RSS

Category Archives: خواطر حول العالم

الملتقى الدولي للشيخ محفوظ النحناح

(2) الملتقى الدولي للشيخ محفوظ النحناح – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من الجزائر

في 15 حزيران (يونيو) 2005م، انعقد في الجزائر الملتقى الدولي الثاني للشيخ محفوظ النحناح، بحضور ثلة من شخصيات العالم الإسلامي.. جاءوا جميعاً للمشاركة في هذا اللقاء الذي كان بعنوان المشاركة السياسية: خطوة في طريق مشروع الإصلاح السياسي. والعلاقة الحميمة والقريبة التي كانت تجمعني بالأخ محفوظ هي التي فرضت علي أن أحضر ملتقاه الأول والثاني.. أقف ساعة بالقرب منه ومن أهله وأسرته وإخوانه، وأحبائه وأصدقائه.

وحركة مجتمع السلم التي أسسها الشيخ محفوظ النحناح في الظروف الصعبة التي مرت بها الجزائر، هي اليوم إحدى قوى ثلاث تشارك في السلطة التي  يرأسها الرئيس عبد العزيز بو تفليقة.

أما الحـزبان الآخـران فهمـا الحـزب الديمقراطـي الذي يـرأسه رئيس الوزراء أو يحيى.. وهو حزب علماني، غربي التوجه، معظم طروحاته لا يرتاح لها التوجه الإسلامي في البلاد.. مثل قانون الأسرة.. وحذف مادة الشريعة الإسلامية من مناهج التعليم الثانوي. وغيرها كثير.

وأما الحزب الثاني فهو جبهة التحرير، الحزب الذي حكم الجزائر وما زال يحكمها.. أمينه العام بلخادم وهو شخصية إسلامية جيدة.

أما بو تفليقة الذي يحكم البلاد في ولاية ثانية.. فقد استسلمت له كل القوى كالجيش والأحزاب والسلطة وأصبح الرقم الأول بين الأرقام السياسية في الجزائر.

تسلم حزب مجتمع السلم عدة وزارات من تلك التي يسمونها تكنوقراط.. وآخرها وزارة دولة أسندت لرئيس الحركة بدون مسمى.

والأحزاب التي لا تجد فرصة لتقوية وجودها، وتلاحمها مع شعبها، وتربية أبنائها.. قد لا تنفعها بعض المكاسب السياسية التي قد تفيد أفراداً.. وقد تنقلب ضرراً عليها وعلى مستقبلها.. وإن الكلمات التي أطلقها الإخوة المسؤولون في حزب مجتمع السلم، أوضحت تباين النظرة تجاه هذه المشاركة السياسية.

ففي الوقت الذي أثنى فيه رئيس الحركة أبو جرة سلطاني على هذه المشاركة واعتبرها قمة النضج السياسي المتنامي بالمرحلية والتدرج في مجال تمدين الحياة السياسية، ودمقرطة المجتمع، وردم الهوة بين التيارات التقليدية التي ظلت تتنازع البقاء منذ بروز الحركات الوطنية سنة 1913م إلى بداية الائتلاف الحزبي سنة 1999م، ومحاولات الترقية السياسية التي توجت جهودها بتوقيع وثيقة التحالف الرئاسي في فبراير 2004م.

كما اعتبر رئيس الحركة هذه التجربة السياسية الجزائرية فريدة في نوعها، تصلح أن تكون نموذجاً لجميع الحركات الإسلامية الأخرى في العالم.

غير أن كلمات بعض مسؤولي الحركة أعطت انطباعات مختلفة:

قال بعضهم: إن شعبية الحركة تضعف بالتدريج.

وقال بعضهم الآخر: إن الشعب كان ينظر لنا كدعاة، واليوم وفي ظل هذه المشاركة بدأوا ينظرون لنا كسياسيين.. مثل بقية السياسيين الساعين لمصالحهم.. اللاهثين وراء المناصب.

وإذا كان المراقب المحايد أقدر من غيره على تقدير المواقف.. وتحسس الأمور.. فإنني أسجل بهذا الاعتبار الملاحظات التالية:

1- الأوضاع في الجزائر عموماً مازالت شديدة التعقيد.. وكل القوى التي وجدت في المراحل المختلفة من عمر الجزائر مازالت موجودة.. ولقد اكتسبت مع الزمن مزيداً من الخبرة والدهاء.. وأصبحت أقرب إلى السرية منها إلى الانفعال العلني.. فحركة الإنقاذ التي أوجدها عباسي مدني مازالت موجودة.. ولها قيادة في الخارج تحرك العناصر في الداخل.. وإذا كانت حركة الإصلاح بقيادة عبد الله جاب الله تراهن على استقطاب عناصر الإنقاذ.. فإن حركة مجتمع السلم قد تكون أبعد ما تكون عن هذه العناصر نتيجة للمواقف المتشنجة التي حدثت سابقاً بين الفريقين..!

2-  نظرية الفصل بين المرجعيات.. اتضح من خلال عرض عقدة المشاركة والمرجعية، بأنه لابد من الوصول مرحلياً إلى وضع جديد يحافظ على مكاسب المشاركة السياسية التي أنتهجتها الحركة الإسلامية، وفي نفس الوقت صيانة المرجعية الدينية والدعوية التي أسست لها في بداية الصحوة. ويظهر من خلال التجربة بأن هذا يتم من خلال توزيع المرجعيات، على أن تكون المرجعية الشرعية والدعوية هي المرجعية المحورية، وأن تبتعد هذه المرجعية عن كل مطالبة للحكم لنفسها ولرجالها في أي مستوى من مستوياته، وأن ينشأ في مداراتها المختلفة مؤسسات مجتمعية متعددة، أهمها مؤسسة الحزب أو الأحزاب السياسية (المرجعية الحزبية) بشرط أن لا يكون بين المرجعيتين أي ارتباط تنظيمي عضوي سوى الولاء العام والترابط الفكري.

3- أما الحركة الطلابية المتمثلة بالاتحاد الوطني الحر.. والتي هي أكبر تجمع طلابي في الجزائر.. فهي أقرب في الحقيقة إلى التجمعات السياسية.. ولقد ركز رئيس الدولة عبد العزيز بوتفليقة شخصياً على مسؤولي هذا الاتحاد.. ووضع تحت تصرفهم كل الإمكانات في سبيل إغرائهم وجذبهم إلى الإطار الحكومي.

ولقد كان مسؤول الاتحاد صريحاً مع المسؤولين عنه عندما طلب منهم مزيداً من الدعم حتى لا يفقدونهم.

نحن من جانبنا نلتقي في كل مرة نزور فيها الجزائر المكاتب الطلابية في العاصمة والمدن الأخرى ونؤكد على وحدة الحركة وضرورة التربية فهي العاصم في سلامة العمل الطلابي وأدائه لمهمته التي يعمل من أجلها.

