RSS

Monthly Archives: September 2010

!! مغزى الحياة

د. راغب السرجاني

تدبرت كثيرًا في مسألة قيام الأمم ..

فلاحظت أمرًا عجيبًا، وهو أن فترة الإعداد تكون طويلة جدًّا قد تبلغ عشرات السنين، بينما تقصر فترة التمكين حتى لا تكاد أحيانًا تتجاوز عدة سنوات !!

فعلى سبيل المثال بذل المسلمون جهدًا خارقًا لمدة تجاوزت ثمانين سنة؛ وذلك لإعداد جيش يواجه الصليبيين في فلسطين، وكان في الإعداد علماء ربانيون، وقادة بارزون، لعل من أشهرهم عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جميعًا، وانتصر المسلمون في حطين، بل حرروا القدس وعددًا كبيرًا من المدن المحتلة، وبلغ المسلمون درجة التمكين في دولة كبيرة موحدة، ولكن -ويا للعجب- لم يستمر هذا التمكين إلا ست سنوات، ثم انفرط العقد بوفاة صلاح الدين، وتفتتت الدولة الكبيرة بين أبنائه وإخوانه، بل كان منهم من سلم القدس بلا ثمن تقريبًا إلى الصليبيين!!

كنت أتعجب لذلك حتى أدركت السُّنَّة، وفهمت المغزى..

إن المغزى الحقيقي لوجودنا في الحياة ليس التمكين في الأرض وقيادة العالم، وإن كان هذا أحد المطالب التي يجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها، ولكن المغزى الحقيقي لوجودنا هو عبادة الله عز وجل..

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]..

وحيث إننا نكون أقرب إلى العبادة الصحيحة لله في زمن المشاكل والصعوبات، وفي زمن الفتن والشدائد، أكثر بكثير من زمن النصر والتمكين، فإن الله -من رحمته بنا- يطيل علينا زمن الابتلاء والأزمات؛ حتى نظل قريبين منه فننجو، ولكن عندما نُمكَّن في الأرض ننسى العبادة، ونظن في أنفسنا القدرة على فعل الأشياء، ونفتن بالدنيا، ونحو ذلك من أمراض التمكين..

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 22، 23].

ولا يخفى على العقلاء أن المقصود بالعبادة هنا ليس الصلاة والصوم فقط، إنما هو في الحقيقة منهج حياة.. إن العبادة المقصودة هنا هي صدق التوجه إلى الله، وإخلاص النية له، وحسن التوكل عليه، وشدة الفقر إليه، وحب العمل له، وخوف البعد عنه، وقوة الرجاء فيه، ودوام الخوف منه.. إن العبادة المقصودة هي أن تكون حيث أمرك الله أن تكون، وأن تعيش كيفما أراد الله لك أن تعيش، وأن تحب في الله، وأن تبغض في الله، وأن تصل لله، وأن تقطع لله.. إنها حالة إيمانية راقية تتهاوى فيها قيمة الدنيا حتى تصير أقل من قطرة في يمٍّ، وأحقر من جناح بعوضة، وأهون من جدي أَسَكَّ ميت..

كم من البشر يصل إلى هذه الحالة الباهرة في زمان التمكين!!

إنهم قليلون قليلون!

ألم يخوفنا حبيبي صلى الله عليه وسلم من بسطة المال، ومن كثرة العرض، ومن انفتاح الدنيا؟!

ألم يقل لنا وهو يحذرنا: “فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ”؟!

ألا نجلس معًا، ونأكل معًا، ونفكر معًا، ونلعب معًا، فإذا وصل أحدنا إلى كرسي سلطان، أو سدة حكم، نسي الضعفاء الذين كان يعرفهم، واحتجب عن “العامة” الذين كانوا أحبابه وإخوانه؟!

ألم يحذرنا حبيبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر الشائع فقال: “مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ”؟!

هل يحتجب الفقير أو الضعيف أو المشرد في الأرض؟

لا.. إنما يحتجب الممكَّن في الأرض، ويحتجب الغني، ويحتجب السلطان.

