RSS

التغيير في سوريا

01 May

الجزء الأول

مصطفى محمد الطحان

مقدمة

قال الشاعر السوري بدوي الجبل:

بِدْعَةُ الذُلِّ حينَ لا يذكـرُ الإ    نسانُ في الشام أَنّهُ إنسـانُ

بدعةُ الذُلِّ أن يُصاغَ من الـ    فـردِ إلـهٌ مُهَيْمِـنٌ دَيَـانُ

يا لَهَـا دَوْلـةً  تُعَاقَـبُ فيها    كالْجُنَـاةِ  العقولُ والأذهانُ

أيـنَ حُـرِّيتي  فلم يبقَ حُرّاً    من جهيرِ  النداءِ إلاّ الأذانُ

سُبَّةُ الدهرِ أن يُحاسَـبَ فكرٌ    في هَوَاهُ وأنْ يُغَـلَّ لسـانُ

لا يُهينُ الشعوبَ  إلاّ رِضَاهَا    رضيَ الناسُ بالهوانِ فهانوا

هكذا هو الأمرُ في سورية؛ فالحكمُ الدكتاتوريُّ الصارمُ المستمرُّ في بلادنا لم يسلبْ شعبنا حريته وكرامته وأمنه ورزقه فقط؛ وإنما سلبه إنسانيته أيضا، وكيفَ تبقى لإنسانٍ أو شعبٍ إنسانيّتُهُ إذا حرم الحرية والكرامة وحقَّه الطبيعيَّ المشروع في التفكيرِ والشعورِ والاختيارِ الحرّ، وإمكانيةِ التعبيرِ المشروعِ عن الفكر والشعور والرأي ، والعمل المشروع المسؤول لتجسيد ذلك في عالم الواقع.

إنّ هذا الوضعَ القائمَ في بلادنا الآن لا يمكن أن يدوم، ولا يجوز أن يدوم، ولا نقبل أن يدوم.

اسمعوني جيّداً، فأنا صادقٌ معكم، ناصحٌ لكم، ولا تستمعوا إلى المرائين والمنافقين والانتهازيين الذين سينقلبون عليكم عندما تنقلب الأمور.

شعبنا يريد التغيير، لا ما تحاولونه الآن من الترقيع والتسكين..

وأنتمْ يا إخواننا وأخواتنا… يا شبابنا وشاباتنا… يا فتياننا وفتياتنا… يا أفلاذَ أكبادِنا … يا صنّاعَ تحرّرنا ومستقبلنا.

يا من خرجتم وتخرجون في درعا ودمشق وحمص وحلب وبانياس والقامشلي ومدن ومناطق أخرى.. تتحدّون بصدوركم العارية، وأيديكم الفارغةِ الخوفَ والإرهاب، والقمع والبطش، والرصاص والموت، لتشتروا بأمنكم وسلامتكم ودمكم لأمتكم وبلادكم الحريةَ والعزّةَ والمستقبلَ الكريم.. رجاؤنا إليكم، ومناشدتنا لكم أن تحافظوا أَشدَّ المحافظةِ على سلمية حركتكم، وألاّ تُسْتدْرجوا أبداً إلى عنف أو تخريب أو انتقام، فثورتُكُم السلمية النقية ثورةٌ لرفع الظلم والطغيان عن الجميع، وتحقيق العدل والمساواة والحريّة للجميع، ولَمِّ شتاتِ البلادِ كلِّها كلِّها، بمختلفِ أديانها وأعراقها وأطيافها، على أساس جديد من المواطنة والمساواةِ والعدل والإحسان، والمودة والتآلف والتعاون على الأهداف المشتركة وعلى خير البلاد كلِّ البلاد(عصام العطار (21/3/2011م)).

أخي القارئ

بهذه المقدمة الرائعة التي كتبها الأستاذ عصام العطار ابن دمشق، الذي ألجأته ظروف سوريا أن يعيش وحيداً بعيداً في بلاد الاغتراب.

الأستاذ عصام العطار

وسأتحدث فيما يلي عن الأحداث في سوريا.. وما دهاها وما أصابها.. ولكن الحديث قد يطول.. وسأقدمه لك على حلقات إن شاء الله.

