخطير في حياة الدعوة والدعاة.

والمحنة من مستلزمات الدعوة. قال الله تعالى: (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(العنكبوت (1-3)).

وقال أيضا: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)(الأنعام- 112).

وطريقة معالجة المحنة والخروج منها من أهم المواصفات الي ينبغي أن تتوافر في القيادات.. فالمحن واقعة لا محالة.. وعلى حكمة القائد وصبره وحسن تدبيره تتوقف النتيجة.. فتتحول المحنة إلى كارثة أو إلى فائدة.

منذ الأيام الأولى.. عندما قامت الدعوة بالإسماعيلية وأخذت تكتسب كل يوم موقعا جديدا على أرض الواقع وفي نفوس المخلصين الخيرين من ابناء هذه البلدة والبلدان المجاورة، بدأ شياطين الإنس بتدبير المكائد وإشاعة قالة السوء.. ولنترك الإمام يحدثنا عن بعض هذه المواقف:

(فإنه ما كان يظهر إعجاب الناس بالدعوة والتفافهم حولها، وتقديرهم للعاملين لها حتى أخذت عقارب الحسد والضغينة تدب في نفوس ذوي الأغراض، وراحوا يصورون الدعوة والداعين للناس بصور شتى: فهم تارة يدعون إلى (مذهب خامس)، وهم أحيانا شباب طائش لا يحسن عملا ولا يؤتمن على مشروع، وهم أحيانا نفعيون مختلسون يأكلون أموال الناس بالباطل وهكذا)(مذكرات الدعوة والداعية، ص-(74-75)).

(وعندما استطاع الإخوان أن يبنوا مسجدهم وآذن بالنهاية الموفقة، اشتدت تبعاً لذلك الدسائس والفتن، وقام المغرضون من كل مكان يريدون الحيلولة دون تمام هذا العمل النافع، فلم يجدوا سلاحاً إلا الدس والوشايات والعرائض المجهولة فكتبوا بهذا إلى السلطات المحلية بالإسماعيلية من البوليس والنيابة وغيرها.

ولما لم يجدهم ذلك نفعاً كتبوا عريضة بتوقيع لفيف من أهالي الإسماعيلية إلى رئيس الحكومة رأساً ضمنوها أموراً غريبة منها: أن هذا المدرس شيوعي متصل بموسكو، وهو وفدي يعمل ضد النظام الحاضر(مذكرات الدعوة والداعية، ص-80)، وعندما قدمت هيئة قنال السويس تبرعا بمبلغ 500 جنيه لمشروع المسجد (ثارت ثورة المعترضين وانطلقت الإشاعات تملأ الجو (الإخوان المسلمون يبنون المسجد بمال الخواجات) وآزرتها الفتاوى الباطلة ممن يعلم وممن لا يعلم).

وعندما اقترح أحد الإخوان أن نحيي هذه السنة ونقوم بصلاة عيد الفطر في ظاهرة المدينة قامت حملة عنيفة.. (ومن الذي يقول: إن الشارع أفضل من الجامع.. وكانت حملة ويا لها من حملة..).

ولم يكتف المعترضون بذلك.. (بل وأشاعوا بأن الإمام البنا يقول للناس في دروسه اعبدوني من دون الله. وأن الإخوان المسلين يعتقدون بناء على ذلك أن الشيخ البنا إله يعبد وليس بشراً ولا نبياً ولا ولياً ولا شيخاً.. ولقد تحرينا مصدر الإشاعة فعرفنا أن الذي يذيع هذا شيخ عالم يشغل منصباً دينياً ويصدقه الناس فيما يقول)(مذكرات الدعوة والداعية، ص-(104-105))، ويوم قرر الإمام حسن البنا ترك الإسماعيلية والانتقال للقاهرة اقترح على إخوانه أن يتولى الشيخ علي الجداوي مسؤولية المركز من بعده فوافقوا عليه بالاجماع في فرح شامل وسرور عجيب بهذا الاختيار.. (واغتاظ من هذا الاختيار شيخ أريب أديب عالم فقيه لبق ذلق اللسان واضح البيان.. وكان محترما من الجميع فتطلع إلى أن يكون رئيسا للجماعة في الإسماعيلية.. ولم يسلك إلى تحقيق هذه الرغبة طريقها الطبيعي وهو الإخلاص في العمل والتفاني في خدمة الدعوة، ولكنه سلك إليها الطريق الملتوية، طريق الدس والتفريق والوقيعة. هل يستوي الشيخ على الجداوي (النجار) مع الأزهري الذي يحمل العالمية!، وتعلل هؤلاء أن الإخوان لم يكونوا جميعا حاضرين، وكانت الدعوة مفاجئة، لم يكن المقصود منها معلوما!.. وبعد الاقتراع الثاني.. انفرد كذلك هؤلاء الأربعة والذين أرادوا أن يفرضوا رأيهم على أكثر من خمسمائة أخ. ولكن النفوس إذا تمكن منها الهوى في ناحية فإنه يعميها عن الخير ويصم أذنها عن الحق وكذلك كان..