وكلمة أخيرة

فإن هذه الأقطار تحتاج إلى مزيد من الرعاية والتواصل لتسديد اتجاهاتها.. وتنبيهها عن عثرات الطريق ومزالق السياسة.

ونحن نعتقد أن تراث الحركة. وذكرى المؤسس العطرة.. وهمة الخلف العالية.. ستجد في كل وقت مخرجا.. ولكل عسر يمرون به يسراً.. ولن يغلب عسر يسرين.

والحمد لله رب العالمين

الجزائر 15/6/2005م

 
Leave a comment

Posted by on September 14, 2013 in خواطر حول العالم

 

رحيل الأستاذ محفوظ النحناح (1941 – 2003)م

(1) رحيل الأستاذ محفوظ النحناح (1941 – 2003)م – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من الجزائر

منذ سنة تقريباً.. والأستاذ الفاضل محفوظ النحناح يصارع المرض الخطير الذي استقر في دمه وفي عظامه.. المرض الذي وصفه الشاعر المتنبي بقوله:

وزائرتــي كأن بها حـيـاء     فليس تزور إلا في الظلام

فرشت لها المطارف والحشايا         فعافتها وباتت في عظامي

كان يصارع المرض بالنشاط والحركة.. وفي بعض الأحيان تتغلب عليه آلامه.. فتهدأ حركته، ولا يشكو.. وكيف يشكو من أصبح مسؤولاً عن حركة؟!

الشيخ محفوظ النحناح

كنت معه في أنقرة.. وكان معنا ثلة من رجالات الفكر والسياسة، كان يخرج من الندوة.. ويغيب أحياناً ثم يعود.. كنت أستغرب الأمر.. وبعد أكثر من سنة أخبرني بأن الآلام كان تضطره إلى مثل هذا الخروج.. حتى لا يلاحظ ذلك أحد.

وأخيراً وفي يوم الجمعة 20 حزيران (يونيو) 2003م جاءنا نعيه على لسان الناطق الرسمي باسم الحركة الأستاذ سليمان شنين، فقد نعى إلى العالم الإسلامي والعربي وفاة الشيخ محفوظ النحناح رجل الوسطية والاعتدال والتسامح.. مشيراً إلى أن رحيل رئيس حركة مجتمع السلم سيترك فراغاً كبيراً على المستويين الوطني والدولي، فهو يتولى منذ العام 1981 منصب مسؤول تنظيم الإخوان المسلمين في الجزائر.

وكان عاد إلى الجزائر الأسبوع الماضي بعد ثلاث شهور من العلاج في فرنسا، فقد تأكد الأطباء استحالة شفائه من مرض سرطان الدم الذي تمكن منه.. فأراد هو وأراد إخوانه أن يموت في بلده.. بين أهله وأسرته.. وبين إخوانه الذين أحبهم وأحبوه.

كانت الجزائر كلها دولة وأحزاباً وهيئات وشخصيات تشهد جنازة قالوا عنها: ثاني أكبر جنازة في تاريخ بلادهم.. الأولى حين أقاموها لرئيسهم الراحل هواري بومدين.. وهذه هي الثانية عندما أقامها الناس والدولة للشيخ محفوظ نحناح ليعيدوا إليه لقباً وتسمية ومهمة انتزعوها منه في انتخابات رئاسية سابقة، فقد ردّد الجميع: رحمك الله أيها الراحل.. فقد عشت شيخاً ومت رئيساً.

ذكرياتي مع الفقيد

وأجدني  – وأنا أقف أمام هذا الحدث الجلل- أقلب أوراق الذكريات الغالية مع الشيخ الرئيس محفوظ النحناح.

التقيته أول مرة عام 1972 في إطار لقاء الندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض.. شاباً في الثلاثين (ولد في يناير 1941).. كل ما فيه ينطق: لسانه ورأسه ويداه.. ومنذ كنت وحتى اليوم عندما أحضر لقاءً مثل هذا، أتفرس في وجوه القوم، وأختار واحداً أو أكثر ممن تظهر عليهم علامات الوعي والحركية والتفاؤل.. فأصل أسبابي بأسبابهم.

في عام 1973 كنت في زيارة إلى الشمال الأفريقي بدأتها بالمغرب.. ثم الجزائر.. وعندما أنهيت معاملة الوصول وخرجت.. وجدت الأخ محفوظ يستقبلني فاتحاً ذراعيه.. لا أنسى حرارة ذلك اللقاء وأهميته وفائدته.

ذهبنا في سيارته الصغيرة (الفولكس فاجن) إلى بلدته (البليدة) وهي على مسافة 50 كيلو متراً إلى الجنوب من العاصمة الجزائر، وأقمت عنده في بيت العائلة الواسع الكبير.. كل من يصادفك في هذا البيت يؤكد في ذهنك التدين والتواضع والخلق الحسن.

في طريقنا إلى أحد مساجد العاصمة الكبيرة، لنستمع إلى أحد الدروس التي  اعتاد أن يلقيها الأستاذ محفوظ في العديد من مساجد العاصمة ومساجد البليدة.. هناك جلست أمام النهر المتدفق.. كلمات واعية.. وإيماءات واضحة.. وتوجيه سليم.. وأخوة شباب يلتفون حولنا يسألون الشيخ عن درسه.. وعما بعد الدرس..

واستغربت أن يكون  مثل هذا الطرح الجريء.. والأيام أيام (أبو مدين).. والتوجه اشتراكي علماني.. ويظهر أن شيخنا قرر أن يقول كلمة الحق واضحة، ويعتصم بالحق والصبر مهما تكن النتائج.

وذهبنا معاً إلى مسجد الطلبة في الجامعة المركزية.. وكانت الجامعة هي بداية التحول في البلد كله.. فهي النواة التي تفرعت عنها الاتحادات الطلابية والتجمعات المهنية.. فأصبح الطلاب أطباء ومهندسين ومحامين.. ملأوا الفراغ في المجتمع المدني الجزائري.

الأخ محفوظ (رحمه الله) هو من ساهم في افتتاح مسجد الجامعة، وهو أول من أدى صلاة الجمعة فيه.

في المسجد التقيت بالأخ الدكتور مصطفى براهما.. ربطتني معه الرسائل منذ سنوات، حتى كان لقائي به في مسجد الجامعة.. زرنا سكن الجامعة.. وتحدث الأخ محفوظ وتحدثت بعده.. اللغة نفسها والروح والتوجه كذلك.

في زيارتنا للجامعة.. كانت الأوضاع والمظاهر بعيدة كل البعد عن الشكل الإسلامي.. لباس الطالبات.. حركاتهن مع زملائهن، وهن رائحات غاديات أو جالسات على المقاعد أو مستلقيات في الحدائق.

سألته: الأوضاع صعبة يا شيخنا.. أجابني: ولتعلمن نبأه بعد حين.

اصطحبني الأخ محفوظ إلى لقاء حميم.. حضره جميع قادة العمل الإسلامي من مختلف الاتجاهات: الإخوانية والسلفية والإنقاذية والجزأرة والصوفية وغيرها.. جميعهم كانوا في هذا اللقاء..