 

(1)
حزب البعث العربي

كان حزب البعث العربي أهم الأحزاب السياسية التي تبنت القومية العربية، ونادت بالوحدة العربية في أوائل الأربعينيات من هذا القرن.

وإذا اختلف الكُتّاب في نشأة هذا الحزب إلا أنهم لم يختلفوا في منطلقاته الفكرية والأيديولوجية.. فميشيل عفلق هو مفكر ومنظّر الحزب الأول والأخير، وكتاباته هي الشاهد على هذا الحزب، له أو عليه..

وإذا كان جلال السيد وهو أحد أربعة شكلوا حزب البعث بالإضافة إلى صلاح البيطار ومدحت البيطار وميشيل عفلق، يقول(حزب البعث العربي- جلال السيد، ص- 28): (بأن فكرة البعث كانت نتيجة مداولات طويلة بينه وبين عفلق في البداية ثم انضم إليهما صلاح الدين البيطار ومدحت البيطار بعد ذلك، وأن الاجتماعات بينهم كانت يومية ومكثفة وصريحة حتى وصل الأمر إلى حد الاعتقاد بأن أفكارنا واحدة لا خلاف حتى في جزئياتها وتفاصيلها وفرعياتها، وقد اتخذ الأربعة المذكورون من أنفسهم لجنة تنفيذية لحزب البعث العربي وأعلنوا المباشرة بالتنظيم وقبول المنتسبين وكان ذلك عام 1943م).

ولسامي الجندي أحد أوائل الذين اشتركوا بالتأسيس له رأي آخر.. فهو يقول: (إن عام 1933 شهد مولد (عصبة العمل القومي) بزعامة الأستاذ عبد الرزاق الدندشي. وإنها خلال عمرها القصير الذي امتد حتى عام 1940 ضمّت أعداداً كبيرة من الشباب القومي. وإن زكي الأرسوزي الذي كان يقود المقاومة في لواء الإسكندرون كان أعطى العصبة زخماً وقوة كبيرين وإن انسحابه منها عام 1939م كان سبباً لانهيارها وإنه (أي الأرسوزي) أسس فيما بعد (الحزب القومي العربي) وكانت مبادؤه:

* العرب أمة واحدة.

*  للعرب زعيم واحد يتجلى عن إمكانيات الأمة العربية يمثلها ويعبر عنها اصدق تعبير.

*  العروبة: وجداننا القومي، مصدر المقدسات، عنه تنبثق المثل العليا وبالنسبة إليه تقدر قيمة الأشياء.

*  العربي سيد القدر.

وانتهى هذا الحزب وتفرق رواده بعد سفر المعلّم (الأرسوزي) إلى العراق. وفي نوفمبر 1940م (ذكرى سلخ لواء أسكندرون) التقى ستة نفر منهم: الأرسوزي، وعبد الحليم قدور، وسامي الجندي، وشكلوا (حزب البعث العربي) الذي ما لبث أن تفرق أنصاره. وفي عام 1943 أسس ميشيل عفلق وصلاح البيطار حزباً حمل اسم البعث تارة وحركة الإحياء العربي تارة أخرى.. وهكذا قام بعث عفلق على أنقاض بعث الأرسوزي)( حزب البعث – سامي الجندي، ص- (19-32)).

والتوفيق بين الرأيين ممكن إذا علمنا أن الأرسوزي كثير التردد سريع التنقل، ففي سنة واحدة أسس أكثر من حركة ثم تركها تتلاشى.. ولا يبعد أن يكون هو الذي أطلق كلمة البعث.. ثم تبناها غيره فيما بعد.

المهم أن حزب البعث العربي الذي لعب دوراً رئيساً في أحداث سوريا.. وفي أحداث العالم العربي فيما بعد.. هو الحزب الذي أسسه ميشيل عفلق عام 1943م ثم أعلن عنه رسمياً عام 1947م. فلقد عُقد في دمشق في السابع من أبريل عام 1947 المؤتمر التأسيسي الأول.. اشترك فيه جميع الأفراد الذين انتسبوا للحزب من سوريا ولبنان وكان عددهم لا يتجاوز مائة عضو. ترأس الاجتماع عضو اللجنة التنفيذية جلال السيد. وقد برز في المؤتمر تياران: الأول: وصف بالاعتدال يتزعمه ميشيل عفلق وصلاح البيطار. والثاني: وصف بالتطرف يتزعمه الدكتور وهيب الغانم الذي كان يصر على إبراز الهوية الاشتراكية للحزب.