فبدأ هؤلاء يذيعون عن الدعوة والجماعة السوء في ثوب النصيحة والإشفاق.. ولما فشلوا تقدموا للنيابة ببلاغ يقولون فيه: (إن حسن أفندي البنا رئيس الإخوان المسلمين يبعثر في أموال الجماعة!. وتلت ذلك البلاغ بلاغات وإشاعات انتهت وانتهوا معها فكل من يفقد إدراكه لسمو الدعوة ويفقد إيمانه بها لا خير فيه في صفها..)(المصدر السابق، ص-(106-113)).

أما الفتن في القاهرة فكانت أدهى وأمر.. فبينما كانت الجماعة في أزهى ايامها تشق طريقها بثقة، وتكتسب كل يوم موقعا جديدا، إذ بالأخ أحمد رفعت يعترض على كل ما تتخذه الدعوة من أساليب، ويدعو الإخوان إلى أساليب أخرى.. ويتجمع حوله نفر من الإخوان فلا يدعون اجتماعا عاما أو خاصا ينعقد في المركز العام إلا وفرضوا أنفسهم عليه وتحدث فيه أحمد بالأسلوب المهاجم الذي لا يقبل مناقشة ولا معارضة، فتعطلت بذلك الاجتماعات والدروس وحتى حديث الثلاثاء.. ولقد حددت هذه المجموعة مطالبها في ثلاث بنود:

الأول: أنه يرى أن الإخوان تجامل الحكومة وتتبع معها سياسة اللف والدوران ويجب على الإخوان أن يواجهوا الحكومة بالحقيقة التي قررها القرآن في قوله: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).

الثاني: موضوع المرأة وإلزامها حدود الإسلام في الاحتشام وعدم التبرج، يرى أحمد أن الإخوان لم يتخذوا إجراء ما في شأنه مكتفين بدعوة المرأة إلى ذلك بالنصيحة والكلام دون العمل. ويرى أحمد أن يسلك الإخوان بصدد هذا الأمر الخطير مسلكا عمليا بأن يوزع الإخوان أنفسهم في شوارع القاهرة ومع كل منهم زجاجة حبر كلما مرت أمامه فتاة أو امرأة متبرجة ألقى عليها من هذا الحبر حتى يلطخ ملابسها فيكون هذا رادعا لها.

الثالث: موضوع فلسطين، يرى أحمد أن وقوف الإخوان في مساعدة مجاهدي فلسطين عند حد الدعاية وجمع المال لهم هو تقصير في حق هذه القضية وقعود عن الجهاد وتخلف عن المعركة وعلى الإخوان أن يتركوا أعمالهم ويتطوعوا في صفوفهم وإلا كانوا من الخالفين) (المصدر السابق، ص-(106-113)).

ثم كان انشقاق آخر تكونت على أثره جماعة شباب محمد في سنة 1939م، وقد أذاعت هذه الجماعة برنامجها في العدد الأول للنذير (مجلة الإخوان) (أحداث صنعت التاريخ، 1: (200-202)) بعد أن آلت ملكيتها لشباب محمد، وقد حصر هذا البيان أوجه الخلاف بين الجماعتين في أربع نقاط هي:

1- الشورى: ويرى المرشد العام للإخوان المسلمين أنه لا شورى في الدعوة وأن الدعوة إنما ينهض بها فرد واحد له أن يأمر وعلى الجميع أن يطيع.

وقد خالفناه في هذا الرأي وأصررنا على موقفنا لأن في رأي فضيلته مخالفة للنظام السياسي للإسلام وتحديا لمصدريه العظيمين الكتاب والسنة ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

وقد حاولنا أن نتفاهم مع فضيلته كثيرا فأبى إلا أن يكون رأيه الفصل ولو كان في ذلك لإقصاء للمخلصين من الإخوان المسلمين ثم عاد إلى التعلل أخيرا بأنه لم يجد في الإخوان من هو أهل للشورى وهذا ما لا نقره عليه.