لقاء هؤلاء أمرٌ طبيعي.. وخلافاتهم التي تعمقت فيما بعد مفتعلة.. كلفت الدعوة والدعاة كثيراً من العناء والإرهاق والخسائر التي لا تقدر بثمن.

لو اقتصر أعداء الإسلام على مهمة إيغار صدور الإسلاميين بعضهم على بعض، لكفاهم.. فهو الأمر الذي ينهك العمل الإسلامي ويدمر الدعوة والدعاة..

لا أنسى أبداً الزفرات الحرى التي كان يطلقها أخونا محفوظ حزناً على رفيق دربه رئيس جمعية الإرشاد والإصلاح الشيخ محمد بوسليماني، عندما سقط برصاصات على يد بعض الإسلاميين عام 1994. واستغربت الأمر.. فلم يكن يدور في خلدي أن الأخ يمكن أن يقتل أخاه.. وسألت الأخ محفوظ: وهل أنت متأكد أنهم هم الذين قتلوه؟

قال والألم يعتصره: نعم نعرفهم بأسمائهم.. وليس الأمر أمر شهيد واحد بل عشرات.. ونحن نصبر ونحتسب فلا نريد أن نشمت بنا الأعداء.

في هذه السنوات كنت أزور الجزائر مرة في السنة على الأقل، وأستمتع بصحبة وأفكار وأنشطة أخينا محفوظ.. وفي مرة زرنا معاً القاهرة وكنا على موعد مع رجالات الدعوة الذين خرجوا لتوهم من غياهب السجون التي قضوا فيها ما يزيد على عشرين سنة على يد طاغية آخر من طغاة بلادنا.. كانت سعادة الجميع بادية على وجوههم..

الشيوخ سعداء بأن الدعوة التي رعوها، ودفعوا أثماناً باهظة من حياتهم وحياة إخوانهم.. ومن سنوات نفيهم إلى الصحارى في معتقلات الأنظمة من أجلها.. قد أثمرت وأينعت في العديد من البلدان.. والشباب كانوا سعداء فما أعظم أن يلتقي شاب مثلنا(في تلكم الأيام)، مع قيادات شامخة كنا ندرس فكرهم ونتتلمذ على كتبهم.. ونتأسى بصبرهم وثباتهم وتجاربهم..

ما أجمل أن تتضام السواقي مع النهر المتدفق لتشكل جميعاً تياراً عريضاً.. يزداد اتساعاً وعمقاً مع الأيام.

هذه هي مهمة الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية الذي أنشأناه وكنت أمينه العام.. الدعوة في غياب الدعاة.. سألني بعضهم في نهاية اللقاء.. وما علاقتنا بعد هذه البيعة بكم؟ قلت: لقد انتهت مهمتنا.

عام 1975م وبعد مناقشة الميثاق الوطني.. تم اعتقال الشيخ محفوظ النحناح والحكم عليه 15 سنة بعد نشره بياناً بعنوان: إلى أين يا بو مدين؟

ليس محفوظ النحناح وحده الذي حوكم وحكم ظلماً وعدواناً.. بل الأمة بكل أطيافها.. باستثناء الطغاة (أو السوبر باشوات) كما سماهم الكاتب حسين مؤنس.. دخلوا السجن الصغير.. أو السجن الكبير.. وليس أضر بالشعوب من إخافة الناس، وتهديد أمنهم وإهانتهم، وإهدار كرامتهم، وخاصة إذا جاء ذلك كله على يد أولياء الأمر، لأن الشعب يتربى بالقدوة، ويتعلم بالمثل الصالح، فإذا كانت القدوة سيئة.. كانت البلية بلا حدود.

كان لابد من زيارة الحبيب في سجنه.. وسافرت إلى الجزائر مع الأخ راشد الغنوشي.. ولظروف خاصة لم أستطع الوصول إلى أخينا، بل لم يسمح لي بمغادرة المطار، المهم أني قمت بما أستطيع.. ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

ما أظلم هذه الأنظمة عندما تمنع الغرباء أن يتبادلوا التحية والمحبة!

ومات بومدين.. وقام استفتاء شعبي على الدستور الجديد في فبراير 1989.. وبإقرار الدستور ألغيت حقبة كاملة من تاريخ الجزائر بكل مكوناتها الاشتراكية والعلمانيـة والديكتاتـورية.. وكان هذا التاريخ يمثل ميلاد الجمهورية الثانية ونهاية احتكار حزب جبهة التحرير الوطني للسلطة لمدة 27 سنة.

في هذه الأجواء.. استعاد المسجد دوره.. وظهرت الحركات الإسلامية قوية تهيمن  على الشارع.. وأفرج عن الشيخ محفوظ بعد قضائه 4 سنوات في السجن..

في لقاء لي معه في الكويت سألته: ولماذا لم تأسسوا حزباً سياسياً.. فالسياسة مواسم وإذا مر الموسم.. فقد لا يعود.. أو قد تتأخر عودته.. قال لي: ليجرب الآخرون الأحزاب.. فالوقت ما زال فيه متسع.. ولم أوافقه ولكني تصورت أن أهل مكة أدرى بشعابها.

في مارس 1989 أنشأ عباسي مدني الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وظهرت جمعية الإرشاد والإصلاح بقيادة الشيخ محمد بو سليماني، وحركة المجتمع الإسلامي (حماس) بقيادة الأستاذ محفوظ النحناح.. وهي الفرع الجزائري للإخوان المسلمين.

واختلطت الأمور.. جبهة الإنقاذ تفوز في الانتخابات البلدية.. وفي المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية.. وكثرت التصريحات التي تعتبر الديمقراطية كفراً.. والتي تهاجم رئيس الدولة الذي فتح صفحة الحريات.. فاغتنمها الجيش فرصة فبطش بالجبهة وزعمائها.. وبرئيس الدولة وأنصاره.

قالوا أن المحنة تكون في الضراء وهي أسهل.. وتكون في السراء وهي أصعب، وكذلك كانت محنة الإسلاميين في الجزائر..

واستطاع الأستاذ محفوظ النحناح أن يتخذ له طريقاً وسطاً.. كان كمن يمشي على سلك مشدود.. الجيش يخشاه والإنقاذيون يتهمونه.. ومع ذلك فقد سار في الطريق الصعب.. لينقذ إخوانه وينقذ الحركة التي أقام بنيانها والتي أصبحت الرقم الأهم في الواقع الجزائري.

لقيته في طرابلس الغرب عام 1990م.. وكان الاجتماع الذي حضرته وفود من أنحاء العالم العربي والإسلامي لمناقشة قضية الاحتلال العراقي لدولة الكويت.. كانت معظم الأصوات تؤيد العراق.. وقليل منها كان مع حق الكويت وحرية أبنائه. ورأيته يزأر كالأسد ويقول: كلكم مهتم بحفظ ماء وجه صدام.. ولا أرى أحداً يهتم بدماء أهل الكويت!

