RSS

Monthly Archives: May 2011

الشيخ فيصل مولوي في ذمة الله

بأسى بالغ وتسليم كامل لقضاء الله وقدره تلقينا نبأ وفاة العلامة الشيخ فيصل مولوي رحمه الله تعالى..
كان رحمه الله للناس كالشمس للدنيا، تشرق فتغمر الكون بنورها، ويطلع فينشر النور بعلمه وعمله..
جمع رحمه الله بين فهم الواقع وفقه النصوص والوقوف على حقيقة الماضي بما يمكِّنه من استشراف المستقبل..
 
رحم الله الشيخ الكبير، فقد ترك فينا ثغرة لا يسدها سواه..
 

رحمه الله وتقبل منه وأسكنه الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

 
Leave a comment

Posted by on May 9, 2011 in General

 

هل يحافظ ابن حافظ الأسد على حكمه الموروث؟

الجزء الثالث

مصطفى محمد الطحان

 مقدمة

ذكرت صحيفة واشنطن بوست أن قياس جدية الرئيس السوري في ما يعد به من إصلاحات يكون من خلال تحركه لمواجهة النفوذ الاقتصادي والسياسي لعائلته في السلطة، وقالت الصحيفة إن السؤال الآن هو: هل سيبقى آل أسد موحدين وراء بشار أم أنهم سيغرقون في صراع دموي داخلي؟ ولمعرفة مدى إمكانية محاسبة المتورطين في أعمال القتل، يمكن تطبيق أحداث درعا على سبيل المثال لا الحصر، فقد أمر الرئيس السوري بتشكيل لجنة للتحقيق في الأحداث التي وقعت بها، دون تقديم معلومات حول صلاحيات تلك اللجنة، وقدرتها على الخروج بنتائج مستقلة يمكن أن تؤدي إلى محاسبة المتهمين، وعلى رأسهم:

1- العميد الركن ماهر أسد: قائد الحرس الخاص بالقصر الجمهوري وقائد الفرقة الرابعة، حيث وقع الاعتداء على أهل درعا في ظل تطويق ألوية الفرقة الرابعة للمنطقة، وثبت تورط أفرادها في إطلاق النار على المتظاهرين.

ماهر الأسد

2- اللواء عبد الفتاح قدسية: أحد أبرز المقربين من بشار أسد وآل مخلوف، رئيس شعبة المخابرات العسكرية منذ عام 2009، وتفيد شهادات العيان أن مقار فروع الأمن العسكري كانت مصدر إطلاق النار على المتظاهرين.

3- العميد عاطف نجيب: ابن خالة بشار أسد، مدير فرع الأمن السياسي في درعا، وكان إقدام عاطف على اعتقال بعض النساء والأطفال من أبناء درعا وتعذيبهم، هو السبب الرئيس في اتساع حركة الاحتجاجات، ويتهمه أهل المدينة وضواحيها بإطلاق الرصاص الحي على أبنائهم مما أدى إلى مقتل نحو مائة وخمسين وإصابة المئات من أبناء مدينة درعا وعموم محافظة حوران.فهل يجرؤ بشار على محاكمة شقيقه وابن خالته ورفيق دربه، وغيرهم من ضباط الحرس الجمهوري والفرقة المدرعة الرابعة(شباب سوريا 19/4/2011م).

أخي القارئ

هذه هي الحلقة الثالثة من البحث الذي كتبته حول الأحداث المأساوية التي تمر بها سوريا في الوقت الحاضر.

 

(بداية الجزء الثالث)

بثور في وجه البعث

1- في البدء كان الانقلاب

استُخدم حزب البعث في تاريخه السياسي الطويل كرأس حربة لتحطيم جميع القيم السياسية والأخلاقية التي تعارف عليها الناس.. ولم يعد أعداء حزب البعث هم الذين يتهمونه مثل هذا الاتهام.. بل نفرٌ من قادته وزعمائه هم الذين تولوا فضح أدواره المشينة. كان الاستعمار يزعم أنه إذا حكم بلداً مائة عام، استطاع بعد استقلال ذلك البلد أن يحكمه مائة سنة أخرى بالواسطة. وها هي سوريا تتهيأ للاستقلال بفضل النضال الشعبي الذي يقوده المجاهدون في مختلف المدن.. بينما تلعب فرنسا لعبتها السياسية مع الكتلة الوطنية تارة، حتى إذا أرادت أن تضربها أوحت للبعض أن ينشئ عصبة العمل القومي (فالفرنسيون أقلقهم نضال الكتلة الوطنية التي تخندق الشعب بأكثريته الساحقة حولها ودعمها إلى أبعد الحدود وبلا تحفظ. فكان أن ارتاح الفرنسيون لقيام فئة تعمل في نتيجة الأمر على شق الصف وتمزيق الوحدة الوطنية، فكانت عصبة العمل القومي)( البعث- جلال السيد، ص- 23). في هذه الأثناء كتب صلاح البيطار في جريدة البعث مقالاً بعنوان (وطدوا الاستقلال بالحرية)( جريدة البعث- 2/9/1946) جاء فيه: (لقد قامت حركة البعث العربي على أساس احترام الحرية لدرجة التقديس، لأنها اعتبرت ضمان الحريات شرطاً لبعث الأمة وأساساً لإنشاء الوطن العربي).

فلننظر كيف حافظ البعث على الحرية البرلمانية وكيف قدسها في سوريا بعد الاستقلال..؟

كان الحكم في سوريا بيد الكتلة الوطنية التي فازت بالانتخابات البرلمانية بأكثرية ساحقة. وكان أمام الحكم منذ استقلال البلد عام 1946 قضيتان:

قضية فلسطين وقضية التابلاين.

*  أما في فلسطين، فقد كان الجيش السوري على ضعف بنيته وحداثة تكوينه من أفضل الجيوش العربية في مواجهة القوات اليهودية(حزب البعث- سامي الجندي، ص- 50).

*  وأما اتفاقية التابلاين، التي عقدتها حكومة خالد العظم في فبراير 1949م حول مرور أنابيب النفط الآتية من السعودية إلى البحر المتوسط عبر الأراضي السورية، فقد امتنع البرلمان عن توقيعها لما فيها من ربط البلد بالقوى الخارجية(حزب البعث- جلال السيد، ص- 56).

ولقد كشف مايلز كوبلاند (عميل المخابرات المركزية) في كتابه (لعبة الأمم) أن أمريكا أرادت أن تضرب العصفورين بحجر واحد.. تضرب الجيش السوري عن طريق الانقلاب فتشله للأبد، وتوقع اتفاقية التابلاين بدون برلمان (ولا هم يحزنون)، فكان انقلاب حسني الزعيم. وقد وصف المؤرخ بيتر تومياني المحاولة (بأول محاولة دبلوماسية أمريكية مستوردة في الشرق الأوسط)( النفط والعرب- بيتر تومباتي نقلاً عن كتاب البعث- الدكتور قاسم سلاّم، ص- 130).

فمن الذي مهّد للانقلاب؟

البعثيون (حماة الحرية ومقدسوها) هم الذين هيأوا للانقلاب.. ولنسمع إلى شهادة عضو اللجنة التنفيذية لحزب البعث: (قبل الانقلاب الذي قام به حسني الزعيم نشط حزب البعث نشاطاً منقطع النظير. وقد اتخذ له استراتيجية إذ أصبح العمل على وتيرة واحدة في كل نواحي المدن التي للحزب فيها فرع. في كل يوم محاضرة تتبعها في اليوم التالي مظاهرة. واتضح أن يداً خارجية هي التي مهدت لمثل هذا الجو.. وما لبث المناخ أن أصبح مهيأ لعملية انقلاب عسكرية)( حزب البعث- جلال السيد، ص- 56).

ولنسمع إلى شهادة عضو قيادي بعثي آخر يعطي مزيداً من التفصيلات:

(منذ بدء عام 1949م أخذ الحزب يمهد لانقلاب عسكري. لم يكن بعيداً عما يحاك.

وفي 29 مارس من هذه السنة أطاح الجيش بنظام شكري القوتلي البرلماني وحل محله الزعيم حسني الزعيم)( حزب البعث- سامي الجندي، ص- 51).

حسني الزعيم

وابتدأ الزعيم حياته السياسية بتصريح قال فيه: (اليوم الطريق مفتوحة أمام الشعب العربي في سوريا ليسير قدماً نحو تحقيق رسالته الخالدة). ورد البعث لقائد الانقلاب تحيته بأحسن منها، ففي 7 أبريل نظموا مظاهرة ضخمة تأييداً للانقلاب، تكلم فيها عفلق فقال: (إننا نستبشر بهذا الحادث ونعلق عليه الآمال)( نضال البعث- الجزء الأول، ص- (290-291)).. وأعلن (أن الجيش هو الأداة الأمنية التي نفذت رغبة قومية وإرادة عامة).

وسار المخطط كما ينبغي له أن يسير. حلّ البرلمان، علّق الدستور، ووقع اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، كما أمر بانسحاب الجيش السوري من بعض مناطق شمال فلسطين التي كان الجيش قد حررها عام 1948م من الاحتلال اليهودي، وصدّق على اتفاقية التابلاين مع الأمريكان، كما وقع اتفاقية مماثلة مع شركة نفط العراق بغرض مدّ أنابيب نفط أخرى، كما تم توقيع اتفاقية نقدية مع فرنسا، ووقع بالأحرف الأولى اتفاقية مع تركيا لإرسال فنيين لتدريب الجيش السوري وإعادة تأهيله، وأعلن أنه الزعيم المنتظر التي ساقته العناية الإلهية لإنقاذ البلد.. (ولم يستطع البعثيون أن يفوزوا بالكثير في ظل مثل هذا الحاكم المتسلط، فوقع الصدام)( نضال البعث- الجزء الأول، ص- 292).. وزج حسني الزعيم بقيادة البعث في المعتقل لمدة ثلاث أسابيع.. وقد تعرض عفلق في معتقله إلى المضايقات التالية:

1-   صدمة لم يكن يتوقعها من الإهانة والازدراء وحلق الشعر والحبس المنفرد.

2-   حرمان من التدخين.

3-   حرب أعصاب مستمرة وإرهاق ومنع النوم بدخول عساكر إلى الزنزانات بقصد الإخلال بالراحة.