2- العمل تحت لواء الحاكمين بغير ما أنزل الله: من مبادئ الإخوان المسلمين أنه لا نجاح للدعوة إلا بقوة الشعب الذاتية وتوجيه الرأي العام توجيها إسلاميا خالصا دون الاعتماد على الحكام، ولكن الأستاذ – يقصد البنا- حاد عن هذا المبدأ القويم معلنا أن نجاح الدعوة مرهون بإرضاء الحكام والعمل تحت ألويتهم الحزبية، وأخذ يسلك سبلا متفرقة ما بايعنا الله عليها (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) متناسيا ألا أمل للإسلام فيهم وأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله ( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ). عارضنا هذا بكل قوة مرددين أقوال فضيلته بأننا إسلاميون غير حزبيين وأننا نعمل لله ولرسوله لا لزعيم ولا لحزب.. فأبى إلا العمل برايه والمضي فيه ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا).

3- التلاعب المالي: طلبت من فضيلته تكوين هيئة قوية لمراقبة المال والمحافظة عليه لتكون مسؤولة أمام الإخوان فأعرض فضيلته وأصم أذنيه عن هذا القول الذي نعده طلبا عادلا يتفق مع أبسط مبادئ الإدارة وكان من نتيجة عدم الأخذ بهذا الرأي أن أنفقت أموال كثيرة لا نقول في أغراض شخصية ولكن على ألأقل في غير الأغراض التي جمعت من أجلها.

4- تطهير الدعوة: ألححنا على فضيلته ورجوناه غير مرة أن يحرص على طهارة الدعوة بإقصاء كل الأعضاء الذين تشوب أخلاقهم الشوائب ليسلم هذا البناء الذي كنا ومازلنا نفتديه بأنفسنا وحتى يسمو عن المظان والشبهات وكان من بين هؤلاء الأعضاء أشخاص اعترف فضيلته في أحاديث متعددة بعد أن تبين من تحقيقات أجراها بنفسه بأن وجودهم مضر بسمعة الدعوة من الناحية الخلقية، ولكنه أصر على بقائهم فضلا على أنه أسند إليهم أعمالا رئيسية وأخذ يشيد بذكرهم في رحلاته إلى الصعيد وغيره).

ثم راحت جريدة النذير تتهم البنا شخصيا بحبه وسعيه لألقاب التقديس والزعامة والقيادة وأن نفسه تحدثه بالجاه والسطوة والسلطان قبل أن تحدثه بالجهاد والتضحية والصبر على المكاره، وأنه لا يرضى أن يعمل بجانبه من يحس منه المنافسة في الزعامة والإمامة).

وشهد عام 1947 انشقاقا آخر في صفوف الإخوان.. وكان من أخطر ما واجهته من فتن في تلك الفترة (.. ففي الوقت الذي كان فيه البنا يجمع جهوده في مقاومة الأحداث يلجأ السكري ومعه الدكتور إبراهيم حسن إلى صحيفة الجماهير اليسارية لينشرا مقالات هجومية ضده وضد جماعته ويتهمانه بالعمالة لصدقي والنقراشي وهي نفس التهم التي توجهها التنظيمات اليسارية والوفد، ويتهم السكري البنا بالغدر به ويلوح بأن تقاضى أموالا من الإنكليز).

هذه نماذج من الفتن التي تعرض لها الإمام الشهيد حسن البنا من داخل الصف.. فكان وقعها عليه أشد بكثير من الفتن التي واجهها من أعداء الدعوة.. وفرق بين عدو تنتظره فتهيئ نفسك للقائه.. وبين عدو قريب يعرف مقاتلتك فيؤذيك ويخدعك بقربه منك.

ولقد تجلت عبقرية الإمام البنا بالأسلوب الأمثل الذي عالج فيه هذه المحن واستطاع بفضل الله ثم بفضل  إخوانه أن يجنب الدعوة الكثير من المطبات التي أحكمها الأعداء بايدي الأقربين.

وفي هذه المناسبة نقول لجميع الشباب المسلم – ولهم في أخيهم حسن البنا عبرة قريبة- إن الداعية المسالم الذي يكتفي من الدعوة بمجاملة الجميع هو إنسان يعيش لنفسه وسلامتها.. أما ذك الشاب المسلم المندفع لخدمة دعوته الذي يريد أن يسجل لها كل يوم نصرا وفي كل أرض أفقا جديدا وفي كل مجال طموحا وتقدما فسيواجه المحنة من أقرب الناس إليه، من رفاق صفه، ومن إخوان دربه، ممن يمارسون صفة الصلاح والتقوى، سيقولون عنه: إنه يؤسس جماعة جديدة.. كما قالوا لأخيهم حسن البنا من قبل أنه يدعو إلى مذهب خامس!