هكذا كانت مواقفه عفه نظيفة شريفة.. مثل أخلاقه العالية الرفيعة.

وترشح الأخ محفوظ النحناح للانتخابات الرئاسية التي أجريت بالجزائر في نوفمبر 1995م، وفاز بالمركز الثاني بعد حصوله على 3 ملايين صوت حسب النتائج الرسمية المعلنة.

يومها كتبت للأخ محفوظ.. وقلت له: أن هذا الذي حصل يدل على أن الإسلاميين على اختلافهم بدأوا يتجمعون.. وكان هذا بفضل سياسة النفس الطويل والصبر الجميل الذي قمتم به.. وهذه الـ25% من الأصوات التي حصلتم عليها تساوي النصر، فـ25% من الأصوات المعارضة أقوى وأهم من 90% مما يحصل عليه قادة بلادنا زوراً وبهتاناً.

وتمكنت الحركة التي يرأسها الأخ محفوظ النحناح من تحقيق مكاسب سياسية كبيرة، حيث شاركت بسبع حقائب وزارية في الحكومة الجزائرية.

وكان للأخ محفوظ النحناح دور كبير في نبذ العنف والإرهاب وإدانته وكرّس مشواره الدعوي منذ أكثر من ثلاث عقود في الدفاع عن العقيدة الصحيحة، وقيم الوسطية والاعتدال.

كان اللقاء الأخير في استانبول في يوليو 2002م، جاء إلى استانبول مع أسرته لقضاء فترة نقاهة بعد آلام مرضه المبرحة ومعالجات طالت.. لم أعرف يومها ذلك.. فقد كانت صلابة المجاهد تغلب عليه.. خاصة عندما يتعلق الأمر بشخصه.

وإني يا شيخنا محفوظ محزون لفراقك.. ولا نقول إلا ما يرضي الله..

وأنتم يا إخوان محفوظ في الجزائر وخارجها.. أذكروا أخاكم بدعوة صالحة وليس عندي ما أضيف الآن غير قولة المتنبي:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر               فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

رحم الله أخي الوفي الشجاع محفوظ النحناح رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

الكويت 25/6/2003م

 
Leave a comment

Posted by on September 12, 2013 in خواطر حول العالم

 

القذافي ينسحب من الجامعة العربية

(3) القذافي ينسحب من الجامعة العربية – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من ليبيا

صرح العقيد القذافي لوكالة (فرانس برس) فقال: لقد تخليت عن الشأن الليبي نهائياً. وسأتفرغ لمهمات استراتيجية ودولية في محاولة لإخراج العالم الإسلامي من قفص الاتهام والحيلولة دون قيام حرب صليبية جديدة.. وأعلن أنه يسعى لتشكيل تجمع إسلامي عالمي على غرار تجمع جوها نسبرغ (قمة الأرض) على أن لا يكون مقتصراً على الحكومات وقادة الدول الإسلامية، بل تتواجد فيه فعاليات العالم الإسلامي والعربي.

معمر القذافي

وأضاف أن المهمة الأخرى التي سأتفرغ لها هي الفضاء الأفريقي، وهي مهمة غير سياسية، سأحاول ربط النهر الصناعي العظيم في ليبيا مع الأنهار الطبيعية الأفريقية من النيل إلى بحيرة تشاد، وتحويل الصحراء إلى جنة(الحياة 5/9/2002م).

وإذا كان القذافي بصدد مراجعة سياساته وأفكاره وتجاربه فلا بأس أن نقف على بعض محطاتها.. فهي محطات مشتركة لا تخص ليبيا وحدها.. ولكنها تخص جميع الدول الثورية التي وصلت إلى السلطة على ظهر دبابة..!!

وإذا كانت المرحلة التي تمر بها الدول العربية والإسلامية، مرحلة عصيبة فمن المناسب أن نتناول قضايا هذه الأمة بشيء من التوضيح.

القذافي والوحدة العربية

من المعروف أن القذافي الذي قام بانقلابه العسكري في الأول من سبتمبر عام 1969.. والذي باركه زعيم القومية العربية جمال عبد الناصر الذي كان خارجاً من هزيمة عام 1967 أمام إسرائيل.. فقال له: أرى فيك شبابي.. وبعد سنة من مقولة عبد الناصر هذه.. توفي زعيم القومية العربية.. فتسلم منصبه العقيد القذافي..

نادى بالوحدة.. ولم يترك بلداً عربياً إلا وحاول أن يتحد معه.. مع تونس، والمغرب، ومصر، والسودان. كانت فلسفته في الوحدة.. أن ليبيا فيها الزعيم وأرصدة البترول.. فكان يحتاج شعباً كبيراً يحكمه.. وفشلت بالطبع كل هذه التجارب وانقلبت في كثير من الأحيان إلى مآس وحروب.. كما حصل بين مصر وليبيا.. ومع الزمن أدرك القذافي أن فكرة الوحدة مع الأقطار العربية تحتاج نوعاً آخر من المبادئ والظروف والزعامات.. فقلب صفحتها.. وصرح في أيامه الأخيرة.. أن ليبيا لا تستطيع التعلق بعواطفها مع العرب.. وان الجامعة العربية لا معنى لها.. فهي ذليلة وفاشلة ولا تساوي شيئاً، وأنه قرر الانسحاب منها.. وأصرّ على موقفه رغم زيارة الأمين العام للجامعة السيد عمرو موسى والرئيس مبارك إلى ليبيا.

وحاول القذافي – شأنه شأن جميع القادة الثوريين – أن يستغل القضية الفلسطينية.. فتدخل بالمال والسلاح مع الفصائل الفلسطينية المتواجدة في لبنان.. ولكنه انتهى في آخر المطاف إلى اتهامه بتصفية الإمام موسى الصدر الذي مازالت قضيته مفتوحة حتى اليوم.. وإخراج الفلسطينيين الذين يعملون في ليبيا وتركهم بالصحراء على الحدود المصرية، مع أسرهم وأطفالهم بحجة اعتراضه على اتفاقيات أوسلو.. وكأن الشعب الفلسطيني هو المسؤول عن انحرافات زعمائه.. ومن أجل تحرير القدس.. وآخر إنجازاته في القضية الفلسطينية هو دعوته لتشكيل دولة إسراطين!! بين إسرائيل وفلسطين.. وأرسل وفداً من عملائه لزيارة إسرائيل!!