أهم النقاط التي دارت حولها المناقشات هي:

* موقف حزب البعث من الدين والرجعية الدينية.

*  مفهوم الوحدة والسياسة الخارجية على الصعيد العربي.

*  الحرية الفردية.

*  مفهوم الاشتراكية العربية(حزب البعث العربي الاشتراكي- مصطفى دندشلي 1: 49).

ولقد انتهى المؤتمر بعد إقرار دستور الحزب وانتخاب لجنته التنفيذية الجديدة التي تشكلت من ميشيل عفلق والبيطار وجلال السيد ووهيب الغانم، واعتبر هذا التاريخ هو الميلاد الرسمي لحزب البعث العربي.

تيارات داخل الحزب

في المؤتمر التأسيسي لحزب البعث وأثناء إقرار دستوره، برزت تيارات رئيسية لا بأس من الإشارة إليها لأنها ستؤثر على مجريات الأحداث القادمة في حزب البعث العربي الاشتراكي.

أولاً: الجناح اليميني

وكان يمثله عضو اللجنة التنفيذية جلال السيد.. وإلى حد ما مدحت البيطار أحد مؤسسي الحزب كذلك. يقول مصطفى الدندشلي في كتابه عن البعث: (إن جلال السيد كان مؤيداً للعراق الهاشمي ويعمل للاتحاد معه.. وإليه يرجع السبب في الإشادة بثورة الشريف حسين عام 1916 في دستور البعث الذي أقر عام 1947).

كان هذا الاتجاه يرى أن القبيلة العربية هي التي تمثل حقيقة القومية العربية، فهي ما زالت (على حد زعمه) مؤتمنة على الأخلاق العربية والتقاليد العربية. كما كان يرى أن سياسة الحياد التي ينادي بها حزب البعث جزء من لعبة الاتحاد السوفياتي. وكان ينادي بالتعاون مع دول العالم الإسلامي باعتباره رصيداً كبيراً ينبغي استثماره. وأكد جلال السيد أن الوحدة العربية لم تكن مرتبطة بحزب البعث بأي شرط من الشروط. بل إن الاشتراكية هي إحدى عوائق هذه الوحدة الشاملة.

ومع الزمن تخلص الحزب من هذا الاتجاه اليميني كما تخلص من جميع الوثائق الرسمية التي تحمل اسم جلال السيد، وحتى المفاهيم الأساسية عن الحرية والوحدة أصبحت مرتبطة بالاشتراكية وليس بأي عامل قومي.

ثانياً: الجناح اليساري

يؤكد مصطفى الدندشلي في كتابه عن البعث أن وهيب الغانم هو الذي كان يمثل هذا التيار وأنه عكف على هذا الفكر اليساري الاشتراكي ابتداءً من بروز الاشتراكية السوفياتية بعد انتصارات ستالينغراد.. وأن عفلق والبيطار زاراه في بلده اللاذقية وتناقشاً معه لمدة طويلة، حتى اقتنع عفلق رغبة منه في إنشاء حزب موحد.

ويصف جلال السيد هذا الجناح فيقول: هناك فئة من الماركسيين والمتحللين اندسوا في صفوف الحزب من غير إعلان، وبعدما سار الحزب ردحاً من الزمن فإن الفئة المحافظة اختنقت بمناخ الحزب الجديد، فانسحب أفرادها بالتدريج إلى أن أصبح الحزب كلياً من اليساريين على تفاوت في درجات تطرفهم وتعصبهم للماركسية(البعث- جلال السيد، ص- 36).

ثالثاً: جناح الأرسوزي

ويمثل هذا الجناح فئة من الشبان تأثروا بمنهج الأرسوزي وانطبعوا بأفكاره. والأرسوزي قائد طائفي.. وأكثر الشباب الذين تأثروا به من النصيريين الذين نزحوا من اللواء وانتقلوا إلى دمشق، وأشرف الأرسوزي عليهم مباشرة مادياً ومعنوياً.