سيقولون له: إنه شاب طائش لا يؤتمن على عمل، نفعي مختلس يأكل أموال الناس بالباطل، تماما كما قالوا للقائد حسن البنا مثل ذلك..

وسيقولون له: إنه متحرك له اتصالات واسعة بل خطر على الأمن أبعدوه من كل الأرض حتى نسلم.. تماما كما قالوا للقائد حسن البنا من قبل..

وسيقولون له: إنه يعبد ذاته، ويتحرك في إطار زعامته، باع نفسه للحكومات حتى يصبح من اصحاب السلطان، تماما كما قالوا للقائد حسن البنا هذا القول..

سيجتمعون ويتآمرون، على شخصه فهو يستحق الموت..

وعلى فكره الذي يعلنه وهل بقي في هذا الزمان فكر..

في هذه المناسبة نقول للشباب المسلم الصابر المجاهد – إن لهم في أخيهم حسن البنا عبرة قريبة- فبدون الصبر لا يدرك الحق.. وبدون المحنة لا يكون النصر.. والنصر أساسا  صبر ساعة!

1985/2/12م

 
 

لماذا نكتب اليوم عن حسن البنا..؟

 () لماذا نكتب اليوم عن حسن البنا..؟ – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من مصر

حياة حسن البنا.. حياة ثرة ذاخرة.. فهو صاحب المشروع الإسلامي الذي حرك المسلمين في أوائل القرن العشرين ابتداءً من مصر الكنانة.. حتى آخر منطقة في العالم.

وإذا اكتفى غيره بالتنظير حول قضايا الإسلام.. فقد انشغل هو ببناء الرجال.. وبالأمور العملية فقد كانت التربية والإعداد عنده ميدانياً عملياً.

نحن اليوم نذكره بمناسبة المؤامرة التي أدت إلى مقتله.. المؤامرة التي لا تختلف عن أي مؤامرة أخرى.. حدثت سابقاً أو تحدث اليوم..

استشهد حسن البنا وهذا ما كان يتمناه..

واستمرت دعوته حية خالدة..

تستمر المؤامرات.. وفي نفس الوقت ترتفع راية الإسلام لا تنال منها العاديات.

نحن اليوم نبحث عن رموز الأمة.. الذين يظهرون كلما اشتدت الحاجة إليهم، فيسدون الثغرة، ويلبون الحاجة، ويقومون بالواجب المطلوب لزمانهم ومكانهم في عملية الإحياء.

قد يكون الرمز الذي نبحث عنه خليفة راشداً مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد يكون قائداً عسكرياً فذاً مثل أبي عبيدة بن الجراح أو خالد بن الوليد أو صلاح الدين الأيوبي، وقد يكون مربياً روحياً مثل عبد القادر الجيلاني أو حسن البنا.

قد يكون الرمز معلماً.. أو عالماً.. في أمور الدنيا.. أو أمور الدين.. قد يكون عربياً من مصر.. أو كردياً من العراق.. أو داغستانياً من القوقاز.. فهذه الأمة أنقذها الله من دعاوى الجاهلية.. فقال نبيها r: (ليس منا من دعا إلى عصبية).

قد يكون الرمز شاباً.. وأكثر الرموز من الشباب.. فهم أقوى أجساداً.. وأقوم معرفة.. وأحد عقولاً.. وقد يكون كهلاً عجنته الأيام فصاغت منه واحداً من هؤلاء الذين قال المصطفى فيهم: (إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد للناس أمر دينهم).

نحن نبحث عن هؤلاء الرموز.. نعيش معهم.. ونجلي جوانب عظمتهم.. ونبحث عن الجانب الأهم في حياتهم.. هل لأننا مغرمون بالتاريخ..؟

كلا.. بل لأننا مغرمون بصناعة الحياة.. وصناعتها تحتاج إلى عالم ومتعلم، وتحتاج إلى قدوة كريمة وشاب يتطلع إلى هذه القدوة ينفعل بها، فتهديه إلى الطريق.

والأمة التي لا توقر رموزها.. بل الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم ربهم هدى.. إن لم يصادفوا مثل هذه الرموز.. طال عليهم الطريق وصعبت عليهم المهمة.. وإذا كان سيدنا محمد r آخى بين المؤمنين.. فنحن نريد أن نؤاخي بين رموز الماضي ورموز اليوم.. لإعادة بناء الحياة.