وكان القذافي شديد الاهتمام بالثورة التحررية العالمية.. فهو مع كل فريق يناهض الاستعمار.. يقدم لهم المال والسلاح.. وأخيراً اتهموه بنسف الملهى الليلي في ألمانيا، وبتسليح الجيش الجمهوري الإيرلندي، وبإسقاط الطائرة الفرنسية (يوتا) فوق صحراء النيجر عام 1989، وإسقاط طائرة البان أمريكان في لوكربي عام 1988.. وردّت أمريكا على تصرفاته بهجوم جوي على ليبيا.. وبفرض الحصار عليها.. وها هو بعد هذه التجارب الثورية يصرّح بأن بلاده ستنصاع من الآن فصاعداً للشرعية الدولية التي احتجت عليها لفترة طويلة، واعترف بانه لا يمكننا إلا أن نستسلم للشرعية الدولية مهما كانت مزورة من قبل أمريكا وإلا سنداس بالأقدام. ولقد اضطر إلى دفع تعويضات تقدر بعشرة ملايين دولار للفرد الواحد من ضحايا طائرة لوكربي.

ردة الفعل هذه.. هي من نوع الفعل.. وإذا كان الفعل متهوراً. فإن ردة الفعل ستكون على نفس المستوى من الإسفاف والهوان.

ونقل القذافي احلامه من الوحدة العربية إلى الاتحاد الأفريقي.. الذي أعلن عن قيامه في دربان في جنوب أفريقيا في 9 يوليو 2002م.

كان القذافي يحلم بأن تستضيف ليبيا مقر الاتحاد عوضاً عن اديس أبابا العاصمة الإثيوبية.. وأن تعقد قمة إعلان الاتحاد على أرضها فهو أول من نادى بهذا الاتحاد.. وان تستضيف البرلمان الأفريقي.. فهل سينجح القذافي في أفريقيا فيما أخفق فيه في العالم العربي..

هل سيتذكر الأفارقة حربه في تشاد واحتلاله الشريط الحدودي (اوزو) الذي قيل انه غني باليورانيوم؟ وهل سيتذكر الأفارقة تفاهماته مع فرنسا على حساب حركة تحرير تشاد (فرولينا) وتصفية قياداتها التي كانت تنطلق من ليبيا بحماية الملك إدريس السنوسي؟

لا أعتقد أن الأمر سيغيب عن الأفارقة.. ولقد حملت صحيفة ميكروري الصادرة في جنوب أفريقيا على القذافي ووصفته بالديكتاتور الذي يبغض الديمقراطية.

أما تفرغ القذافي للمهمات الاستراتيجية، وتخليه نهائياً عن الشأن الليبي.. فهذه فكرة قديمة جديدة!

أثناء حرب الخليج الثانية.. حضرت مؤتمراً عقد في طرابلس الغرب لمعالجة هذه القضية.. وعلى العشاء كنت مع الأستاذ نجم الدين أربكان والأستاذ محمد أحمد الشريف رئيس جمعية الدعوة الإسلامية في ليبيا وعدد من الضيوف..

سألت الأستاذ الشريف وهو من المقربين للعقيد القذافي: ماذا تفعلون حتى تتجنبوا المصير الذي آلت إليه الحكومات الثورية باعتمادها على أجهزة المخابرات وقمع المعارضة وفتح السجون لكل من يتكلم ضد السلطة.. فأجاب: ليس عندنا سلطة، الحكم عندنا للشعب..!!

فتفرغ القذافي للمهمات الاستراتيجية هو ادعاء قديم.. والسلطة للشعب في داخل ليبيا ما زال الكثيرون يعتقدون أنها مجرد ادعاء.. وأن كل شيء في ليبيا هو بيد قائد الثورة.. والمراقبون يتساءلون: لماذا لم تتضمن الموازنات الصادرة عن الحكومة الحجم الفعلي لعائدات الجماهيرية من النفط، ولا مردود الاستثمارات الخارجية، ولا صادرات ليبيا من البتروكيمياويات..؟

وإذا تفرغ القائد للشؤون الخارجية.. فلمن سيعطي هذه الصلاحيات..؟ الأمر في مجمله مجرد شعارات تستر مواقف لا تمت للديمقراطية أو الحرية أو الشفافية بصلة.

وتطرق القذافي مؤخراً إلى أن السجون في ليبيا ستكون فارغة اعتباراً من هذا العيد (يقصد عيد الانقلاب) باستثناء مجموعة من الزنادقة.. ويقصد بالزنادقة الإخوان المسلمين.. الذين يعتبرهم عملاء الأمريكان.. وكل من يحتاج الإطلاع على وثائق عمالتهم.. فليحضر إلى مكتبه في مجلس قيادة الثورة..! عندما حدثنا في المؤتمر الذي عقد بمناسبة حرب الخليج بهذه التفصيلات.. قلت في نفسي: من يقول أن القذافي تحرسه دولة المخابرات.. ما دام بإمكان أي صديق زيارته في مكتبه؟!

القذافي يهوى التجديد.. فالشهور أعاد تسميتها.. والتقويم الهجري يبدأ من تاريخ وفاة الرسول.. وإذا لم يعجب الناس في ليبيا كتابه الأخضر فهو على استعداد لتطبيق الكتاب الأحمر.. شيء واحد.. اتفق فيه القذافي مع بقية الثوريين.. فهو يهيؤ أبناءه ليكونوا ملوكاً في المرحلة القادمة!!

مطار طرابلس الغرب 6/11/2002م

 
Leave a comment

Posted by on September 9, 2013 in خواطر حول العالم

 

رسالة من أعماق السجون في ليبيا

(2) رسالة من أعماق السجون في ليبيا – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من ليبيا

قرأت الرسالة التي بعث بها عدد من المعتقلين في سجون ليبيا.. والتي نشرتها مجلة (المسلم) لسان حال الجماعة الإسلامية في (ليبيا).

تقول الرسالة: من داخل السجون ومن تحت الآرض نكتب إليكم رسالتنا هذه، لعلها تصل إلى من يكون سببا في إنقاذ أخوانا له يعانون من كرب شديد وآلام مبرحة، ويقاسون العذاب والضرب المبرح والهوان. ها هي سنة تمر ومعها بضعة أشهر ولا ندري أيعلم بنا أحد أم لا. آلاف الشباب المسلم سجنوا منذ 15 يناير 1989 ولا أحد من أهليهم وأقاربهم يعلم عنهم شيئا. هنا نلاقي الذل والهوان والتعذيب من قبل زبانية القذافي الذين جبلوا على كراهية الإسلام وأهله.

أخواننا، وتزداد جراحنا غورا ودموعنا انسيابا عندما نرى، وعلى الهواء مباشرة بعض القيادات الإسلامية التي تحضر مؤتمرات القذافي وهم يصافحون تلك اليد التي ما زالت تقطر من دماء المسلمين.. بل والأدهى من ذلك أن هؤلاء القادة يصلون خلف القذافي.

لقد كان الزبانية يقولون لنا.. انظروا إلى مشايخكم كيف يجلسون مع القائد وكيف يصلون خلفه!!