4-   إطلاق الإشاعات والتحذيرات(حزب البعث- جلال السيد، ص- (62-63)).

الأمر الذي جعله يكتب لحسني الزعيم الرسالة التالية بعد مرور عشرة أيام فقط على اعتقاله: (في هذه الرسالة يعترف عفلق بأخطائه وأخطاء حزبه إزاء نظام البناء والعمل الإيجابي ويعلن: أنني قانع كل القناعة بان هذا العهد الذي ترعونه وتنشئونه يمثل أعظم الآمال وإمكانيات التقدم والمجد لبلادنا، فإذا شئتم فنكون

في عداد الجنود البنّائين. وإذا رغبتم أن نلزم الحياد والصمت فنحن مستعدون لذلك.

سيدي دولة الزعيم، لقد اخترت أن انسحب نهائيا من كل عمل سياسي بعد أن انتبهت بمناسبة سجني إلى أخطاء فيّ أورثتني إياها سنين طويلة من النضال القومي ضد الاستعمار والعهد السابق، وأعتقد أن مهمتي قد انتهت وأن أسلوبي لم يعد يصلح لعهد جديد، وأن بلادي لن تجد من عملي السياسي أي نفع بعد اليوم.

سيدي دولة الزعيم، أنتم اليوم بمكان الأب لأبناء البلاد، واتركوا لنا المجال كي نصحح أخطاءنا ونقدم لكم البرهان على وفائنا وولائنا)( حزب البعث- مصطفى دندشلي، ص- 130).

والرسالة في حدّ ذاتها لا قيمة لها.. فهي وثيقة كتبت تحت الضغط.. ولكنها تعطينا الدليل على صلابة زعماء البعث الرواد الذين تنكروا لكل شيء بعد اعتقال دام عشرة أيام فقط.

فهل ينتبه الجيل إلى الزعامات التي قاومت الطغيان السنين ذوات العدد فما انحنت لهم هامة ولم يطلبوا العفو إلا من ربهم؟

 الانقلاب الثاني

لم يدم حكم حسني الزعيم غير ستة أشهر، سقط بعدها هو والسيد محسن البرازي (رئيس وزرائه) برصاص انقلاب آخر، ومحاكمة سرية لم يعرف عنها شيء تقريباً. لم يعترض أحد على الإعدام بدون محاكمة، لم يتبادر لأذهانهم أنها ستصبح ذات يوم تقليداً وجزءاً من تاريخ سورية المعاصرة.. فهل توقف البعث عن القيام بهذه اللعبة القذرة: تهديم الديمقراطية بالانقلابات العسكرية؟

وكما حصل في الانقلاب الأول، فقد كثف حزب البعث وأكرم الحوراني اتصالاتهم بالضباط الشبان، وكان الانقلاب الثاني بتاريخ 14 أغسطس 1949م بقيادة اللواء سـامي الحنـاوي.. وقد وصفه الصحفي اللبناني، أدوار صعب، على النحو التالي: (الرجل.. ليس عنده بالفعل ما ينم عن شخصية بارزة، ولا عن مزايا إنسان قوي ومصمم، فهو بدين ومترهل وأمّي تقريباً، وهو أعجز من أن يصمد في مناقشة، وتراه باستمرار يغير من أفكاره وقناعته، إذا ما وجد نفسه أمام متحدث مقنع ومتحمس. وكان يقال في دمشق: إن الحناوي ولد ليكون عميلاً)( الانقلاب في سوريا- أدوار صعب، ص- 54).

وشكل الحناوي وزارة برئاسة هاشم الأتاسي، دخلها ميشيل عفلق وزيراً للتربية وأكرم الحوراني وزيراً للزراعة.. الأول ليرسل فيها جميع البعثيين في بعثات إلى الخارج، والثاني ليصفي حساباته مع زعامات حماة التقليديين.

في الانتخابات النيابية التي جرت في منتصف نوفمبر 1949م فاز فيها جلال السيد عضو اللجنة التنفيذية للحزب عن منطقة دير الزور. (ولقد أكد جلال السيد نفسه بأن نجاحه لم يكن بقوة الحزب، بل لما كان له من نفوذ شخصي ويمكن أن نضيف إلى ذلك أيضاً ما مارسه العراقيون من ضغوط انتخابية مختلفة لمصلحته)( حزب العبث- مصطفى دندشلي، ص- 134). كانت الهيئة التأسيسية المنتخبة تضم أكثرية من حزب الشعب(يقال إن الإنكليز كانوا يقفون وراء هذه السياسية على عكس الأمريكان الذين أرادوا تمتين العلاقات السورية السعودية)، وقد طالب النواب بالاتحاد مع العراق وكانت جميع الأجواء مهيئة لهذا الاتحاد.. وفجأة حدث ما يشبه الثورة الداخلية في هيئة الأركان العامة بتاريخ 19 ديسمبر 1949م. وقد تزعم ذلك العقيد أديب الشيشكلي وكان هناك تياران وراء التمرد الجديد: الأول يمثل البعثيين والحورانيين.. والثاني يمثل السياسيين والضباط الذين تربطهم علاقات وثيقة بالدوائر الأجنبية التي كانت تنظر بعين القلق والعداء لأي تقارب بين العرب(حزب العبث- مصطفى دندشلي، ص- 142).

وهكذا ساهم البعثيون للمرة الثالثة في إنهاء الحياة المدنية ومحاربة الوحدة هذه المرة عن طريق الانقلاب العسكري. وكان لهم في الهيئة التأسيسية موقف آخر في غاية الاستهجان وهو التصدي بكل عنف واستهتار للأستاذ مصطفى السباعي ممثل الإخوان المسلمين في البرلمان وهو يطالب أن يكون الإسلام دين الدولة.. بينما يدعون هم للعلمانية وإبعاد الدين عن الدولة.

وفي تاريخ 29 نوفمبر 1951م نفذ الشيشكلي انقلابه الثاني وأعلن عن تولي الجيش شؤون البلاد.. وحل البرلمان، وعلّق الدستور، واعتقل معروف الدوالبي رئيس الوزراء وعزل رئيس الجمهورية. ولقد استقبل حزب البعث الانقلاب بارتياح وأظهر تأييداً كبيراً للانقلابين اللذين قادهما الشيشكلي في 19 ديسمبر 1949م و29 نوفمبر 1951م(حزب العبث- مصطفى دندشلي، ص- 143). ولكن سرعان ما قلب الشيشكلي للحزب ظهر المجن وأقام له حزباً خاصاً به أسماء (حركة التحرير العربي).. واضطهد جميع الأحزاب والكتل التي لم تخضع لديكتاتوريته. وإذا كانت المصائب تجمع فقد جمعت بين حزب البعث والحزب الاشتراكي الذي يتزعمه أكرم الحوراني وقد أسفرت هذه المصائب عن ولادة حزب جديد اسمه (حزب البعث العربي الاشتراكي) ولا بأس أن نلقي نظرة على أكرم الحوراني الذي لعب دوراً هاماً في تاريخ سورياً الحديثة.

 أكرم الحوراني

أكرم الحوراني

أكرم الحوراني من الشخصيات شبه الغامضة، إليه تنسب معظم الانقلابات العسكرية التي قامت في سوريا.. سياسي واقعي.. يؤمن بالأفعال أكثر من النظريات.. مبادؤه المصلحة، وأنصاره الحمويون.. انتهازي من الطراز الأول هو صانع الانقلاب، ومتآمر من أجل انقلاب آخر. ولد أكرم الحوراني في مدينة حماه عام 1912م من أسرة إقطاعية.. كان أبوه من كبار ملاكي الأرض في المنطقة. وقد حاول في ظل الإمبراطورية العثمانية أن يسلك طريق السياسة مرشحاً نفسه للانتخابات النيابية في ذلك الحين غير أن الإخفاق الذي مني به في هذه الانتخابات والمنازعات المستمرة بين عائلتـه والعائـلات الإقطـاعية الأخرى أفقده القسم الأكبر من ثروته(مقابلة مع أكرم الحوارني بتاريخ 4 أبريل 1970م نشرها مصطفى دندشلي في كتابه عن البعث ص- 149. ويعترف مع ذلك أن انقلاب الشيشكلي الأخير الذي أيده انقلاب أجنبي احتضنته أمريكا حامية الصهيونية (كما جاء في رسالة الحزب للشيشكلي نفسه في يوليو 1953م). هذا الإخفاق قد يكون السبب الذي جعل أكرم يحرص أشد الحرص على تحدي الأسر التي هزمت والده. انتسب في البداية إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي عام 1936م وأسس فرعاً له في حماة وجمع حوله أعداداً من الفلاحين لمواجهة الأسر الأخرى التي كانت أساساً تعمل ضمن الكتلة الوطنية التي تصدت لمكافحة المستعمر الفرنسي في البلاد. ويعتقد الكثيرون أن أكرم الحوراني استخدم هذا الحزب لاستخدام واجهته أكثر من أي شي آخر.. خاصة وأنه بدأ يلمع نجم هذا الحزب في سماء سوريا. ومع ذلك فقد كتب رسالة إلى الجنرال (ويغان) الفرنسي في بداية الحرب العالمية الثانية يؤكد له فيها أنه انسحب من الحزب القومي السوري.. الذي لم يكن بالنسبة له أكثر من إيجاد هيئة سياسية معارضة لحزب الكتلة الوطنية. وفي ختام رسالة الحوراني إلى (ويغان)  يقول له: (وما من شاب سوري يتأخر عن مساعدة الأمة الفرنسية النبيلة للقضاء على النازية الفاشية التي تحاول أن ترجع بالعالم إلى عصور الهمجية والتوحش الأولى)( حزب العبث- مصطفى دندشلي، ص- 151). وهذه الرسالة  تدل على عقلية أكرم الانتهازية التي تهمها المكاسب أكثر مما تتوقف عند المبادئ.