لهذا السبب نحن نكتب عن حسن البنا.. كما نكتب عن غيره من الرموز.. صناع الحياة.

في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وقعت بلاد المسلمين في أيدي الصليبيين. احتلوا أرضها.. وامتصوا دماءها وثرواتها.. وعبثوا بفكرها ودينها.. وأقاموا لهم، رجالاً من بيننا.. يتحدثون بلغتنا ويتسمون بأسمائنا، ولكنهم سدنة لمعابدهم.. أقاموهم رموزاً لشبابنا وأسبغوا عليهم من صفات المجد والشهرة والعلم ما أزاغوا به العيون.. كنا بأمس الحاجة إلى رموز تمثلنا.. من أصحاب الإيمان العميق، والفكر الدقيق، والحس المرهف، والإرادة الصلبة.. يشعرون بما تعانيه أمتنا من أمراض، يشخصون داءها، ويصفون لها الدواء.

من هؤلاء حسن البنا الذي نحن اليوم بصدد الكتابة عنه.

يقول محمد الغزالي عنه في مقدمة كتابه (دستور الوحدة الثقافية): حسن البنا الذي أصفه ويصفه معي كثيرون بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة، فقد وضع جملة مبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف الغائم، ويعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم، وتتناول ما عراهم خلال الماضي من أسباب العوج والاسترخاء، بيد آسية، وعين لماحة فلا تدع سببا لضعف أو خمول.

كان مدمناً لقراءة القرآن يتلوه بصوت رخيم، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله قدرة ملحوظة على فهم أصعب المعاني ثم عرضها على الجماهير بأسلوب سهل قريب.

وهو لم يحمل عنوان التصوف، بل لقد أبعد عن طريقة كانت تنتهي إليها بيئته.. ومع ذلك فإن أسلوبه في التربية وتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله، كان يذكر بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي.

وقد درس السنة المطهرة على والده الذي أعاد ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب، فأفاده ذلك بصراً سديداً بمنهج السلف والخلف. ووقف حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب، ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد، وإفادته منها، فقد أبي التورط فيما تورط فيه.

ولعله كان أقدر الناس على رفع المستوى الفكري للجماهير مع بعد عن أسباب الخلاف ومظاهر التعصب.

ولقد أحاط حسن البنا بالتاريخ الإسلامي، وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة، وتعمق تعمقاً شديداً في حاضر العالم الإسلامي، ومؤتمرات الاحتلال الأجنبي ضده.

ثم في صمت غريب أخذ الرجل الصالح ينتقل في مدن مصر وقراها، وأظنه دخل ثلاثة آلاف من القرى الأربعة آلاف التي تكون القطر كله.

وخلال عشرين سنة تقريباً صنع الجماهير التي  صدّعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد..

هل عرفت لماذا نكتب عن حسن البنا..؟

لا نريدها اليوم كتابة للاستمتاع.. بل كتابة تشد العزائم.. وتقبض على ناصية الأمور.. وتعيد صناعة الحياة بأيدي طليعة المستقبل.

صناعة الرموز

كان الإمام حسن البنا مشغولاً بصناعة الرموز، وهي مهمة كبيرة وشاقة إلا من سهلها الله عليه، فأنت تسمع من كثير من المربين كلمات تشجع الشباب على التميز.. ثم لا تجد ثمرة عملية لهذا التشجيع، وإذا تساءلت عن السبب لوجدته في:

الإخلاص الذي يميز فريقاً من الدعاة في دعوتهم.. في دأبهم على الشباب وتربيتهم.. في حبهم لأبنائهم.. في الأخذ بأيديهم للتميز.

كان على رأس هؤلاء القائد النبي محمد r الذي نما الحب بينه وبين من يدعوه، إلى درجة أن الرسول r أصبح أحب إليه من نفسه وأهله والناس أجمعين.. ومن نتائج هذا الحب أصبح أبو بكر الصديق، وأصبح عمر الفاروق، وأصبح أبو عبيدة أمين الأمة، وأصبح خالد بن الوليد سيف الله المسلول.

ولقد سار الإمام حسن البنا على هدي النبي؛ فحرك الجسد الهامد فأشعل الشوق فيه.. وأخذ بأيدي الفتيان من أمثال: توفيق الشاوي، والسيد سابق، ومحمد الغزالي، والبهي الخولي، ويوسف القرضاوي، وكامل الشريف، وعمر التلمساني، ومحمد فريد عبد الخالق، وعاكف، فأصبحوا دعاة عظماء: بكلمة أو بموقف عملي اتخذه معهم الإمام الشهيد.