ماذا فعل هؤلاء القادة؟

وأي جرم اقترفوه في حق المسلمين عامة وفي حقنا خاصة؟

قرأت هذه الرسالة المؤثرة.. وأنا وإن كنت لا أعرف أسماء هؤلاء الشباب ولم أتشرف بالنظر إلى وجوههم النضرة.. ولكني أعرفهم جيدا.. إنهم صنف واحد من الشباب النظيف الذي آمن بسمو دعوة الإسلام وعظمتها، وأعتقد أنه بالإسلام وحده يستطيع أن يجلب الخير لأمته والسعادة لشعبه.. وآمن كذلك أن الله يوم خلق الإنسان كرّمه وحرّره فلم يتردد يوما أن يتحدث بما يعتقد أنه الحق.. فإن أصاب حمد الله، وإن أخطأ، ففي مجال الحوار الهادف البناء متسع للتراجع والتصحيح. ولكن أنى للجبابرة المتألهين أن يسمحوا بذلك.. فقد قننوا الأفكار وتولوا زمامها.. وصادروا الحريات وأعطوها لمن يشاؤون بمقدار.. وطالبوا الشعوب بأن لا يتوقفوا عن الشكر للزعيم  الملهم الذي يفكر بالنيابة عنهم.. بل ويتصدى للإصلاح العالمي والأممي.. فما عليهم إلا أن يضحوا في سبيل هذه الغاية العظمى.. وبالرغم من أني لم أشاطر هؤلاء الشباب أماكن إقامتهم.. ولم أتعرف على كيفية معاملتهم.. إلا أن ذلك معروف تماما.

فالزنزانة الانفرادية.. والتعذيب الوحشي الذي لا يمت للبشرية والإنسانية بصلة.. والمعاملة المهينة.. التي لا تقرها شرائع الأرض أو السماء.. ولا يقبلها إنسان تجري في عروقه دماء الآدمية.. هذه هي أماكنهم.. وهذه هي طريقة التعامل معهم.. نعرف هذا ليس في سجون ليبيا فقط.. ولكن في جميع سجون بلدان العالم الإسلامي.. خاصة من ابتلي منها بالثوريين..

أما لماذا أوجه اليوم هذه الرسالة لإخواني الشباب في سجون ليبيا فلأني كنت واحدا من هؤلاء المدعوين لحضور مؤتمر جمعية الدعوة ومؤتمر القيادة العالمية الإسلامية.. التي نصّبت القذافي قائدا لها.. بل ولربما القائد الأوحد للعالم أجمع..

وعلى الرغم من أنني لم أسكت عن خطأ قالوه، أو منكر أتوا به، ولكنني أعترف أن مثل هذه اللقاءات لا يستفيد منها بالأصل إلا من دعا إليها.. أما قراراتها فمهما عظمت فلن تكون أكثر من حبر على ورق.

ولم يلجأ هؤلاء الحكام إلى مثل هذه المؤتمرات.. إلا لأهداف خاصة بهم..

ولم يتعود قادة العمل الإسلامي حضور مثل هذه المنتديات، ولم يحضروها إلا وأحدثت ندبة في قلوبهم وعقولهم.. يناقشون كل شيء بعيد.. وينسون قضايا أمتهم الحقيقية ومنها وجود إخوانهم في زنازين القائد.. وأنى لأصوات هؤلاء المعتقلين الضعيفة أن تصل إلى المؤتمرين من خلال الزنازين التي لا منافذ لها أو من خلال نوافذ الفنادق المحكمة الإغلاق!

عندما تهبط في مطار طرابلس.. تشعر بكثافة المخابرات التي تحصي على القادم حركاته وسكناته.. وإياك إياك أن تكون أحضرت في محفظتك بعض الكتب الإسلامية فأرض الجماهيرية لا تقبل مثل هذه الزندقة!!

تسير في الطريق الذي غالبا ما يوصلك إلى الفندق الذي تزين كتفه مجموعة كبيرة من النجوم فلا ترى إلا تماثيل القائد.. تمثالا له وهو قائم وآخر له وهو جالس.. هذا تمثال كبير وغيره صغير.. هنا يتكلم القائد.. وهنا يبتسم.. وهنا يضع حجر الأساس لأعظم جماهيرية عظمى في العالم.

إن كنت في غفلة عن الرقيب فلا يمكنك إلا أن تبتسم وتسخر من عقلية هؤلاء الذين رفض الشعب أن يعترف بعظمتهم.. فنحت لهم البناؤون عظمة من أحجار صماء.

ولم يكتفوا برفع صور الزعيم.. بل ورفعوا شعاراته الخالدة!

لا نيابة عن الشعب والتمثيل تدجيل.. والمجالس النيابية تزييف للديمقراطية.. وما للشعب والديمقراطية والحرية أفلا يكفيه أن منّ الله عليه بقائد ملهم.. ألهم الجماهير رشدها وجاءها بما لم تأتها به حتى الرسالات السماوية.. إن المجالس النيابية تزييف والتزييف حرام.. أما السجون فهي التي تستوعب أعداء الشعب.. ولا حرية لأعداء الشعب.

من تحزب خان.. فلا يصح أن يلتزم المناضلون بالأحزاب.. فالأحزاب تطالب بالتغيير وهل يصح التغيير في دولة الجماهير؟!

الاستفتاء تدجيل على الديمقراطية.

لا ديمقراطية بدون مؤتمرات شعبية.

اللجان في كل مكان.. الديمقراطية رقابة الشعب على نفسه.

شركاء لا أجراء.. البيت لساكنه.

لوحات وشعارات لا حصر لها.. تحمل كلمات جوفاء.. عبّر عنها أحد إخواننا الذين حضروا المؤتمر معنا فقال: (إن هناك شعارات مرفوعة ركيكة الصياغة فارغة المعنى.. ومع ذلك يظنها البعض بعض التنزيل.. أو الاحكام الحاسمة لإصلاح العالم).

إن أحوال ليبيا ليست بدعا عن أوضاع العالم الإسلامي وليس مصادفة أن المسلمين من بين خلق الله أجمعين.. يحكمهم حكام ديكتاتوريون يتكلمون عن الحرية.. وجهلاء يتكلمون عن الحكمة.. أفقروا شعوبهم وأذلوها.. بينما أعداؤنا الذين ما زالوا يسيطرون على أرضنا ومقدراتنا يضحكون بملء أشداقهم مما نحن فيه.. يصح فينا قول الشاعر:

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.

فهل ينتبه هؤلاء الحكام إلى أنفسهم.. ويعيدوا تقييم مواقفهم.. فيعيدوا للشعب حريته.. ويتجاوزوا فكرة القائد الملهم والأوحد والدائم؟!

طرابلس الغرب 14 أكتوبر1990م

 
Leave a comment

Posted by on September 5, 2013 in خواطر حول العالم

 

الشهيد أحمد أحواس

(1) الشهيد أحمد أحواس – من سلسلة خواطر حول العالم – خواطر من ليبيا

الشهيد أحمد أحواس

يتحدث أحمد أحواس الضابط في الجيش الليبي عن معمر القذافي فيقول: عرفت معمر القذافي بو منيار طالبا بالكلية العسكرية سنة1965 م‏عندما كنت مدرسا بها، ثم عرفته ضابطا بالجيش الليبي حتى انقلاب عام 1969م.

عرفته شاذا في تفكيره وتصرفاته. وما أشد دهشتي وقلقي عندما أصبح على رأس السلطة في ليبيا عبر انقلاب ستظهر الأيام من كان وراءه.

لقد رفضت اقتراحا في الأيام الأولى للانقلاب، بإرسال برقية تأييد حتى لا يفهم منها اعترافي بهذا الوضع المريب، كما عدلت عن فكرة كتابة مذكرة إلى القذافي أنصحه فيها وأعرض له تصوري لمنهج التغيير المطلوب، وذلك لقناعتي انه لا يؤمن بالحوار ‏ولا يعدل عن رأيه حتى ولو تبين له الحق في سواه.

لقد كان من الصعب علي وآنا أعرف جيدا من هو القذافي أن أعلن رأيي فيه ابان ذلك التأييد العفوي من جماهير شعبنا الطيب، فاخترت أن أقوم بخدمة ديني وأمتي من أي موقع أكون فيه. ولقد علمت من مصدر موثوق ومقرب حرص القذافي على بقائي خارج البلاد فكانت حياتي كلها تنقلاً بين السفارات، كان آخرها في غويانا بأمريكا الجنوبية.

كنت أتابع أخبار البلاد وأرى بعيني عندما أعود بين الحين والآخر الخراب الاقتصادي، والتفسخ الأخلاقي، والانحراف العقيدي والفكري، والفوضى الإدارية، والتخبط السياسي، فضلا عن التذمر الشعبي على كل المستويات وفي جميع القطاعات، وأتابع أخبار الإرهاب والتسلط والقهر والظلم ومصادرة الحريات والأموال بشكل لم أسمع بمثله في التاريخ القديم والحديث لأمتنا.

لقد كانت تؤلمني من الأعماق حماقات القذافي وتهجماته على كل عزيز، واستهتاره بكل المقدسات والقيم، كما كنت استغرب ممن يتبنون أفكاره الباطلة ويروجون لها. وكنت أتساءل في نفسي عما يحدث وكيف يمكن مواجهته، كما كنت أدرك أن دورا ايجابيا يتحتم عليّ القيام به، وقد تنامى لدي هذا الشعور مع تمادي نظام القذافي المتعجرف في ممارساته الوقحة لكل أشكال الظلم والطغيان التي أدت إلى ارتفاع كثير من الأصوات المعارضة له في الداخل والخارج وأصبح السكوت في نظري تقصير لا تبرره كل الاعتبارات التي حالت دون إعلان موقفي منه إلى الآن.

وان في تجربة العالم مع القذافي، وفي خذلانه للقضايا الإسلامية والتحررية، وتدخلاته في شئون الدول الأخرى وبالأخص الدول الأفريقية والعربية الشقيقة، ما يكفي للتدليل على الدور التخريبي الذي يقوم به والذي أدى إلى تدمير سمعة ليبيا ومكانتها بين أمم العالم.

لذلك فأنني وباسمي الشخصي أدين وبشدة كل الممارسات الخاطئة التي قام ويقوم بها التسلط القذافي العابث على الصعيدين الداخلي والخارجي. وأحس أنني أعبر بذلك عن موقف الغالبية العظمى من الشعب الليبي المنكوب الذي ما فتئ يسعى جاهدا للتخلص من هذا الكابوس المزعج بعد أن تكشفت حقيقته منذ الأشهر الأولى للانقلاب النكد.

بناء على ما تقدم.. أعلن استقالتي من منصبي كمستشار بأمانة الخارجية وكقائم بأعمال السفارة الليبية في غويانا.. كما أعلن عن عزمي للوقوف وبكل ما ‏أملك مع كل العاملين المخلصين للعمل الجاد من أجل الإطاحة بهذا الطاغية الذي نكبت به بلادنا العزيزة لنعيد للشعب الليبي حريته المغتصبة لكي يختار نظام حياته وحكمه ضمن إطار عقيدة الإسلام وشريعته الراسخة وليحقق آماله في العزة والكرامة والازدهار والتقدم.

ولله الأمر من قبل ومن بعد..

وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(أحمد إبراهيم أحواس (18/1/1981م))

التواصل مع الأخ أحمد أحواس

كان القذافي يرغب في إخراج أحمد أحواس من ليبيا.. فهو يعرفه ويعرف أفكاره.. ويعرف مدى صلته مع ضباط الجيش الليبي.. خاصة بعد أن أصبح القذافي قائد الثورة، وصاحب النظرية الثالثة، ومؤلف الكتاب الأخضر، ومفجر النهر العظيم، وملك ملوك أفريقيا.

وأرسل القذافي أحمد أحواس سفيراً يتنقل بين اليمن الجنوبي، والصومال، والدانمارك، وماليزيا، وغويانا في أمركا الجنوبية.

وكان عملنا في الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية أن نتصل بالشخصيات الإسلامية في جميع البلدان والمواقع.. نتواصل معهم.. ونرسل لهم بعض الكتب الإسلامية، ونزودهم بنشرة الأخبار الأسبوعية التي كنا نصدرها.

وبناء على ذلك فقد بدأت صلتنا وتعارفنا مع الأخ أحمد أحواس في عدن.. وعدن يومها أحد مراكز الماركسية، وقادتها من أخلص عملاء روسيا والصين.. في هذا الجو الخانق اتصلنا بالأخ أحمد أحواس.. كان يطلب منا الكتب باللغة العربية والإنكليزية، وكان يهتم كثيرا بالأخبار التي تنقل أخبار المسلمين في العالم. وهكذا أصبح أحمد أحواس الضمير الذي ينبض بالحيوية.. والشعلة التي تنير الدرب للآخرين.. ولم يخرج من عدن إلا وله فريق عمل يتابع عمله.

زيارتي لمنطقة الكاريبي

وعندما زرت ترينداد ومنطقة الكاريبي وغويانا في أمريكا الجنوبية وجدت عملاً إسلامية منظماً.. وخطة للعمل متكاملة.. وإذا سألت عن ذلك.. أجابوك: أن أحمد أحواس سفير ليبيا في المنطقة هو الذي فعل كل ذلك.

يا أخ أحمد: أتذكر تلك الرسالة التي بعثتها لي من غويانا؟ لقد كانت بتوقيعك.. وعلى الرغم من استغرابي لبعض معانيها في البداية، غير أن النهاية التي قدرها الله لك، والشموخ الذي تطاولت نفسك إليه، وزيارتي لترنداد ولقائي بإخوانك وتلاميذك في أمريكا الجنوبية ومنطقة الكاريبي من بعد، وانضمامك إلى إخوانك في العقيدة ضمن جبهة الإنقاذ الوطني لتحرير ليبيا من الطغاة والطغيان، كل ذلك فسر لي الكلمات التي غمضت علي.. ذكرت لي ضرورة التحرك الإيجابي فلا معنى للعمل الإسلامي الذي يتحول إلى ردود فعل لا نحسن توجيهها أو الاستفادة منها.

وذكرت لي عن النظرة الضيقة التي تريد كل شيء أو تفقد كل شيء.. وذكرت لي ضرورة التخطيط في عالم تجريبي يؤمن بالعلم والتكنولوجيا ويسخرها لمصلحة الإنسان.. شكوت لي خلافات العاملين للإسلام وكيف يخسرون جهودهم واخوّتهم ويتحولون إلى أعداء.. من أجل تفاهات، على الرغم من أن عناصر اللقاء بينهم لا حدود لها.. نسوا الحب في الله.. فأنساهم الله أنفسهم فأصبحوا أعداء يتناكرون بعد أن كانوا أحبابا يتعارفون ويتآلفون.

هل غفرت لي يا أحمد.. رسالتي الجواب؟

إني والله لم أقصد الإساءة.. ولكني لم أفهم يومها ما قصدت.. كنت أحلم.. وأظن كل شيء كما يقال أو يكتب..

آسف يا أخ أحمد.. فلم أكن أقصد الإساءة.. ولكني لم أفهم رسالتك.. وشتان بين المجاهدين أمثالك، وبين أمثالنا من القاعدين..

كنت أظن أن الحماس شجاعة، والبلاغة فكرة، والحديث المنمق دعوة، والمقالة وصاحبها مثالا.. وما علمت إلا مؤخرا أن الماء قد يكون ماء.. وقد يكون سرابا أو تيها ضاربا في حشايا الرمال.. اغفر لي يا أحمد.. ومثلك من يغفر!

تضاربت الأنباء حول نبأ استشهادك.. ذكروا أنك دخلت مع اثنين من رفاقك من البحر.. وذكرت وكالة الأنباء الرسمية الليبية أنك اشتبكت مع الحرس على الحدود التونسية الليبية وأن إصابتك كانت قاتلة.. وذكر مراسل اللوموند الفرنسية أنك دخلت البلاد قبل أسبوعين ثم اكتشف أمرك في حادث ما زال غامضا.. وذكرت أخبار أخرى أنك كنت تقود الهجوم على ثكنات باب العزيزية حيث يقيم معمر القذافي.. وأن قسما من الجنود انضموا إليكم.. وإن المقاومة استمرت أكثر من سبع ساعات كاملة.

استشهدت في هذه المعركة مع جميع رفاقك الآخرين.

قالوا تدرب في السودان.. وقالوا بل دفعته أمريكا وانكلترا.. وهذا هو منطق العملاء..!

بل تدرب في ليبيا وكان من أذكى ضباط جيشها وألمعهم..

ودفعه دينه وإسلامه لانقاذ بلده من طغيان الارهاب.. الذي استشرى في بلده الطيب.

يا أحمد..

مهما كانت طريقة استشهادك فستبقى حيا عند ربك..

وستبقى حيا في ذاكرة إخوانك.. لن ينسوا أبدا.. الداعية المثقف والقيادي الذكي والسياسي المجاهد.

وستبقى أحد رموز الكفاح الذين يلهمون شباب هذه الأمة.. كيف يدافعون عن حقوقهم.. بل وكيف يستشهدون.

سطور من حياته

ولد الشهيد أحمد إبراهيم أحواس في مدينة جردينة من ضواحي بنغازي في ليبيا عام 1938م. انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين في عام 1954م، وفي سنة 1960م التحق بالكلية العسكرية وتخرج في العام 1962م متفوقاً على كافة أفراد الدفعة.

من عام 1962 إلى 1969م عمل ضابطاً في سلاح الهندسة بالجيش الليبي.

تقلد الشهيد عدة مناصب خلال عمله بالجيش منها: آمراً لسرية هندسة الميدان، ومدرساً بالكلية العسكرية، ومدرساً بمدرسة الهندسة، كما التحق بعدة دورات دراسية عسكرية في كل من ليبيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

تدرج الشهيد في الرتب العسكرية حتى رتبة رائد التي رقي إليها بتاريخ 9 أغسطس 1969م.

كان الشهيد طيلة عمله في القوات المسلحة مشهوداً له بالكفاءة والإخلاص والأخلاق العالية، كما كان يحظي بتقدير واحترام رؤسائه وحب ومودة مرؤسيه.

بعد انقلاب القذافي عام 1969م كان الشهيد من ضمن الضباط الذين اعتقلهم القذافي، ثم جرى إبعاده للعمل في السفارات الليبية في كل من: الدانمرك، واليمن الشمالي، والصومال، واليمن الجنوبي، وماليزيا، وغويانا. ورغم سوء سمعة نظام القذافي إلا أن ما كان يتحلى به الشهيد من نبل في التعامل وأصالة في الأخلاق وتفان متواصل في خدمة قضايا الإسلام والمسلمين، جعله يحظى بالتقدير والاحترام من الأجهزة الرسمية، وبالتجاوب المتزايد من كثير من العاملين في الهيئات الأهلية والتعاون الخير مع الشباب في الجمعيات الإسلامية في تلك الدول لا تزال آثاره شاهدة على ذلك حتى اليوم.

في فبراير 1981م أعلن الشهيد أحمد إبراهيم أحواس استقالته من منصبه كقائم بأعمال السفارة الليبية في غويانا، وأعلن انضمامه إلى المعارضة الليبية في الخارج حيث شارك في تأسيس الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا. وتم اختياره عضواً في اللجنة التنفيذية للجبهة.

في 6 مايو عام 1984م كان الشهيد أحمد أحواس في مهمة تتعلق بقوات جبهة الإنقاذ داخل ليبيا، ولم يكن دخوله أو تسلله إلى ليبيا هو الأول من نوعه، بل كان يقوم بذلك بصورة دورية منذ استقالته. واستطاع في المرة الأخيرة، كما تقول إحدى الروايات، التسلل عن طريق البحر، ظل بعدها يتنقل داخل البلاد لمدة أسبوعين تقريباً، كان يقوم خلالها بالاتصال والتخطيط والتنسيق مع وحدات وإفراد من الجناح العسكري للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، اصطدم إثناء تنقلاته الأخيرة.. بدورية مسلحة قرب مدينة زوارة، فتم تبادل إطلاق النار الذي انتهى باستشهاده.

ولا نستطيع أن نعزل واقعة استشهاد الرائد احمد أحواس عن وقائع وإحداث الثامن من مايو 1984م، وما جرى في ذلك اليوم من تصادم بين مجموعة بدر التابعة لقوات الإنقاذ وبين قوات النظام الليبي، وما تلى ذلك من أحداث ووقائع انتهت باستشهاد أفراد المجموعة.

سلام عليك يا أخي أبا أسعد… ورحمة الله وبركاته.

ليبيا في 8/5/1984م

 
Leave a comment

Posted by on September 1, 2013 in خواطر حول العالم