وفي عام 1940م أسس أكرم بحماه حزب الشباب.. وعلى نفس النمط السابق، فقد كان الحزب مجرد واجهة لتجميع الشباب المثقف في مدينة حماه.. والفلاحين في ريف المدينة وشحنهم ضد الإقطاعيين أعداء أسرته.. وإذا كان ريف حماه أغلبه من الفلاحين النصيريين أدركنا حجم الجريمة التي قام بها في تجميع هؤلاء وشحنهم بالحقد ضد العناصر الأخرى المعادية لأكرم الحوراني.. وليس صحيحاً أن خصوم أكرم السياسيين كلهم من الإقطاعيين، فهؤلاء أعدادهم محدودة أما أكثرية أهالي مدينة حماه فكانوا من الإخوان المسلمين الذين لا يرتاحون للأساليب الغوغائية الانتهازية التي يسلكها أكرم الحوراني.

دخل أكرم الحوراني البرلمان منذ عام 1943م، عندما نجح باسم حزب الشباب، ومنذ ذلك التاريخ لم يفقد مقعده في هذا المجلس حتى عام 1963م موعد قيام الانقلاب البعثي في سوريا.

وكما أن همه الأول إقامة الصلة مع ضباط الجيش، وخاصة الحويين منهم.. فقد كان يرى المستقبل من خلال هؤلاء(بعد الهزيمة في فلسطين تشكلت لجنة عسكرية هدفها تحديد العوامل السياسية والعسكرية التي أدت إلى الهزيمة، وعن طريق عضويته في هذه اللجنة على صلة وثيقة بالضباط والانقلابات).. عمل مع كل الديكتاتوريات التي حكمت سوريا ثم انقلب عليها. وعندما كان وزيراً للدفاع في فترة الشيشكلي الأولى دفع أعداداً متزايدة من الشبان الحمويين ومن ريف حماه من النصيريين إلى الكلية الحربية في حمص.. كما عمل على تسريح أعداد كبيرة من ضباط الأحزاب الأخرى.. في عام 1952م وبتشجيع من أديب الشيشكلي عقد مؤتمراً كبيراً في حلب وأعلن فيه عن تشكيل حزبه العري الاشتراكي، الذي شكل فيما بعد، وبعد اندماجه مع البعث في 13 نوفمبر عام 1952م، حزب البعث العربي الاشتراكي بزعامة ميشيل عفلق.

في 14 أكتوبر 1957م انتخب أكرم الحوراني رئيساً لمجلس النواب السوري فحقق بذلك إحدى أمنياته وأصبح بالفعل شخصية سوريا القوية بما لديه من نفوذ في البرلمان والجيش. وفي 17 نوفمبر 1957م عقد اجتماع مشترك بين وفد برلمان سوري برئاسة الحوراني ووفد برلماني مصري برئاسة أنور السادات واقترح المجتمعون إقامة اتحاد فيدرالي بين القطرين.

عُيّن رئيساً للمجلس التنفيذي السوري في دولة الوحدة عام 1958م ثم جرّد من مسؤولياته كممثل للحكومة المركزية لدى المجلس التنفيذي في الإقليم الشمالي في 18 نوفمبر 1958م.

وقع مع صلاح الدين البيطار وثيقة الانفصال.. وابتدأت مواقفه تفترق عملياً عن مواقف القيادة القومية للبعث التي يمثلها شخص ميشيل عفلق.. في المؤتمر القومي الخامس الذي عقد في مدينة حمص في النصف الأول من شهر مايو 1962م لم يدع إلى هذا الاجتماع كل من أكرم الحوراني وأنصاره.. وبالتالي فقد أبعدوا من الحزب بصورة عملية.

بعد انقلاب 8 مارس 1963م صدر قرار بالعزل السياسي تناول مجموعة من السياسيين كان منهم أكرم الحوراني بحجة أنهم أيدوا الحكم الانفصالي.

هذا هو أكرم الحوراني الذي لعب دوراً بارزاً في تاريخ سوريا السياسي من خلال حزب البعث وقبله وبعده، وهو اليوم يحذر من التعامل مع الطوائف التي قواها وشحذها.. كان يريد استخدامها فاستخدمته. وكان يظن نفسه ذكياً قوياً.. فتبيّن أنها أقوى منه وأذكى يوم رمته بعيداً هيكلاً لا قيمة له.. هذا هو أكرم الذي قبض من الجميع وسار في ركاب شخصه وخسر أخيراً كل شيء.

 الانقلاب على الشيشكلي

أديب بن حسن الشيشكلي

وفي مارس 1954م غادر الشيشكلي البلاد بعد إعلان النقيب مصطفى حمدون عن انقلاب جديد.. وكان للبعثيين كالعادة دور طليعي في إسقاط الحكم السابق.. وفي تأييد الانقلاب اللاحق.

يذكر عضو اللجنة التنفيذي لحزب البعث (أن المفاجأة التي ظهرت لنا فيما بعد هي أن الحزب لم يكن إلا وسيلة ومخلباً. وأنه لم يكن مطلعاً على تخطيط يجري من وراء ظهره. فقد كان للعراق ضلع كبير بل وضلع وحيد في إسقاط الشيشكلي)( جلال السيد- المصدر السابق، ص- 113).

وهذا رأي آخر لبعثي آخر يقول: (عندما اقتربت نهاية عام 1953 وبدأ عام 1954 ظهر بوضوح أن القوى الاستعمارية والرجعية بالذات، بدأت تهيئ لقلب نظام الشيشكلي بعد أن شدد مضايقته، لمصالح البرجوازية التجارية والإقطاعية، وأصبح حجر عثرة أمام الأحداث الدولية المعقدة التي توّجت بحلف بغداد)( البعث والوطن العربي- د. قاسم سلاّم، ص- (136-137)).

هذه هي قواعد اللعبة الدولية البريطانية والأمريكية في إجهاض الجيش السوري، وحرف السياسة السورية، عن مجراها الشعبي الرئيسي.. وهؤلاء هم مخالب القط في تنفيذ هذه اللعبة القذرة مباشرة أو بالواسطة. وعلى الرغم من استمرار اللعبة الديمقراطية في الظاهر (فمازال الجيش يدير الأحداث من وراء ستار) وبناء على ضغط البعث فقد أجبر الجيش صبري العسلي رئيس الحكومة الائتلافية على الاستقالة في 11 يونيو 1954م.

انقلاب 28 أيلول (سبتمبر) 1961 في سوريا

بلغ التذمر في سوريا أشده من حكم جمال عبد الناصر المباحثي التسلطي.. فاغتنم العقيد النحلاوي مع مجموعة من الضباط المتفاهمين مع الملك حسين(مذكرات عبد الكريم زهر الدين، ص- 144) الفرصة، وقام بحركته الانقلابية في 28 سبتمبر 1961. وكان نجاح الحركة موضع استغراب المراقبين بسبب قلة عدد الضباط المشاركين. وقد عزي ذلك إلى وجود أكثر من 20 ألف جندي وضابط مصري في الجيش السوري مما جعل أكثر القطعات بيد الضباط المصريين الذين كانوا موضع كراهية شديدة من الضباط السوريين. وهذه الفترة التي سميت فيما بعد بفترة الانفصال والتي دامت حتى (8) آذار 1963 تميزت بكثرة انقلاباتها.

ففي 28 مارس 1962م قاد النحلاوي انقلاباً آخر حلّ على أثره مجلس النواب الجديد المنتخب وألقى القبض على رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وعدد من السياسيين.

وفي 30 مارس 1962م انطلقت حركة تمرد أخرى من حمص وشارك فيها كثير من العناصر الناصرية والبعثية أدت إلى صدامات مسلحة سقط نتيجتها عدد من الضحايا بين الضباط والجنود وخاصة في حمص وحلب ووضعت البلاد على شفير حرب أهلية طاحنة.

تنادت القيادات العسكرية إلى لقاءات متتالية خلصت إلى القرارات التالية:

1-     إبعاد عبد الكريم النحلاوي وأنصاره من البلاد.

2-     إعادة تنظيم القوات المسلحة.

3-     دراسة مسألة الوحدة بين سوريا ومصر.

4-     تشكيل حكومة جديدة.

رفض الناصريون مقررات حمص وقاموا بحركتهم الانقلابية في 31 مارس بقيادة جاسم علوان من حلب.. الذي اضطر للاختفاء بعد فشل حركته.. أما على الصعيد السياسي فقد شكل بشير العظمة حكومته في 2 أبريل1962م واشتركت فيها جميع الأحزاب كما شارك البعثيون بوزيرين هما عبد الله عبد الدائم للإعلام وعبد الغني قدور للداخلية.

وفي (8) مارس 1963م قام انقلاب عسكري شارك فيه الضباط من كل الاتجاهات. وكانت القوة الفاعلة والموجه الحقيقي فيه هي (اللجنة العسكرية) التي شكلت نواتها من الضباط البعثيين المتمردين أصلاً على قيادة البعث التقليدية والمعادين للوحدة وعبد الناصر معها. أنشأ هؤلاء تنظيمهم السري عندما كانوا في مصر.. وبعد عودتهم أحكموا أمرهم واتصلوا بجميع الاتجاهات وبدأوا التحضير لانقلاب جديد.

ولم يكن يعرف أحد بتنظيمهم(أدركت قيادة حزب البعث القومية في سوريا أن هناك تكتلاً سرياً في الجيش باسم اللجنة العسكرية في بداية كانون الأول (ديسمبر) 1964. فدعت إلى جلسة استثنائية تمخضت عن بيان شديد اللهجة لمعالجة هذه الظاهرة كما حلّت القيادة القطرية في سوريا. (البعث- د. قاسم سلام، ص- 223)) فقد كانوا بعثاً داخل البعث. انطلق زياد الحريري بالانقلاب.. وبدأت اللجنة العسكرية تحكم سيطرتها يوماً بعد يوم وتصفي خصومها واحداً بعد الآخر حتى خلص لها الأمر.

بقي أن نعرف أعضاء اللجنة العسكرية الثلاث عشرة وهم: حافظ الأسد، محمد عمران، صلاح جديد، أحمد المير، سليم حاطوم، حمد عبيد، رباح الطويل، عبد الكريم الجندي، موسى زعتير، عثمان كنعان، مزهر هنيدي، بشير صادق، أمين الحافظ.