كنت في عمّان في الاحتفال الذي أقامه الإخوان المسلمون بمناسبة مرور مائة سنة على مولد الإمام حسن البنا.. وقد تحدث في هذا الاحتفال الأستاذ كامل الشريف – يرحمه الله- الذي كان مسؤولاً عن مجاهدي الإخوان في فلسطين.. يقول: عندما زارنا الإمام حسن البنا في فلسطين يتفقد أبناءه المجاهدين، كتب لي رسالة يحدد لي فيها موعد وصوله.. وفي فلسطين قال لي الإمام: لو زرت فلسطين ولم أرَكَ لاعتبرت رحلتي فاشلة.

ماذا صنعت كلمات إمام الأمة في شاب صغير هو كامل الشريف؟ كيف سينمو الحب بين الجندي والقائد؟ ثم كيف سيكون الرمز الكبير قائد الجهاد في فلسطين والقناة فيما بعد؟

هناك فرق كبير بين كلمات هامدة لا قيمة لها يقولها بعض الدعاة للأبناء.. فلا تلامس قلوبهم ولا توقد شرارة الحب بينهم. وبين قيادات ربانية مخلصة.. تعيش وقدة الحب والشوق مع إخوانهم الشباب.. الذين لا يحتاجون عندئذ إلا لكلمة واحدة أو موقف واحد مع القائد ليتقدموا الصفوف!

 
 

!يالطا جديدة

(8) يالطا جديدة! – من سلسلة خواطر حول العالم

يالطا.. اسم علم على مكان التقى فيه قادة الغرب والشرق بعد الحرب العالمية الثانية، ووضعوا أمامهم خريطة العالم واقتسموها كالسلعة تماما.. فهذه الدولة من نصيب أمريكا، والثانية من نصيب فرنسا أو إنكلترا، وتلك من نصيب روسيا.. ولربما كانت الدولة الواحدة من نصيب أمريكا وروسيا معا كيوغسلافيا واليونان وألمانيا ورومانيا وغيرها.

وأكثر المناطق التي نالها الإجهاد، واعتدت عليها وعلى مقدراتها الدول الغالبة هي دول العالم الإسلامي.. من باكستان والهند وإندونيسيا وماليزيا شرقاً حتى المغرب غرباً.. وبموجب صك يالطا هذا أصبحت جميع مناطق العالم الإسلامي ضمن مناطق النفوذ.. تدار مباشرة أو من وراء حجاب.. بخيوط واضحة أو غير مرئية من لندن وباريس وواشنطن وموسكو..

ولقد استطاع الحكام الذين جاء بهم الأسياد أن يجهضوا كل تحرك شعبي. وعلى هذا الأساس قامت إسرائيل ومنع الشعب الفلسطيني من الدفاع عن نفسه وأرضه.. ومن نفس المنطلق تدور على ساحات العالم الإسلامي العريضة ثورات وتضحيات غايتها كسر الطوق وتحرير الإنسان وتحرير المجتمع والدولة.. وكلما أمعن الشعب وأصرّ على تحرير نفسه من الطغيان.. كلما أمعن الأسياد في واشنطن وموسكو بتدعيم رموز الخيانة ومساندتها بالمال والسلاح.

إن يالطا الجديدة.. التي تتحدث عنها الصحف.. ويقول فيها كثير من زعماء العالم لن تتناول بالتأكيد إعادة النظر في كيانات أوروبا وأمريكا.. ولكنها تتناول بكل تأكيد مزيدا من الأغلال والقيود للحركات الإسلامية.. ومزيدا من نهب ثروات شعوب العالم الإسلامي الذي يطلقون عليه حقدا واستهجاناً بالعالم الثالث.

إن يالطا الجديدة.. هي حرب صليبية تشن في كل بلد إسلامي.. لتدمير الإسلام والمسلمين، وتخمة أعداء الله الظالمين.. ولكل أمر منتهى.. ولكل ظالم عاقبة.. والعاقبة للمتقين العاملين.