كان هذا التيـار معادياً للإسلام مستهتراً بالـدين(البعث- جلال السيد، ص- 36)، يعتبر الإسلام قدحة من قدحات زناد الأمة العربية وناحية من نواحي عبقريتها، وهو ليس بالأمر المهم إذا قيس بالأمة العربية، فالعصر الجاهلي هو عصر هذه الأمة الذهبي. بل أكثر من ذلك فالإسلام بغيض لهؤلاء.. لأن الأتراك مسلمون.. وكل مسلم فهو تركي.. والأتراك هم الذين حاربوا القومية العربية في لواء الأسكندرون الذي جاء الأرسوزي منه.

ويعتقد الكثيرون أن هؤلاء لا يؤمنون بغير طائفيتهم ولو نادوا بشعارات العروبة والقومية والإنسانية ويكفي أن نعرف أنه بعد سيطرة الطائفيين على حزب البعث (أحلّوا الأرسوزي أباً روحياً للحزب بدل ميشيل عفلق تنفيذاً لخطة قديمة بعد تمهيد طويل، بدأ قليلاً بعد انقلاب 8 آذار 1963م. فلقد كان المدنيّ الوحيد الذي يزور القطاعات العسكرية ويحاضر فيها، بينما حُجبت حجباً كاملاً عن المدنيين القياديين في الحزب. أيقظوا فيه طموح الشباب والانتماء الطائفي!

يقول سامي الجندي: يتساءل الناس هل هو (أي الأرسوزي) طائفي أم لا؟ قد يكون وقد لا يكون، أميل للاعتقاد أنه غير طائفي، ولكنه مسؤول عنها، اعتمد عليها ونظمها وجعلها حزباً وراء الحزب) (البعث- سامي الجندي، ص- 19)..

رابعاً: الجناح القومي المعتدل

وهم أولئك النفر الذين ينساقون وراء الدعوات العاطفية فيأخذون ظاهرها، ويجهلون حقيقتها، فيتركون مواقعهم كلما توضحت لبعضهم حقيقة الصورة.. فحزب البعث في بداياته كان يزعم أنه مع الدين وان الرسالة الخالدة ليست سوى الإسلام.. وكان يزعم أنه حزب للحريات ومعاد للاستعمار.. وانه حزب وحدوي.. فلما تبين لهؤلاء مواقف الحزب الحقيقية البعيدة كل البعد عن مثالياته تركوه.. وها هو أحد أركان البعث يقول فيه: (من كان يظن منا أن يوماً يأتي نخجل فيه من ماضينا، نفرّ منه كذنب اقترفناه عن عمد فيلاحقنا في عيون البشر احتقاراً. آثار التعذيب الوحشي في الأجساد أرّقني، أين وصلت عشائر البعث العربي الاشتراكي)( البعث- سامي الجندي، ص- 160).

كلمة حول المؤسسين

وقبل أن ندخل في تفصيلات هذا الحزب.. يحسن بنا أن نعطي فكرة مبسطة عن مؤسسيه وخاصة أولئك الذين تركوا بصماتهم على فكره ومواقفه.

زكي الأرسوزي

كتب عنه تلميذه سامي الجندي فقال: (كان الأرسوزي زعيم المقاومة العربية في لواء أسكندرون، استقطب إعجاب شباب سورية وتأييدهم قاطبة، وغدا رمزا وطنياً، كان اول من جاء للسياسة بتحليل متأثر بالثقافة والفكر الأوروبي.. انضم إلى عصبة العمل القومي وانسحب منها، وحاول بالاشتراك مع ميشيل قوزما وعفلق والبيطار وإليس قندلفت إنشاء منظمة حزبية ولكن الاجتماعات فشلت ولم تسفر عن شيء، ثم أسس الحزب القومي العربي الذي ما لبث أن تلاشى، ثم أسس عام 1940م حزباً آخر أسماه حزب البعث العربي.. من أفكاره أن للعرب زعيماً واحداً هو صورة علمانية حديثة لإمام الزمان الذي يُقتدى به بالصلاة، ويطاع فيما يقضي فيه، فهو الحاكم السياسي الديني. العروبة عنده هي الوجدان القومي الذي انبثقت عنه المقدسات. كان يعتبر نفسه ذروة المنحنى العربي.. بل هو الذي أعطاه معناه الفلسفي والحضاري.. كان متمرداً على كل القيم القديمة، عدواً لكل ما تعارف عليه البشر، ألحد مع مريديه بكل الطقوس والعلاقات والأديان. اتُهمنا (ما زال الحديث لسامي الجندي عن أستاذه) بالإلحاد وكان ذلك صحيحاً.. كنا عرقيين معجبين بالنازية، فقرأنا كتبها ومنابع فكرها وخاصة (نيتشه) و(فيخته) و(تشمبرلين) و(داره). كان يرى الجاهلية مثله الأعلى، يسميها المرحلة العربية الذهبية.. تبنى كل ما كان جاهلياً في الإسلام.. كان إنسان الرفض ورفضنا معه.. ناقشته سنة 1946 بالقرآن فعاب علي نزعتي الدينية قائلاً: أنت راهب في ثياب ثوري. اعترضت قائلاً: إن الإيمان بالأفكار هو دينيُّ الملامح، فأجاب: إن الثورة نفسها إيمان صوفي. وجدتُ أنه لم يقرأ القرآن.. وقد لا يعلم كثيرون أنه بدأ يدرس اللغة العربية عام 1940، وقبل ذلك كان يفضل الحديث بالفرنسية. كان متوتر الأعصاب يقضم نفسه. وبدأ الشك يسيطر عليه على منطقه حتى غدا مريض الاضطهاد: كل من حوله جاسوس)( البعث- سامي الجندي، ص- (21-28) بتصرف).