في 11 آذار (مارس) 1963م وبعد انقلاب 8 مارس بثلاثة أيام فقط، حاول الناصريون أن يتحركوا عسكرياً وأن يستفيدوا من المظاهرات الشعبية الناصرية من جهة ومن بلبلة الأوضاع داخل الجيش من جهة أخرى. ولم ينجحوا في تحركهم. وكان من نتيجة فشلهم أن صفي من الجيش عدد من الضباط الناصريين بدون ضجة تذكر(سامي الجندي، ص- (112، 117، 118)).

وفي 18 تموز (يوليو) وفي وضح النهار، احتل ما يقرب من ألفي مسلح مواقعهم بقيادة بعض الضباط الناصريين المسرحين حديثاً من الجيش، في الحدائق العامة المحيطة بمبنى القيادة العامة للأركان.. وهوجمت القيادة ومبنى الإذاعة وحرس أركان القوات المسلحة.. وكانت ردة فعل السلطات العسكرية أكثر عنفاً. وهذه المعركة هي أكثر المعارك التي عرفتها دمشق دموية: مئات من الضحايا.. وإعدامات بالجملة.. والحرس القومي يطارد الناصريين في كل مكان(حزب البعث – مصطفى دندشلي، ص- 341).

في مدى خمسة أشهر، نجح البعثيون (اللجنة العسكرية) في تصفية وإبعاد خطر كل السياسيين، المدنيين والعسكريين الذين كانت توجه إليهم تهمة الانفصالية، ومن ثم الناصريين وأخيراً حلفاءهم من الضباط المستقلين زياد الحريري ولؤى الأتاسي(حزب البعث – مصطفى دندشلي، ص- 347).

وفي أكتوبر 1963 وفي المؤتمر القومي السادس الذي عقد في دمشق، أقرّ الحزب التقرير العقائدي الماركسي.. وفي الانتخابات أبعد كل من صلاح البيطار وشبلي العيسمي وخالد يشرطي وعبد المجيد الرافعي ومالك الأمين وعلي جابر وهم أنصار عفلق من القيادة القومية.. وبذلك صفا الجو للبعثيين الطائفيين (أعضاء اللجنة العسكرية).

وانقلاب 8 آذار (مارس) 1963م في سوريا هو الانقلاب الحقيقي الذي يمثل الاتجاه الطائفي لحزب البعث.. ولقد تميز هذا الانقلاب بهزات وتصفيات:

*  التصفيـة الأولى فـي 23 شباط (فبراير) 1966م والتي تـزعمها صلاح جديد وحافظ الأسد وقضت على أمين الحافظ وأنصاره في حزب البعث.

*  التصفية الثانية في 8 أيلول (سبتمبر) 1966م ضد سليم حاطوم الذي قاد الهجوم أساساً على بيت أمين الحافظ.

*  التصفية الثالثة في 16 نوفمبر 1970م ضد صلاح جديد وتياره بقيادة حافظ الأسد وزير الدفاع يومها ورئيس الجمهورية بعد ذلك.

 وخلاصة الكلام

فإن حزب البعث كان في أكثر الأحيان الوسيلة التي استخدمتها القوى الخارجية لتلعب ببلادنا عن طريق الانقلابات العسكرية.. والانقلاب مضر في كل الأحوال.

فهو يلغي الحكم الدستوري بواسطة مجموعة من العساكر لا تفهم أكثر من احتلال الإذاعة وإذاعة البلاغ رقم (1).. وفي كثير من الأحيان أعلن الانقلابيون أنهم خططوا للانقلاب ولم يخططوا لشيء بعده. وليس بالضرورة أن يكون الحكم الدستوري الذي يلغيه الانقلاب جيداً.. بل في أكثر الأحيان يكون سيئاً ظالماً.. ولكن الخطأ لا يعالج بخطأ أشد والظلم لا يزول بظلم أكبر.

لطالما انتظرت أمتنا البلاغ رقم (1). وكم فرح شعبنا بالبلاغ رقم واحد.. فما جاءت أمة إلا ولعنت أختها وما جاء انقلاب إلا وكان مطية أسهل وأرخص للاستعمار.. حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من ضياع للحقوق واستهانة بالبلاد ووأد للحريات. إن حزب البعث الذي لم يترك انقلاباً لم يساهم فيه هو المسؤول المباشر عن نكبة هذه الأمة وما وصلت إليه من ضعف وهوان(القومية بين النظرية والتطبيق- مصطفى محمد الطحان).

 
Leave a comment

Posted by on May 8, 2011 in خواطر

 

سورية.. تاريخ جديد يكتبه الشعب

الجزء الثاني

مصطفى محمد الطحان

 مقدمة

ها هو التاريخ يكتب من جديد في سورية، بعد أن هدم حاجز الخوف، وانقضت السنون العجاف لوطن سوري ظل يرزخ تحت حكم عائلة الأسد منذ أكثر من أربعة عقود، تستبد بالرأي، ملغية الحياة السياسية في البلاد بواسطة دستور عام 1973م، الذي فصّل على مقاس العائلة ورئيسها حافظ الأسد ووريثه من بعده!

حافظ وبشار الأسد

ولقد ظلت تلك العائلة مغلقة آذانها عن سماع نصح المخلصين للوطن، فزجّت بكل من لم يرض بسيرتها الذاتية، المدمرة لكل شيء: السياسة والاجتماع والاقتصاد.. إما في السجون، أو في القبور، أو في المنافي، أو بمصائر غير معروفة حتى الآن لما يقارب عشرين ألف مواطن مفقودين.

فلما طفح الكيل، ولم تجد الكلمة الناصحة المخلصة مكاناً لها عند أصحاب السلطة، بدأ الناس بكسر حاجز الخوف الذي صنعه البطش الوحشي والقتل العشوائي في الشوارع والدوائر والسجون والبيوت في ثمانينيات القرن الماضي(الكاتب السوري محمد السيد (المجتمع 16/4/2011م)).

أخي القارئ

هذه هي الحلقة الثانية من البحث الذي كتبته حول الأحداث المأساوية التي تجري حالياً في سوريا.

(2)
الركائز الفكرية عند البعث

1-   القومية العربية

القومية العربية في نظر البعث ونظر منظّره ميشيل عفلق، دين جديد، بكل ما تحمله كلمة دين من معنى. وإذا كان البعض يرى أن حزب البعث تجاهل الإسلام، فإن الأمر أكبر بكثير من مجرد التجاهل. فهو يحاول أن يصوغ ديناً جديداً ويعبّد الناس به بهدوء وروية وصبر عجيب. فهو يبدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم باعتباره (ممثلاً للنفس العربية في حقيقتها المطلقة، وأن كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع أن يحيا حياة الرسول العربي ولو بصورة جزئية ما دام ينتسب إلى الأمة التي أنجبت محمداً)( في سبيل البعث- عفلق، ص- 44).

ولقد كان عفلق يحلم شخصياً أن يلعب دوراً مشابها للدور الذي قام به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم(البعث- مصطفى دندشلي، ص- 38). أما الإسلام فلم ينظر إليه عفلق باعتباره وحياً إلهياً وإنما اعتبره مُفْصِحاً عن عبقرية الأمة العربية، وأن هذه الأمة تعبّر باستمرار عن نفسها، تمخضت قديماً عن الإسلام، وهي اليوم تتمخض عن الثالوث المعروف (الوحدة العربية والحرية والاشتراكية). فهذا الثالوث الذي تعبر فيه الأمة العربية، عن نفسها، يساوي الإسلام من حيث أهميته ورساليته. يقول أحد منظري البعث: (فالأمة العربية فكرة خالدة وقيمة مطلقة)، وبكلمة واحدة إنها الروح. ويمكن القول إن القومية العربية قد ارتفعت إلى مستوى الروح العلوية بالقدر الذي كان للدين)( البعث- مصطفى دندشلي، ص- 80).

ويزيد عفلق الأمر وضوحاً فيقول:

(لكل أمة في مرحلة معينة من مراحل حياتها محرك أساسي يهز فيها انتباه الأمة وتكون مفصحة عن أعمق حاجاتها في مرحلة ما. فإذا نظرنا إلى العرب في الماضي، وجدنا أن هذا المحرك الأساسي كان في وقت ما عند ظهور الإسلام هو الدين. فقد قَدِر وحده على استثارة كوامن القوى في النفس العربية. أما اليوم فإن المحرك الأساسي للعرب في هذه المرحلة من حياتهم هو القومية. التي هي كلمة السر التي تستطيع وحدها أن تحرك أوتار قلوبهم وتنفذ إلى أعماق نفوسهم. وكما استجاب العربي في الماضي لنداء الدين فاستطاعوا أن يحققوا الإصلاح الاقتصادي، فإنهم يستطيعون اليوم تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، وضمان الحرية بين العرب جميعاً نتيجة للإيمان القومي وحده)( في سبيل البعث- عفلق، ص- (87-88)).

فإذا كانت القومية العربية هي الدين الجديد الذي أفرزته الأمة العربية في الوقت الحاضر، فإن البعث بالتالي هو الحركة التي جسّدت هذه القومية. وإذا كان علم الكلام قد أساء للدين وزجّه في إطار ليس له أساساً، فإن القومية العربية كالدين تماماً لا يمكن أن يستوعبها تحليل نظري جاهز. وإذا كان الدين قديماً يقول كلمته في أوضاع الأمة جميعاً، فإن القومية العربية اليوم (هي نظرية متكاملة للحياة ونظام للمجتمع، لها رأيها الصريح في الاقتصاد والنظام والأخلاق والإنسانية والدين)( البعث- مصطفى دندشلي، ص- 77).

2- الأمة العربية

والأمة العربية حسب تعريفات عفلق (هي فكرة خالدة، وكيان روحي صرف، كلي الوجود، وفائق القوة والإبداع)( في سبيل البعث- عفلق، ص- 77). (فهذه الامة التي أفصحت عن نفسها وعن شعورها بالحياة إفصاحاً متعدداً متنوعاً في تشريع حمورابي، وشعر الجاهلية، ودين محمد، وثقافة عصر المأمون، فيها شعور واحد يهزها في مختلف الأزمان، ولها هدف واحد بالرغم من فترات الانقطاع والانحراف)( في سبيل البعث- عفلق، ص- 77). (في وقت من الأوقات وقبل البعثة، كانت الأمة العربية مجرد فكرة ومثال لا يقابلها في عالم الواقع شيء، ولا يحققها شخص حي، ثم انتظرت فأبدعت مع ظهور الإسلام واقعها من فكرتها، وجسّدت نفسها في رجل واحـد هو محمد. وفي الوقت الراهن تحاول الأمة العربية أن تعبر عن نفسها، ويحق للشخص الذي تتجسد فيه هذه الفكرة أن يتكلم باسم المجموع)( البعث- مصطفى دندشلي، ص- 78).

فإذا سلمنا بأن البعث هو رسالة هذه الأمة، ودينها الجديد الذي أفرزته في التاريخ المعاصر، فإن زعيم البعث هو النبي الجديد الذي يحق له أن يتكلم ليسمع الناس. ولم يكن هذا التعريف الذي تبنّاه عفلق للأمة العربية موضع ترحيب من بعض البعثيين الآخرين، ومن القوميين العرب على العموم، الذين كانوا يميلون إلى تعريفات ساطع الحصري: (بأن الأمة العربية جماعة من الناس تكونت بفعل عوامل أساسية، أبرزها اللغة والتاريخ المشترك، وبفعل عوامل أخرى تأتي في المقام الثاني كروابط الثقافة والتقاليد والسلوك والدفاع والمصالح الاقتصادية المشتركة)( البعث- مصطفى دندشلي، ص- 79).

ولم يكن عفلق غافلاً عن مثل هذه التعريفات، فقد كان يهمه أن تصبح القومية ديناً جديداً وليس مجرد كلمات وتعريفات.

3- البعث والعلمانية

وكما تجاهل دستور البعث مجرد الإشارة إلى الدين، فقد تجاهل ذكر العلمانية كذلك. والعلمانية معناها بالمصطلح الغربي الذي تسرب إلينا منه، هو فصل الدين عن الدولة، أو الحكمة التي تنسب للنصرانية (دع ما لقيصر لقيصر ودع ما لله لله) أو كما يقال: (تصلي وتموت وفق تعاليم الإسلام، وتفهم الاقتصاد حسب تعاليم ماركس، والاجتماع حسب تعاليم دركايم، وعلم النفس حسب تعاليم فرويد).

والبعث والعلمانية توأمان، فكل الأحزاب التي قامت على أساس القومية أو الوطنية أو الماركسية أو الليبيرالية علمانية، وحتى ثورة العرب الكبرى التي كان يقودها زعيم مكة. كانت علمانية، ولقد صرح قادتها بهذا مرات كثيرة، فلماذا إذن تجاهل ميشيل عفلق أن يذكر العلمانية في دستور البعث؟ كان عفلق سياسياً أكثر مما كان مُنظّراً، ولو رجعنا إلى جُلّ كتاباته الفكرية لاستطعنا إرجاعها بسهولة ويسر إلى كتابات ساطع الحصري أو قسطنطين زريق، ولكنهه كان سياسياً أمهـر من الاثنيـن. فكمـا مجّد عفلق الإسلام، ليقيم مكانه ديناً جديداً اسمه القومية العربية، وكما مجّد محمداً الذي صنعته أمته، والأمة اليوم صنعت قائداً جديداً. كذلك تجاهل العلمانية، لأنها ضد الاعتراف بالدين الجديد والنبي الجديد. وإذا كانت لا بد من إضافة، فيقرر عفلق أنه لابد من (التمييز بين الإسلام كمظهر ديني، والإسلام كثقافة عربية)، أما الإسلام كمظهر ديني فقد انتهى ليحل محله الدين الجديد، وأما الإسلام كثقافة عربية أو (الإسلام المعرب) كما يسميه عفلق، تراث ثقافي للأمة العربية لا يمكن الاستغناء عنه، وهو يتساوى بالطبع مع تراث امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى والجاحظ وقسطنطين زريق ومع أدبيات عفلق بالطبع.

وحتى لا يبقى أي لبس في فهم الموضوع، يضيف عفلق(في سبيل البعث- ميشيل عفلق، ص- 144) فيقول: (إن علمانية البعث هي التي تحرر الدين من ظروف السياسة وملابساتها.. وتسمح له بالتالي أن يتحرر وينطلق في حياة الأفراد والمجتمع).

4- البعث والإسلام

في محاضرته حول ذكرى (الرسول العربي) التي ألقاها عفلق في جامعة دمشق عام 1943م قال فيها:

(لا يفهمنا إلا المؤمنون، المؤمنون بالله، قد لا نُرى نصلي مع المصلين، أو نصوم مع الصائمين، ولكننا نؤمن بالله لأننا في حاجة ملحة وفقر إليه عصيب، ونحن وصلنا إلى هذا الإيمان ولم نبدأ به، وكسبناه بالمشقة والألم ولم نرثه إرثاً، ولا استلمناه تقليداً)( في سبيل البعث- ميشيل عفلق، ص- (42-52)).

فعفلق والبعثيون (حسب هذا النص) مؤمنون بالله، لا يعرفون شعائر الإسلام، ولم يرثوا دينهم ممن سبقهم بل وصلوا إليه عن تجربة ومعاناة ذاتية!

وحتى لا يتركك تظن الظنون يقول لك: (إن البعث يستقي مباشرة من (جوهر الدين) وبهذا (الموقف الجذري) فقط تستعيد الأمة العربية شخصيتها. أما الاعتقاد الديني الشائع فإنه على العكس، بما يرافقه من نفعية ونفاق وجهل، يخنق باسم الدين كل اندفاع روحي، وبالتالي كل يقظة للشخصية القومية)( في سبيل البعث- ميشيل عفلق، ص- (204-205)).

فالإسلاميون مثلاً الذين أخذوا بالفهم الديني الشائع، الذي يرافقه دائماً النفاق والجهل والنفعية، يخنقون القيم الروحية باسم الدين!

ويستطرد عفلق حتى لا يترك نقطة بدون توضيح: (إن الرجعية الدينية التي تقوم على المظاهر الخارجية للدين، تكوّن مع الرجعية الاجتماعية معسكراً واحداً يدافع عن المصالح ذاتها ويهدد الدين بخطر كبير)( في سبيل البعث- ميشيل عفلق، ص- (204-205)).

هؤلاء هم الخطر (على الدين)، الذين يقومون على المظاهر الخارجية للدين، أما عفلق وقومه فقد استقوا من النبع والجوهر وطهّروا الدين ممن يستغلونه، فهل فهمنا دين عفلق؟

ويحذّر عفلق أنصاره بأن يتلطفوا وهم يبشرون بالدين الجديد فيقول: (إن جمهور الشعب مازال متأخراً وخاصة لتأثير رجال الدين ولكافة المذاهب والطوائف فينبغي أن لا ننتقد أمامه الدين بطريقة عنيفة)( في سبيل البعث- ميشيل عفلق، ص- (132-134)).

وإذا كان الإسلاميون أو من هم على شاكلتهم يرون أن القومية العربية تتعارض مع تعاليم الإسلام، وأنه (أي الإسلام) وحد بين الشعوب المختلفة، وجعل المؤمنين أخوة، ونبذ العصبية والتفرقة بين العرب وغيرهم، فإنه لا قيمة لكلامهم فهو ظاهر من القول.

يقول عفلق: (إن أوروبا اليوم، كما كانت في الماضي، تخاف على نفسها من الإسلام. ولكنها تعلم الآن أن قوة الإسلام قد بُعثت وظهرت بمظهر جديد هي القومية العربية.. لذلك فهي توجّه على هذه القوة الجديدة كل أسلحتها، بينما نراها تصادق الشكل العتيق للإسلام وتعاضده. فالإسلام الأممي الذي يقتصر على العبادة السطحية، والمعاني العامة الباهتة، آخذ في التفرنـج، ولسـوف يجيء يوم يجد فيه القوميون أنفسهم المدافعين الوحيدين عن الإسلام، ويضطرون لأن يبعثوا فيه معنى خاصاً إذا أرادوا أن يبقى للأمة العربية سبب وجيه للبقاء)( في سبيل البعث- ميشيل عفلق، ص- 49).

هل يظن القارئ أن هذا من غباء عفلق؟

أبداً، فهذا هو التخطيط لإرساء قواعد الدين الجديد.

أفلا يستحق عفلق بعدها جائزة البابا؟

وقد أحال الإسلام إلى دفعة ألم من آلام العروبة، وإن هذه الآلام قد عادت إلى أرض العرب بدرجة من القسوة والعمق لم يعرفها عرب الجاهلية. فما أحراها بأن تبعث فينا اليوم ثورة مطهّرة مُقوّمة كالتي حمل الإسلام لواءها(في سبيل البعث- ميشيل عفلق، ص- (52-61)).

كما أن محمداً كان كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمداً(في سبيل البعث- ميشيل عفلق، ص- (52-60)).

وهل فهم القارئ معنى شعار البعث: أمة عربية واحدة – ذات رسالة خالدة؟ وليس هذا رأي عفلق لوحده، فهذا جلال السيد العضو المؤسس الآخر لحزب البعث، وهو من العناصر المعتدلة نسبياً يقول: (والإسلام نبع من العرب، وعبّر عن حقيقتهم في طور من أطوار تاريخهم، وهو ليس كالمسيحية بالنسبة إلى الرومان. وإذا صحّ هذا، فهو لا يصح على العرب أجمعين بل إنه يصح على عرب الحجاز وما جاورها. أما الأقوام الأخرى من غير العرب، فقد دخلت في دين الإسلام (الدولة) ولم تدخل في دين الإسلام (العقيدة). ولم يستطع الإسلام أن يحل في نفوسهم ويتركز في أعماقهم ويصبح لهم عقيدة إلا بعد ما عملوا فيه تبديلاً وتعديلاً وتحريفاً حتى أخرجوه في بعض الأحيان عن أهدافه المثلى وغاياته السامية) (البعث- جلال السيد، ص- 34).

وهذا الكلام لا يختلف كثيراً عن رأي عفلق وحتى الأرسوزي عن الإسلام.

5- البعث والاشتراكية

بقي أن نقول كلمة مختصرة حول موقف البعث من الاشتراكية.. والبعث حركة قومية نادت طويلاً بالوحدة والحرية ثم بدأت تنادي بالاشتراكية..