1982/2/1م

 
 

الطعام هو الحلقة المكملة للعبة الأمم

 (7) الطعام هو الحلقة المكملة للعبة الأمم – من سلسلة خواطر حول العالم

إذا لم يتم توجيه اهتمام كاف للقطاع الزراعي فسوف يواجه الشرق الأوسط بحلول نهاية هذا القرن نقصا كبيراً في الطعام. وقد تؤدي تلك المشكلة إلى العديد من المشاكل الفرعية الأخرى مثل سوء التغذية، والمجاعة، والموت، والأمراض.. ومما يدعو للسخرية أن غالبية العالم العربي أرضه زراعية ولكن الطلب على الطعام يفوق العرض.. فما الذي أدى إلى هذا الموقف إذن؟ وإلى من يوجه اللوم؟ ومن الذي يستفيد من وراء ذلك الموقف؟ وهل يمكن تلافيه؟ يجب استقصاء كل تلك الأسئلة قبل أن تتغير صورة العرب أغنياء النفط إلى صورتهم كمتسولين.

والسبب الأساسي للمشكلة هو الازدهار النفطي للدول العربية المنتجة للنفط. فقد كان لثرواتهم النفطية تأثير واضح على مجتمعاتهم وكذلك على دول المنطقة غير المنتجة للنفط. فأولا أوجد النمو السريع للدخل طبقات جديدة مثل المقاولين محدثي النعمة الذين حولوا بلادهم إلى مجتمع استهلاكي هائل.

وقام الأغنياء ومحدثو النعمة والطبقات المتوسطة بالإنفاق بتهور على المظاهر: مثل السيارات، والمنازل، والسلع المنزلية، والأزياء، والأطعمة. وحيث أن الطلب يفوق العرض فإن دولا مثل السعودية وبقية دول الخليج تستورد كل طعامها من الغرب.. ويتم استيراد أكثر من ثلث احتياجات سوريا والمغرب وتونس من الحبوب.. ويستورد الأردن كل احتياجاته من القمح، أما مصر فتستورد أكثر من نصف احتياجاتها الرئيسية.

ووفقا لإدارة الزراعة بالولايات المتحدة الأمريكية فقد قفزت صادرات الطعام إلى الشرق الأوسط من مليار دولار عام 1970م، إلى 32 مليار دولار عام 1982م. ومن المتوقع زيادة ذلك الحجم بمقدار 2 مليار دولار عام 1983م. ولم تتلكأ السوق الأوروبية حيث تقوم بتوريد ثلث الطلبات تقريبا (9 مليار دولار عام 1982م ومن المتوقع زيادتها إلى 11 مليار دولار عام 1983م). وتقوم السوق الأوروبية المشتركة بتوريد جميع أنواع السلع الجاهزة للاستهلاك ومنتجات الألبان واللحوم، وكذلك السكر. وفي عام 1981م بلغت نسبة واردات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 11% من الواردات الزراعية العالمية، وتتزايد تلك النسبة كل عام.

وقد تزايد الإمداد بالطعام بصورة كبيرة بسبب النمو السكاني السريع. وكنتيجة لذلك فإن طلبات الطعام في الدول غير النفطية مثل مصر والمغرب وسوريا وتونس تزيد بنسبة 5% إلى 8% كل عام.

وقد تزايد تعداد السكان بصورة كبيرة في الدول المنتجة للنفط بسبب الهجرة الهائلة للعمال الأجانب. وقد نتج عن الاندفاع المجنون نحو التصنيع مشاكل بالنسبة للدول العربية المنتجة وغير المنتجة للنفط. ففي أكثر الدول حدث انتقال هائل للسكان من المناطق الريفية إلى المدن وذلك لأسباب اقتصادية، تاركين القطاع الزراعي مهملا. أما في الدول غير المنتجة للنفط فقد أصبح تصدير القوة العاملة عملا رائجا. وقد أدى ذلك إلى كساد في النمو الزراعي بتلك الدول، ذلك أن حافز الأعمال المربحة للفلاحين المعدمين أقوى من أن يقاوم، فالدخول لا تزيد عدة مرات فقط بل يضمن العامل المسكن وسبل العيش والرعاية الطبية وغير ذلك. ولذلك فليس من المدهش أن نجد أن هجرة العمالة قد زادت من شمال وجنوب اليمن ومن السودان وعمان ومصر.

وقد أدى تخلف القطاع الزراعي وتفضيل الهجرة إلى المدينة إلى إهمال الزراعة ونقص الانتاج الزراعي. وقد باشرت بعض الدول مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر إصلاحات زراعية غير مكتملة لم تقض على طبقة ملاك الأراضي ولم تقم بتوزيع الأراضي على الفلاحين. وفي هذه الأحوال لم يتأثر بذلك سوى جزء صغير من الأراضي (حوالي 12% في مصر). وفي أحوال كثيرة بدأ المقاولون الرأسماليون أعمالا زراعية وصعد توفيرهم للعمالة وزراعتهم الآلية من تحول المزارعين الفلاحين إلى العمل بالمدن.