زكي الأرسوزي

كان أقرب إلى التفكير النازي بل إنه أقرب إلى التفكير الروماني في تقسيم الناس إلى عبيد وسادة() البعث- جلال السيد، ص- 18).

هذا هو زكي الأرسوزي فيلسوف حزب البعث.. رجل طائفي نصيري، متقلب، متشنج، لا يعرف لغة العرب، ولا يثق بأحد حتى بأقرب الناس إليه، مثله الأعلى الجاهلية وزعيمه الأعظم امرؤ القيس الشاعر العربي.. درس الفلسفة في السوربون وتأثر بالفلاسفة (برغسون، نيشه، فيخته، ديكارت وكانْت).

ميشيل عفلق(حزب البعث العربي الاشتراكي- مصطفى دندشلي، 1: 19 وما بعدها)

 ميشيل عفلق

المؤسس الحقيقي لحزب البعث العربي.. طبع الحزب بطابعه الشخصي وأثّر فيه تأثيراً عميقاً، ليس فقط على الصعيد الأيديولوجي، بل وعلى صعيد التنظيم الحزبي والعمل السياسي واتخاذ المواقف. من هنا فلدراسة حزب البعث دراسة عميقة وصحيحة ينبغي أن ندرس حياة مؤسسه ومنظّره عفلق. ولبلوغ ذلك يمكننا أن نتناول الموضوع بالتركيز على مظاهر ثلاثة: الاهتمامات الأدبية لعفلق، وعلاقاته مع الماركسية، وأخيراً الملامح المميزة لشخصيته.

البدايات الأدبية لعفلق

بعد عودته إلى دمشق، بعد أن أمضى قرابة أربعة أعوام في باريس (1929-1933) أظهر ميشيل عفلق اهتماماً كبيراً بالقضايا الأدبية. وكان ينظر إليه في ذلك الوقت كقصاص وشاعر. كان أحد مؤسسي مجلة الطليعة الشيوعية، ومن كتابها بالإضافة إلى يوسف يزبك، كامل عياد، ورشوان عيسى، ورئيف خوري، وكان هؤلاء من بين الأعضاء الأوائل للحزب الشيوعي السوري. كما أنه كان يكتب في جريدة (الأيام) التي يغلب عليها الاتجاه الشيوعي.

تأثر بالكتّاب الفرنسيين أمثال (أندريه جيد، رومان رولان) ولقد صرّح لجريدة الأيام أنه قلما يقرأ القصص العربية (لأني لا أجد فيها نفسي (والحديث لعفلق).. أما إذا اشتقت أن أسمع صدى نفسي فانشده في قصة فرنسية أو روسية).

علاقاته مع الشيوعية

يدعي الشيوعيون أنه ما بين 1940 و1945 كان عفلق عضواً في الحزب الشيوعي السوري وأنه طرد منه على إثر صدام احتدم بينه وبين خالد بكداش على مركز الأمانة العامة الأمانة العامة للحزب.