والاشتراكية – أساساً- نظام للحياة يبتدأ بالتفسير المادي للتاريخ، ويبني فلسفته في الحياة على أساس الصراع الطبقي، وإذا كانت كل من القومية والاشتراكية من بنات أفكار الغربيين.. فإن القومية مرحلة أولية هلامية لا قوام لها على وجه التحديد.. وهي تصلح كقضية عاطفية تناشد الأقوام بأن ينفضوا عنهم كابوس التخلف والاحتلال، وأن يتقدموا أسوة بالأمم المتحضرة.. فإذا جاءت هذه الساعة وتحرر القوم، فماذا تستطيع القومية أن تقدم لهم بعد ذلك؟ هنا يأتي دور الفلسفات العامة التي تمثل النظام الكامل للحياة، كالإسلام أو الرأسمالية أو الاشتراكية.. التي تعالج كل أوضاع الحياة ضمن خطوط محددة مقدّرة.. ولقد حاول البعث طويلاً أن يدعي بأن (اشتراكيته عربية، وأنه لن ينشدها في كتب ماركس ولينين، وإنما يرى أنها دين الحياة، وظفرُ الحياة على الموت، فهي بفتحها باب العمل أمام الجميع، وسماحها لكل مواهب البشر وفضائلهم أن تتفتح.. تحفظ ملك الحياة، للحياة ولا تبقى للموت إلا اللحم الجاف والعظام النخرة)( في سبيل البعث).

وكلمات عفلق هذه عن الاشتراكية العربية كلمات فضفاضة أدبية لا معنى لها.. وكان عفلق يهاجم الشيوعية فهي – على حد زعمه – (التي تمنع العرب من التفكير في اشتراكيتهم والاهتداء إليها لأنها بادعائها أن الاشتراكية هي الماركسية قد شوهت الاشتراكية الصحيحة التي يحتاجها العرب. والماركسية نظام كلي أممي.. في حين إن الاشتراكية ليست أكثر من نظام اقتصادي مرن متكيف مع حاجات كل أمة. وليس بعسير على العرب إذا ما تخلصوا من كابوس الشيوعية أن يهتدوا إلى اشتراكيتهم)( في سبيل البعث- ميشيل عفلق، ص- (71-75)).

وعندما اقترب البعث من الحكم اضطر إلى اللجوء إلى الاشتراكية بل إلى الشيوعية.. وفي أول حكومة يشكلها صلاح البيطار بعد انقلاب 8 آذار 1963 البعثي، يصرح في جريدة البعث أن الاشتراكية العلمية (أي الشيوعية) هي دليلنا للعمل الثوري.

ومنيف جورج الرزاز الذي أصبح أميناً عاماً للحزب بعد عفلق ألقى محاضرة بعنوان: (لماذا الاشتراكية الآن؟) قال فيها: (الاشتراكية ليست مذهباً اقتصادياً، إنها تقدم حلولاً لكثير من المشاكل المتعلقة بالإنتاج وإعادة توزيع الثروات، والملكية… إلخ، غير أن جميع هذه الحلول ليست سوى مظاهر للاشتراكية. ويضيف: إن النظر إلى الاشتراكية من ناحية اقتصادية فقط يؤدي إلى فهم خاطئ لا ينفذ إلى الأعماق فهي كالرأسمالية والإقطاعية لا يمكن تقليصها إلى مجرد أوضاع اقتصادية معينة.. إنها أوضاع حياة لا أوضاع اقتصاد فحسب)( محاضرات لمنيف الرزاز – القاهرة – عام 1965).

وهكذا عاد البعث إلى أمه الاشتراكية العلمية رفيقين في درب واحد.. أهم أهدافهما محاربة الإسلام، وتوطين أفكار الغربيين أو الشرقيين في بلاد المسلمين.

والاشتراكية البعثية من أكثر الشعارات التي أرهقت الحزب وفرقته.. ففي البداية كانت اشتراكيته لا تعني أكثر من بعض التأميمات مع صيانة الملكية الفردية.. ثم بدأت (تتمركس) حتى صار فلاسفة البعث يتغنّون باشتراكيتهم العلمية.

ولقد استغلت أجنحة الحزب المتصارعة اليمينية منها واليسارية هذه الأوضاع فانقلبت على بعضها.. ففي العراق انقلب يمين البعث على يساره ورحّل قادة اليسار بتاريخ 11 نوفمبر 1963 إلى خارج العراق.

وفي سوريا اعتبر انقلاب 23 فبراير 1966 ردة يمينية، وتآمر على قيادته القومية ومفاهيمه الماركسية.. أما في المؤتمر القومي السادس الذي انعقد في دمشق في 5 أكتوبر 1963م فقد أقر التقرير العقائدي (الذي كتبه ياسين الحافظ) وهـو مـاركسي سـوري.. الـذي بدّل جميع مفـاهيم الحزب القومية إلى مفاهيم ماركسية، على أن يعاد النظر في كل ما كتب سابقا سواء ما نشر منه داخل الحزب أو خارجه. وحول هذا المؤتمر.. اشتد الجدل وسقطت هالة الزعامة التقليدية للحزب وتبني من بقي فيه مفاهيم ماركسية مائة بالمائة.

وبدلاً من كلمة: (اشتراكية عربية) التي اعتاد الحزب أن يسميها فقد صارت كلمة: (الطريق العربي إلى الاشتراكية) هي المستعملة.

فالاشتراكية ذات مضمون عالمي واحد.. والطرق إليها قد تختلف من بلد لآخر.

 

 
Leave a comment

Posted by on May 3, 2011 in خواطر

 

التغيير في سوريا

الجزء الأول

مصطفى محمد الطحان

مقدمة

قال الشاعر السوري بدوي الجبل:

بِدْعَةُ الذُلِّ حينَ لا يذكـرُ الإ    نسانُ في الشام أَنّهُ إنسـانُ

بدعةُ الذُلِّ أن يُصاغَ من الـ    فـردِ إلـهٌ مُهَيْمِـنٌ دَيَـانُ

يا لَهَـا دَوْلـةً  تُعَاقَـبُ فيها    كالْجُنَـاةِ  العقولُ والأذهانُ

أيـنَ حُـرِّيتي  فلم يبقَ حُرّاً    من جهيرِ  النداءِ إلاّ الأذانُ

سُبَّةُ الدهرِ أن يُحاسَـبَ فكرٌ    في هَوَاهُ وأنْ يُغَـلَّ لسـانُ

لا يُهينُ الشعوبَ  إلاّ رِضَاهَا    رضيَ الناسُ بالهوانِ فهانوا

هكذا هو الأمرُ في سورية؛ فالحكمُ الدكتاتوريُّ الصارمُ المستمرُّ في بلادنا لم يسلبْ شعبنا حريته وكرامته وأمنه ورزقه فقط؛ وإنما سلبه إنسانيته أيضا، وكيفَ تبقى لإنسانٍ أو شعبٍ إنسانيّتُهُ إذا حرم الحرية والكرامة وحقَّه الطبيعيَّ المشروع في التفكيرِ والشعورِ والاختيارِ الحرّ، وإمكانيةِ التعبيرِ المشروعِ عن الفكر والشعور والرأي ، والعمل المشروع المسؤول لتجسيد ذلك في عالم الواقع.

إنّ هذا الوضعَ القائمَ في بلادنا الآن لا يمكن أن يدوم، ولا يجوز أن يدوم، ولا نقبل أن يدوم.

اسمعوني جيّداً، فأنا صادقٌ معكم، ناصحٌ لكم، ولا تستمعوا إلى المرائين والمنافقين والانتهازيين الذين سينقلبون عليكم عندما تنقلب الأمور.

شعبنا يريد التغيير، لا ما تحاولونه الآن من الترقيع والتسكين..

وأنتمْ يا إخواننا وأخواتنا… يا شبابنا وشاباتنا… يا فتياننا وفتياتنا… يا أفلاذَ أكبادِنا … يا صنّاعَ تحرّرنا ومستقبلنا.

يا من خرجتم وتخرجون في درعا ودمشق وحمص وحلب وبانياس والقامشلي ومدن ومناطق أخرى.. تتحدّون بصدوركم العارية، وأيديكم الفارغةِ الخوفَ والإرهاب، والقمع والبطش، والرصاص والموت، لتشتروا بأمنكم وسلامتكم ودمكم لأمتكم وبلادكم الحريةَ والعزّةَ والمستقبلَ الكريم.. رجاؤنا إليكم، ومناشدتنا لكم أن تحافظوا أَشدَّ المحافظةِ على سلمية حركتكم، وألاّ تُسْتدْرجوا أبداً إلى عنف أو تخريب أو انتقام، فثورتُكُم السلمية النقية ثورةٌ لرفع الظلم والطغيان عن الجميع، وتحقيق العدل والمساواة والحريّة للجميع، ولَمِّ شتاتِ البلادِ كلِّها كلِّها، بمختلفِ أديانها وأعراقها وأطيافها، على أساس جديد من المواطنة والمساواةِ والعدل والإحسان، والمودة والتآلف والتعاون على الأهداف المشتركة وعلى خير البلاد كلِّ البلاد(عصام العطار (21/3/2011م)).

أخي القارئ

بهذه المقدمة الرائعة التي كتبها الأستاذ عصام العطار ابن دمشق، الذي ألجأته ظروف سوريا أن يعيش وحيداً بعيداً في بلاد الاغتراب.

الأستاذ عصام العطار

وسأتحدث فيما يلي عن الأحداث في سوريا.. وما دهاها وما أصابها.. ولكن الحديث قد يطول.. وسأقدمه لك على حلقات إن شاء الله.

 

(1)
حزب البعث العربي

كان حزب البعث العربي أهم الأحزاب السياسية التي تبنت القومية العربية، ونادت بالوحدة العربية في أوائل الأربعينيات من هذا القرن.

وإذا اختلف الكُتّاب في نشأة هذا الحزب إلا أنهم لم يختلفوا في منطلقاته الفكرية والأيديولوجية.. فميشيل عفلق هو مفكر ومنظّر الحزب الأول والأخير، وكتاباته هي الشاهد على هذا الحزب، له أو عليه..