وتقوم الأعمال الزراعية أيضا بإنتاج أطعمة الرفاهية مثل الفواكه والخضراوات والمواشي المعلفة حيث تكون هوامش الربح عالية. وقد تحول بعض المزارعين الأفراد كذلك إلى الزراعة الآلية وزاد استخدام الجرارات في المنطقة بنسبة 50%. ولكن أحوال المزارع لم تتحسن لأن الأغنياء فقط هم القادرون على شراء ما ينتج. وقد حاولت بعض الحكومات توفير حوافز إضافية لمزارعيها بعرض مبالغ أكثر لشراء منتجاتهم. ولكن ذلك لن يستمر طويلا بسبب عوامل خارجية تؤثر عليهم مثل واردات الطعام الهائلة.

ولقد أطلقت تحذيرات عديدة بخصوص تدهور الانتاج الغذائي في العالم العربي. وقد اكتشف الخبراء العرب في مؤتمر عقد في بداية هذا العام في الخرطوم أن الأراضي الصالحة للزراعة في العالم العربي تقدر بحوالي 51 مليون هكتار يروى 78% منها بالأمطار، ويعتمد الباقي على الري. وتقدر مساحة الأراضي التي تنتج محصولا بثلثي تلك المساحة فقط بينما يترك الثلث الباقي معتمدا على مياه الأمطار والوسائل الزراعية التقليدية.

ويبدو، والحالة هذه أن الكفاية الذاتية في إنتاج الطعام احتمال بعيد. وقد طرحت أفكار بإنشاء سوق عربية مشتركة تقوم الدول العربية الغنية فيها باستثمار القطاع الزراعي بالبلاد الفقيرة ذات التربة الجيدة. وفي حين تستمر الحكومات العربية في النقاش، تقوم الدول الغربية بجني إيرادات كبيرة. وفي الواقع هناك صراع بين الأمريكيين والسوق الأوروبية المشتركة على اسواق الطعام العربية حيث يمكنهم التخلص من منتجات أغذيتهم وفائض مزارعهم. ويشعر الأمريكيون الذين قاموا بشحن أكثر من 15 ألف طن من الدجاج إلى السعودية عام 1980م ووردوا إليها 400 طن فقط عام 1982م بالمرارة بسبب ضياع الباقي منهم وانتقاله إلى أسواق السوق الأوروبية المشتركة. وقد وعدت الحكومة بمنح تسهيلات ائتمانية أفضل لمزارعي الولايات المتحدة لتمكينهم من زيادة قدرتهم على المنافسة. وقد باعت الولايات المتحدة ما قيمته 230 مليون دولار من القمح والحبوب الأخرى والبيض والبذور وعلف الحيوانات إلى العراق مؤخرا وتتوقع زيادة المبيعات لتصل إلى مليار دولار في العام القادم. ولا تساعد مثل تلك الواردات المزارعين حيث ارتفعت الأجور في الريف بينما بقيت أسعار المحاصيل متدنية مما يوقع المزارعين في أزمة أرباح  والمشاكل المؤثرة على المزارعين والفلاحين والقطاعات الزراعية لا تهم مصدري الطعام الغربيين إذ كلما زاد التدهور الزراعي في الدول العربية كلما كان ذلك أفضل بالنسبة لهم، حيث أن الدول العربية تصبح عندئذ معتمدة تماما على الغرب في غذائها. وتلك هي المشكلة وهي تعطي صورة كئيبة جدا لمستقبل الدول العربية.

وقد اعتمدت مصر على مثل تلك المساعدة الغذائية من الولايات المتحدة منذ الستينيات لإطعام ملايينها الجائعة. وبعد عشرين عاما من التصنيع لايزال قطاعها الصناعي تهيمن عليه الزراعة. والتغيير الوحيد الذي حدث أن مصر قد اعتمدت أكثر وأكثر على الغرب في احتياجاتها من الطعام.

ومثل ذلك المصير ينتظر الدول العربية الأخرى إذا لم تعمل على تنشيط قطاعاتها الزراعية وتوفير كفاية ذاتية من الطعام والأمن الغذائي للمستقبل.

وتعتمد تلك الدول بالفعل على قطاعات أخرى مثل التقنية المستوردة (على شكل صناعات خطوط التجميع والضغط على أزرار) والمعدات العسكرية. يجعلهم الاعتماد على الطعام خاضعين تماما للمصالح والمصنعين الخارجيين وهذا يجعل الخروج من تلك الورطة أكثر صعوبة بكثير.

1983/11/21م