ولقد كتب صلاح البيطار وعفلق عام 1944 نشرة بعنوان: (القومية العربية وموقفها من الشيوعية) يقولان فيها: بعد فترة قصيرة من الإقامة في باريس لاحظاً أن التعاطف مع قضية بلدهما لم يكن يأتي إلا من جانب الشيوعيين وبعض النواب الاشتراكيين في البرلمان الفرنسي. وكان ذلك هو السبب الذي حببهم إلينا. وبعد العودة إلى الوطن كان من الطبيعي (والحديث مازال لهما) أن يوحدا جهودهما مع الحركة التقدمية الممثلة في ذلك الوقت بالحزب الشيوعي السوري الناشيء. ويظهر أن كلاً من البيطار وعفلق قد توقفا عن الاستمرار مع الشيوعيين خاصة بعد أن نشر (أندريه جيد) ملهمهما والذي كان عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي ما بين (1931 – 1936م) كتابه (العودة من الاتحاد السوفياتي) عبّر فيه عن خيبة أمله نتيجة للفارق الفاصل بين الصورة التي رسمها عن روسيا السوفياتية والواقع السياسي للنظام القائم. وأن روسيا لم تحتفظ بالشيوعية الأممية إلا في دعايتها الخارجية وأنها في الداخل امة تمشي حثيثة الخطى نحو نظام خاص بها وتتهيأ للتوسع شأنها شان غيرها من الدول الكبرى. من أجل ذلك (والحديث ما زال لهما) لا نألوا جهداً في مكافحة الشيوعية وتحذير النشء العربي من خطرها.

الملامح المميزة لشخصية عفلق

ولد عفلق عام 1910 في حي الميدان في دمشق. كان أبوه يوسف تاجر حبوب على رغدٍ من العيش.. وبحكم عمله فقد كان له علاقات وثيقة مع المزارعين والوجهاء في جبل الدروز. بعد أن أنهى عفلق دراسته الثانوية في دمشق، سافر إلى فرنسا وحصل من جامعة السوربون على إجازة في التاريخ.. عاد بعدها ليدرّس نفس المادة في ثانوية التجهيز في دمشق التي تخرج منها. الأمر الذي يلفت الانتباه في شخصيته هو ذلك البطء المحير، البطء في طريقته بالتفكير والحياة. وهو كمفكر ومنظّر لحركة البعث، لك يظهر أبداً كرجل عمل وممارسة. نظراته يلقيها بخجل، وحساسيته تبلغ حد الإفراط. كان يتضايق لأقل الأسباب خصوصاً عندما كان يوضع خطُّه أو فكره السياسي موضع التساؤل. كثير التردد والتقلب يجد صعوبة فائقة باتخاذ أي قرار مهما كانت أهميته. كان عفلق يلوذ بالكتمان إلى درجة يصعب فيها حتى على أقرب المقربين إليه أن يدركوا حقيقة نواياه. يدّعي عبد البر عيون السود (وهو أحد مؤسسي حزب البعث): أن عفلق يتمتع بذكاء خاص. ويقول سامي الجندي: إن عفلق من أكثر السياسيين ذكاء، فقد استطاع أن يحتفظ بمنصبه كامين عام للحزب طيلة خمسة وعشرين عاماً. أما الكثيرون من زعماء الحزب الذين يعرفون عفلق جيداً فلا يشاطرون الجندي ولا (عيون السود) رأيهما هذا.

وعفلق وإن كان يجذبه النفوذ والأبهة.. إلا أنه كان متواضعاً في حياته الخاصة والعامة. لم يكن قارئاً جيداً. يذكر للصحفي الفرنسي (إيريك رولو) بأنه فقد الصلة مع تيارات الفكر الغربي مع مطلع الحرب العالمية الثانية(حزب البعث العربي الاشتراكي- مصطفى دندشلي، 1: (19-32) بتصرف).

هذا هو عفلق، مؤسس ومنظر البعث، كان رجلاً نصرانياً بطيئاً في الفهم متردداً في اتخاذ القرار، ذكاؤه ينحصر في قدرته على الاحتفاظ بمنصبه، مثله الأعلى الفكر الفرنسي.. كان مع الشيوعية يوم كان (أندريه جيد) معها، وتركها عندما تركها فيلسوفه المفضل.

 
Leave a comment

Posted by on May 1, 2011 in خواطر

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *