بقلم: د. محمد مورو
علينا ألا ننتظر حتى ينفصل جنوب السودان ثم نفاجأ بأحداث وأوضاع لم نستعدّ لها، سواءٌ على المستوى المصري أو السوداني أو حتى الإقليمي والعالمي.
وبالطبع فإن رصد السيناريوهات المتوقعة عقب انفصال جنوب السودان وتحوله إلى دولة هو جزء لا يتجزأ من الواجب السياسي والاستراتيجي.
لماذا نرجِّح أن جنوب السودان سينفصل، رغم أن من الواضح الآن وفقاً للأوضاع الدولية والإقليمية الجديدة أن ذلك لن يكون في مصلحة جنوب السودان ذاته، ولا في مصلحة الغرب وأمريكا، الذين سعوا دائماً لتحقيق هذا الانفصال؟
كانت القوى الانفصالية في الجنوب تسعى لتحقيق الانفصال، وتلقت تحريضاً ودعماً في هذا الاتجاه من كل من أمريكا والغرب, لأن تجزئة العالم العربي والإسلامي هي جزء من الاستراتيجية الثابتة للغرب، وكذا فإن التآمر على السودان باعتباره الرابط بين العرب وإفريقيا، وبداية الإسلام إلى القارة، كان جزءاً من تلك الاستراتيجية أيضاً، وقد أدت حكومات وأجهزة مخابرات وكنائس وقوى رسمية غربية دوراً كبيراً لتحقيق هذا الانفصال، ونجحت في الضغط على حكومة السودان حتى وقعت اتفاقية ماشاكوس التي تعطي الحق في استفتاء للجنوبيين لتقرير المصير، مع أن مبدأ تقرير المصير في حد ذاته لم تصغه الأمم المتحدة بهدف تفتيت الدول، بل كان في مواجهة الاستعمار.
على أي حال، فإن وصول تلك القوى الجنوبية والإقليمية والعالمية إلى هذا المستوى كان هدفاً تحقق لهم، ولكن الأمور لا تسير عادة بما تشتهي السفن، فكثير من المتغيِّرات قد حدثت، الأمر الذي جعل الانفصال خطراً كبيراً على جنوب السودان ذاته، وعلى القوى التي طالما دعمت الانفصال والتجزئة، وهذا هو المستجد الجديد في الواقع الدولي والإقليمي. ففي السنوات الأخيرة أعلنت أمريكا الحرب على الإرهاب «الإسلامي»، واعتبرته الإدارة الأمريكية والغرب كله الخطر الأكبر على مستقبل الحضارة الغربية واستقرار العالم، وبديهي أن هذا الإرهاب يستفيد من أي فوضى وعدم استقرار وينتشر ويتوغل في هذا المناخ، وإذا كانت الصومال مفككة والقوى الفاعلة فيها أصبحت تعلن أنها مع تنظيم القاعدة، وكذا فإن اليمن يعاني من مخاطر التفكك وبه نشاط ملحوظ للإرهاب والقاعدة، فإذا أضفنا إلى ذلك تزايد نشاط الإرهاب في شمال إفريقيا خاصة المغرب والجزائر وموريتانيا والنيجر، وإذا ما انفرط عقد السودان.. وصل الإرهاب بداهة إلى دارفور وتشاد. وإذا أدركنا أن انفصال الجنوب يعني بداية ظهور حركات وقلاقل قبليَّة، وأن القتال بين الجنوبيين أنفسهم مرجَّح، وأن هذا سوف يمتد إلى دول أخرى مثل الكونغو وكينيا وإثيوبيا وأوغندا, لأن هناك امتدادات قبلية من الجنوب السوداني إلى تلك الدول، أي أن المسألة ستصبح نوعاً من الفوضى الشاملة، ستكون مرتعاً للإرهاب.. وهكذا فإن انفصال الجنوب لن يعني تحقيق هدف أمريكي وغربي، بل يعني زيادة مناخ الإرهاب، ربما لأن الإرهاب أصبح هو العدو الرئيسي لأمريكا والغرب، فإن الاستراتيجية التقليدية للغرب وأمريكا في تفكيك وتجزئة العالم العربي والإسلامي قد تغيرت ولو مؤقتاً.
ولكن رغم أن حظر تقسيم الجنوب ذاته وامتداد القلاقل إلى الدول المجاورة وعدم امتلاك هذا الجنوب منفذاً بحريّاً وغيرها من الأمور التي كان من المفترض أخذها في الاعتبار، إلا أن القوى الانفصالية في الجنوب لا تزال تعيش في حسابات ما قبل اعتبار أمريكا الإرهاب عدوّاً رئيسيّاً، وتتصور أن الدنيا لا تزال كما هي منذ عشر سنوات، ومعها أيضاً قوى كنسية غربية وقوى داخل أمريكا تضغط على المؤسسة لمساعدة الدولة الوليدة.
وفي الإطار نفسه، فإن خطر انفصال الجنوب سيصيب مصر، لأنه سوف يزيد في تعقيد موضوع مياه النيل، ولكن مصر لم تفعل ما يمنع الانفصال. أما حكومة السودان فإنها مستريحة للانفصال, لأنه سيخلصها من أعباء كبيرة، ثم إنها تمتلك نظاماً إداريّاً متماسكاً، ولديها ثروات بترولية ومعدنية ظهرت أخيراً، أي أن وضعها سيكون أفضل في حالة الانفصال، ومن ثم فإنها لن تبذل الجهد الكبير لمنع الانفصال.
وهكذا فإن من المرجح أن يحدث الانفصال، لأن الجميع يعتمد على حسابات استراتيجية قديمة، ثم نفاجأ بسلسلة من الأحداث في اتجاه المزيد من التجزئة والفوضى في الجنوب وفي الكونغو وأوغندا، بل وكينيا وإثيوبيا، ثم تشاد ودارفور، ولن ينفع وقتئذ قدوم قوات أمريكية أو إقليمية لمنع الانتشار المتوقع للإرهاب، وهذه رسالة إلى كل من يهمه الأمر قبل فوات الأوان.}
الأمان 27/8/2010م