وإذا كان جلال السيد وهو أحد أربعة شكلوا حزب البعث بالإضافة إلى صلاح البيطار ومدحت البيطار وميشيل عفلق، يقول(حزب البعث العربي- جلال السيد، ص- 28): (بأن فكرة البعث كانت نتيجة مداولات طويلة بينه وبين عفلق في البداية ثم انضم إليهما صلاح الدين البيطار ومدحت البيطار بعد ذلك، وأن الاجتماعات بينهم كانت يومية ومكثفة وصريحة حتى وصل الأمر إلى حد الاعتقاد بأن أفكارنا واحدة لا خلاف حتى في جزئياتها وتفاصيلها وفرعياتها، وقد اتخذ الأربعة المذكورون من أنفسهم لجنة تنفيذية لحزب البعث العربي وأعلنوا المباشرة بالتنظيم وقبول المنتسبين وكان ذلك عام 1943م).

ولسامي الجندي أحد أوائل الذين اشتركوا بالتأسيس له رأي آخر.. فهو يقول: (إن عام 1933 شهد مولد (عصبة العمل القومي) بزعامة الأستاذ عبد الرزاق الدندشي. وإنها خلال عمرها القصير الذي امتد حتى عام 1940 ضمّت أعداداً كبيرة من الشباب القومي. وإن زكي الأرسوزي الذي كان يقود المقاومة في لواء الإسكندرون كان أعطى العصبة زخماً وقوة كبيرين وإن انسحابه منها عام 1939م كان سبباً لانهيارها وإنه (أي الأرسوزي) أسس فيما بعد (الحزب القومي العربي) وكانت مبادؤه:

* العرب أمة واحدة.

*  للعرب زعيم واحد يتجلى عن إمكانيات الأمة العربية يمثلها ويعبر عنها اصدق تعبير.

*  العروبة: وجداننا القومي، مصدر المقدسات، عنه تنبثق المثل العليا وبالنسبة إليه تقدر قيمة الأشياء.

*  العربي سيد القدر.

وانتهى هذا الحزب وتفرق رواده بعد سفر المعلّم (الأرسوزي) إلى العراق. وفي نوفمبر 1940م (ذكرى سلخ لواء أسكندرون) التقى ستة نفر منهم: الأرسوزي، وعبد الحليم قدور، وسامي الجندي، وشكلوا (حزب البعث العربي) الذي ما لبث أن تفرق أنصاره. وفي عام 1943 أسس ميشيل عفلق وصلاح البيطار حزباً حمل اسم البعث تارة وحركة الإحياء العربي تارة أخرى.. وهكذا قام بعث عفلق على أنقاض بعث الأرسوزي)( حزب البعث – سامي الجندي، ص- (19-32)).

والتوفيق بين الرأيين ممكن إذا علمنا أن الأرسوزي كثير التردد سريع التنقل، ففي سنة واحدة أسس أكثر من حركة ثم تركها تتلاشى.. ولا يبعد أن يكون هو الذي أطلق كلمة البعث.. ثم تبناها غيره فيما بعد.

المهم أن حزب البعث العربي الذي لعب دوراً رئيساً في أحداث سوريا.. وفي أحداث العالم العربي فيما بعد.. هو الحزب الذي أسسه ميشيل عفلق عام 1943م ثم أعلن عنه رسمياً عام 1947م. فلقد عُقد في دمشق في السابع من أبريل عام 1947 المؤتمر التأسيسي الأول.. اشترك فيه جميع الأفراد الذين انتسبوا للحزب من سوريا ولبنان وكان عددهم لا يتجاوز مائة عضو. ترأس الاجتماع عضو اللجنة التنفيذية جلال السيد. وقد برز في المؤتمر تياران: الأول: وصف بالاعتدال يتزعمه ميشيل عفلق وصلاح البيطار. والثاني: وصف بالتطرف يتزعمه الدكتور وهيب الغانم الذي كان يصر على إبراز الهوية الاشتراكية للحزب.

أهم النقاط التي دارت حولها المناقشات هي:

* موقف حزب البعث من الدين والرجعية الدينية.

*  مفهوم الوحدة والسياسة الخارجية على الصعيد العربي.

*  الحرية الفردية.

*  مفهوم الاشتراكية العربية(حزب البعث العربي الاشتراكي- مصطفى دندشلي 1: 49).

ولقد انتهى المؤتمر بعد إقرار دستور الحزب وانتخاب لجنته التنفيذية الجديدة التي تشكلت من ميشيل عفلق والبيطار وجلال السيد ووهيب الغانم، واعتبر هذا التاريخ هو الميلاد الرسمي لحزب البعث العربي.

تيارات داخل الحزب

في المؤتمر التأسيسي لحزب البعث وأثناء إقرار دستوره، برزت تيارات رئيسية لا بأس من الإشارة إليها لأنها ستؤثر على مجريات الأحداث القادمة في حزب البعث العربي الاشتراكي.

أولاً: الجناح اليميني

وكان يمثله عضو اللجنة التنفيذية جلال السيد.. وإلى حد ما مدحت البيطار أحد مؤسسي الحزب كذلك. يقول مصطفى الدندشلي في كتابه عن البعث: (إن جلال السيد كان مؤيداً للعراق الهاشمي ويعمل للاتحاد معه.. وإليه يرجع السبب في الإشادة بثورة الشريف حسين عام 1916 في دستور البعث الذي أقر عام 1947).

كان هذا الاتجاه يرى أن القبيلة العربية هي التي تمثل حقيقة القومية العربية، فهي ما زالت (على حد زعمه) مؤتمنة على الأخلاق العربية والتقاليد العربية. كما كان يرى أن سياسة الحياد التي ينادي بها حزب البعث جزء من لعبة الاتحاد السوفياتي. وكان ينادي بالتعاون مع دول العالم الإسلامي باعتباره رصيداً كبيراً ينبغي استثماره. وأكد جلال السيد أن الوحدة العربية لم تكن مرتبطة بحزب البعث بأي شرط من الشروط. بل إن الاشتراكية هي إحدى عوائق هذه الوحدة الشاملة.

ومع الزمن تخلص الحزب من هذا الاتجاه اليميني كما تخلص من جميع الوثائق الرسمية التي تحمل اسم جلال السيد، وحتى المفاهيم الأساسية عن الحرية والوحدة أصبحت مرتبطة بالاشتراكية وليس بأي عامل قومي.

ثانياً: الجناح اليساري

يؤكد مصطفى الدندشلي في كتابه عن البعث أن وهيب الغانم هو الذي كان يمثل هذا التيار وأنه عكف على هذا الفكر اليساري الاشتراكي ابتداءً من بروز الاشتراكية السوفياتية بعد انتصارات ستالينغراد.. وأن عفلق والبيطار زاراه في بلده اللاذقية وتناقشاً معه لمدة طويلة، حتى اقتنع عفلق رغبة منه في إنشاء حزب موحد.

ويصف جلال السيد هذا الجناح فيقول: هناك فئة من الماركسيين والمتحللين اندسوا في صفوف الحزب من غير إعلان، وبعدما سار الحزب ردحاً من الزمن فإن الفئة المحافظة اختنقت بمناخ الحزب الجديد، فانسحب أفرادها بالتدريج إلى أن أصبح الحزب كلياً من اليساريين على تفاوت في درجات تطرفهم وتعصبهم للماركسية(البعث- جلال السيد، ص- 36).

ثالثاً: جناح الأرسوزي

ويمثل هذا الجناح فئة من الشبان تأثروا بمنهج الأرسوزي وانطبعوا بأفكاره. والأرسوزي قائد طائفي.. وأكثر الشباب الذين تأثروا به من النصيريين الذين نزحوا من اللواء وانتقلوا إلى دمشق، وأشرف الأرسوزي عليهم مباشرة مادياً ومعنوياً.

كان هذا التيـار معادياً للإسلام مستهتراً بالـدين(البعث- جلال السيد، ص- 36)، يعتبر الإسلام قدحة من قدحات زناد الأمة العربية وناحية من نواحي عبقريتها، وهو ليس بالأمر المهم إذا قيس بالأمة العربية، فالعصر الجاهلي هو عصر هذه الأمة الذهبي. بل أكثر من ذلك فالإسلام بغيض لهؤلاء.. لأن الأتراك مسلمون.. وكل مسلم فهو تركي.. والأتراك هم الذين حاربوا القومية العربية في لواء الأسكندرون الذي جاء الأرسوزي منه.

ويعتقد الكثيرون أن هؤلاء لا يؤمنون بغير طائفيتهم ولو نادوا بشعارات العروبة والقومية والإنسانية ويكفي أن نعرف أنه بعد سيطرة الطائفيين على حزب البعث (أحلّوا الأرسوزي أباً روحياً للحزب بدل ميشيل عفلق تنفيذاً لخطة قديمة بعد تمهيد طويل، بدأ قليلاً بعد انقلاب 8 آذار 1963م. فلقد كان المدنيّ الوحيد الذي يزور القطاعات العسكرية ويحاضر فيها، بينما حُجبت حجباً كاملاً عن المدنيين القياديين في الحزب. أيقظوا فيه طموح الشباب والانتماء الطائفي!

يقول سامي الجندي: يتساءل الناس هل هو (أي الأرسوزي) طائفي أم لا؟ قد يكون وقد لا يكون، أميل للاعتقاد أنه غير طائفي، ولكنه مسؤول عنها، اعتمد عليها ونظمها وجعلها حزباً وراء الحزب) (البعث- سامي الجندي، ص- 19)..

رابعاً: الجناح القومي المعتدل

وهم أولئك النفر الذين ينساقون وراء الدعوات العاطفية فيأخذون ظاهرها، ويجهلون حقيقتها، فيتركون مواقعهم كلما توضحت لبعضهم حقيقة الصورة.. فحزب البعث في بداياته كان يزعم أنه مع الدين وان الرسالة الخالدة ليست سوى الإسلام.. وكان يزعم أنه حزب للحريات ومعاد للاستعمار.. وانه حزب وحدوي.. فلما تبين لهؤلاء مواقف الحزب الحقيقية البعيدة كل البعد عن مثالياته تركوه.. وها هو أحد أركان البعث يقول فيه: (من كان يظن منا أن يوماً يأتي نخجل فيه من ماضينا، نفرّ منه كذنب اقترفناه عن عمد فيلاحقنا في عيون البشر احتقاراً. آثار التعذيب الوحشي في الأجساد أرّقني، أين وصلت عشائر البعث العربي الاشتراكي)( البعث- سامي الجندي، ص- 160).

كلمة حول المؤسسين

وقبل أن ندخل في تفصيلات هذا الحزب.. يحسن بنا أن نعطي فكرة مبسطة عن مؤسسيه وخاصة أولئك الذين تركوا بصماتهم على فكره ومواقفه.

زكي الأرسوزي

كتب عنه تلميذه سامي الجندي فقال: (كان الأرسوزي زعيم المقاومة العربية في لواء أسكندرون، استقطب إعجاب شباب سورية وتأييدهم قاطبة، وغدا رمزا وطنياً، كان اول من جاء للسياسة بتحليل متأثر بالثقافة والفكر الأوروبي.. انضم إلى عصبة العمل القومي وانسحب منها، وحاول بالاشتراك مع ميشيل قوزما وعفلق والبيطار وإليس قندلفت إنشاء منظمة حزبية ولكن الاجتماعات فشلت ولم تسفر عن شيء، ثم أسس الحزب القومي العربي الذي ما لبث أن تلاشى، ثم أسس عام 1940م حزباً آخر أسماه حزب البعث العربي.. من أفكاره أن للعرب زعيماً واحداً هو صورة علمانية حديثة لإمام الزمان الذي يُقتدى به بالصلاة، ويطاع فيما يقضي فيه، فهو الحاكم السياسي الديني. العروبة عنده هي الوجدان القومي الذي انبثقت عنه المقدسات. كان يعتبر نفسه ذروة المنحنى العربي.. بل هو الذي أعطاه معناه الفلسفي والحضاري.. كان متمرداً على كل القيم القديمة، عدواً لكل ما تعارف عليه البشر، ألحد مع مريديه بكل الطقوس والعلاقات والأديان. اتُهمنا (ما زال الحديث لسامي الجندي عن أستاذه) بالإلحاد وكان ذلك صحيحاً.. كنا عرقيين معجبين بالنازية، فقرأنا كتبها ومنابع فكرها وخاصة (نيتشه) و(فيخته) و(تشمبرلين) و(داره). كان يرى الجاهلية مثله الأعلى، يسميها المرحلة العربية الذهبية.. تبنى كل ما كان جاهلياً في الإسلام.. كان إنسان الرفض ورفضنا معه.. ناقشته سنة 1946 بالقرآن فعاب علي نزعتي الدينية قائلاً: أنت راهب في ثياب ثوري. اعترضت قائلاً: إن الإيمان بالأفكار هو دينيُّ الملامح، فأجاب: إن الثورة نفسها إيمان صوفي. وجدتُ أنه لم يقرأ القرآن.. وقد لا يعلم كثيرون أنه بدأ يدرس اللغة العربية عام 1940، وقبل ذلك كان يفضل الحديث بالفرنسية. كان متوتر الأعصاب يقضم نفسه. وبدأ الشك يسيطر عليه على منطقه حتى غدا مريض الاضطهاد: كل من حوله جاسوس)( البعث- سامي الجندي، ص- (21-28) بتصرف).

زكي الأرسوزي

كان أقرب إلى التفكير النازي بل إنه أقرب إلى التفكير الروماني في تقسيم الناس إلى عبيد وسادة() البعث- جلال السيد، ص- 18).

هذا هو زكي الأرسوزي فيلسوف حزب البعث.. رجل طائفي نصيري، متقلب، متشنج، لا يعرف لغة العرب، ولا يثق بأحد حتى بأقرب الناس إليه، مثله الأعلى الجاهلية وزعيمه الأعظم امرؤ القيس الشاعر العربي.. درس الفلسفة في السوربون وتأثر بالفلاسفة (برغسون، نيشه، فيخته، ديكارت وكانْت).

ميشيل عفلق(حزب البعث العربي الاشتراكي- مصطفى دندشلي، 1: 19 وما بعدها)

 ميشيل عفلق

المؤسس الحقيقي لحزب البعث العربي.. طبع الحزب بطابعه الشخصي وأثّر فيه تأثيراً عميقاً، ليس فقط على الصعيد الأيديولوجي، بل وعلى صعيد التنظيم الحزبي والعمل السياسي واتخاذ المواقف. من هنا فلدراسة حزب البعث دراسة عميقة وصحيحة ينبغي أن ندرس حياة مؤسسه ومنظّره عفلق. ولبلوغ ذلك يمكننا أن نتناول الموضوع بالتركيز على مظاهر ثلاثة: الاهتمامات الأدبية لعفلق، وعلاقاته مع الماركسية، وأخيراً الملامح المميزة لشخصيته.

البدايات الأدبية لعفلق

بعد عودته إلى دمشق، بعد أن أمضى قرابة أربعة أعوام في باريس (1929-1933) أظهر ميشيل عفلق اهتماماً كبيراً بالقضايا الأدبية. وكان ينظر إليه في ذلك الوقت كقصاص وشاعر. كان أحد مؤسسي مجلة الطليعة الشيوعية، ومن كتابها بالإضافة إلى يوسف يزبك، كامل عياد، ورشوان عيسى، ورئيف خوري، وكان هؤلاء من بين الأعضاء الأوائل للحزب الشيوعي السوري. كما أنه كان يكتب في جريدة (الأيام) التي يغلب عليها الاتجاه الشيوعي.

تأثر بالكتّاب الفرنسيين أمثال (أندريه جيد، رومان رولان) ولقد صرّح لجريدة الأيام أنه قلما يقرأ القصص العربية (لأني لا أجد فيها نفسي (والحديث لعفلق).. أما إذا اشتقت أن أسمع صدى نفسي فانشده في قصة فرنسية أو روسية).

علاقاته مع الشيوعية

يدعي الشيوعيون أنه ما بين 1940 و1945 كان عفلق عضواً في الحزب الشيوعي السوري وأنه طرد منه على إثر صدام احتدم بينه وبين خالد بكداش على مركز الأمانة العامة الأمانة العامة للحزب.

ولقد كتب صلاح البيطار وعفلق عام 1944 نشرة بعنوان: (القومية العربية وموقفها من الشيوعية) يقولان فيها: بعد فترة قصيرة من الإقامة في باريس لاحظاً أن التعاطف مع قضية بلدهما لم يكن يأتي إلا من جانب الشيوعيين وبعض النواب الاشتراكيين في البرلمان الفرنسي. وكان ذلك هو السبب الذي حببهم إلينا. وبعد العودة إلى الوطن كان من الطبيعي (والحديث مازال لهما) أن يوحدا جهودهما مع الحركة التقدمية الممثلة في ذلك الوقت بالحزب الشيوعي السوري الناشيء. ويظهر أن كلاً من البيطار وعفلق قد توقفا عن الاستمرار مع الشيوعيين خاصة بعد أن نشر (أندريه جيد) ملهمهما والذي كان عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي ما بين (1931 – 1936م) كتابه (العودة من الاتحاد السوفياتي) عبّر فيه عن خيبة أمله نتيجة للفارق الفاصل بين الصورة التي رسمها عن روسيا السوفياتية والواقع السياسي للنظام القائم. وأن روسيا لم تحتفظ بالشيوعية الأممية إلا في دعايتها الخارجية وأنها في الداخل امة تمشي حثيثة الخطى نحو نظام خاص بها وتتهيأ للتوسع شأنها شان غيرها من الدول الكبرى. من أجل ذلك (والحديث ما زال لهما) لا نألوا جهداً في مكافحة الشيوعية وتحذير النشء العربي من خطرها.

الملامح المميزة لشخصية عفلق

ولد عفلق عام 1910 في حي الميدان في دمشق. كان أبوه يوسف تاجر حبوب على رغدٍ من العيش.. وبحكم عمله فقد كان له علاقات وثيقة مع المزارعين والوجهاء في جبل الدروز. بعد أن أنهى عفلق دراسته الثانوية في دمشق، سافر إلى فرنسا وحصل من جامعة السوربون على إجازة في التاريخ.. عاد بعدها ليدرّس نفس المادة في ثانوية التجهيز في دمشق التي تخرج منها. الأمر الذي يلفت الانتباه في شخصيته هو ذلك البطء المحير، البطء في طريقته بالتفكير والحياة. وهو كمفكر ومنظّر لحركة البعث، لك يظهر أبداً كرجل عمل وممارسة. نظراته يلقيها بخجل، وحساسيته تبلغ حد الإفراط. كان يتضايق لأقل الأسباب خصوصاً عندما كان يوضع خطُّه أو فكره السياسي موضع التساؤل. كثير التردد والتقلب يجد صعوبة فائقة باتخاذ أي قرار مهما كانت أهميته. كان عفلق يلوذ بالكتمان إلى درجة يصعب فيها حتى على أقرب المقربين إليه أن يدركوا حقيقة نواياه. يدّعي عبد البر عيون السود (وهو أحد مؤسسي حزب البعث): أن عفلق يتمتع بذكاء خاص. ويقول سامي الجندي: إن عفلق من أكثر السياسيين ذكاء، فقد استطاع أن يحتفظ بمنصبه كامين عام للحزب طيلة خمسة وعشرين عاماً. أما الكثيرون من زعماء الحزب الذين يعرفون عفلق جيداً فلا يشاطرون الجندي ولا (عيون السود) رأيهما هذا.

وعفلق وإن كان يجذبه النفوذ والأبهة.. إلا أنه كان متواضعاً في حياته الخاصة والعامة. لم يكن قارئاً جيداً. يذكر للصحفي الفرنسي (إيريك رولو) بأنه فقد الصلة مع تيارات الفكر الغربي مع مطلع الحرب العالمية الثانية(حزب البعث العربي الاشتراكي- مصطفى دندشلي، 1: (19-32) بتصرف).

هذا هو عفلق، مؤسس ومنظر البعث، كان رجلاً نصرانياً بطيئاً في الفهم متردداً في اتخاذ القرار، ذكاؤه ينحصر في قدرته على الاحتفاظ بمنصبه، مثله الأعلى الفكر الفرنسي.. كان مع الشيوعية يوم كان (أندريه جيد) معها، وتركها عندما تركها فيلسوفه المفضل.

 
Leave a comment

Posted by on May 1, 2011 in خواطر