إن وصول هؤلاء إلى ما يريدون حجب أغلبهم عن الناس، ومَن كانت هذه حاله فإن الله يحتجب عنه، ويوم القيامة سيدرك أنه لو مات قبل التمكين لكان أسلم له وأسعد، ولكن ليس هناك عودة إلى الدنيا، فقد مضى زمن العمل، وحان أوان الحساب.

إن المريض قريب من الله غالب وقته، والصحيح متبطر يبارز الله المعاصي بصحته..

والذي فقد ولده أو حبيبه يناجي الله كثيرًا، ويلجأ إليه طويلاً، أما الذي تمتع بوجودهما ما شعر بنعمة الله فيهما..

والذي وقع في أزمة، والذي غُيِّب في سجن، والذي طُرد من بيته، والذي ظُلم من جبار، والذي عاش في زمان الاستضعاف، كل هؤلاء قريبون من الله.. فإذا وصلوا إلى مرادهم، ورُفع الظلم من على كواهلهم نسوا الله، إلا من رحم الله، وقليل ما هم..

هل معنى هذا أن نسعى إلى الضعف والفقر والمرض والموت؟

أبدًا، إن هذا ليس هو المراد.. إنما أُمرنا بإعداد القوة، وطلب الغنى، والتداوي من المرض، والحفاظ على الحياة.. ولكن المراد هو أن نفهم مغزى الحياة.. إنه العبادة ثم العبادة ثم العبادة.

ومن هنا فإنه لا معنى للقنوط أو اليأس في زمان الاستضعاف، ولا معنى لفقد الأمل عند غياب التمكين، ولا معنى للحزن أو الكآبة عند الفقر أو المرض أو الألم.. إننا في هذه الظروف -مع أن الله طلب منا أن نسعى إلى رفعها- نكون أقدر على العبادة، وأطوع لله، وأرجى له، وإننا في عكسها نكون أضعف في العبادة، وأبعد من الله.. إننا لا نسعى إليها، ولكننا “نرضى” بها.. إننا لا نطلبها، لكننا “نصبر” عليها.

إن الوقت الذي يمضي علينا حتى نحقق التمكين ليس وقتًا ضائعًا، بل على العكس، إنه الوقت الذي نفهم فيه مغزى الحياة، والزمن الذي “نعبد” الله فيه حقًّا،

فإذا ما وصلنا إلى ما نريد ضاع منا هذا المغزى، وصرنا نعبد الله بالطريقة التي “نريد”، لا بالطريقة التي “يريد”!.. أو إن شئت فقُلْ نعبد الله بأهوائنا، أو إن أردت الدقة أكثر فقل نعبد أهواءنا!!

قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43].

ولذلك كله فإن الله الحكيم الذي يريد منا تحقيق غاية الخَلْق، الرحيم الذي يريد لنا الفلاح والنجاح قد اختار لنا أن تطول فترة الإعداد والبلاء والشدة، وأن تقصر فترة التمكين والقوة، وليس لنا إلا أن نرضى، بل نسعد باختياره، فما فعل ذلك إلا لحبه لنا، وما أقرَّ هذه السُّنَّة إلا لرحمته بنا.

وتدبروا معي إخواني وأخواتي في حركة التاريخ..

كم سنة عاش نوح -عليه السلام- يدعو إلى الله ويتعب ويصبر، وكم سنة عاش بعد الطوفان والتمكين؟!

أين قصة هود أو صالح أو شعيب أو لوط -عليهم السلام- بعد التمكين؟! إننا لا نعرف من قصتهم إلا تكذيب الأقوام، ومعاناة المؤمنين، ثم نصر سريع خاطف، ونهاية تبدو مفاجئة لنا.

لماذا عاش رسولنا صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين سنة يُعِدُّ للفتح والتمكين، ثم لم يعش في تمكينه إلا عامين أو أكثر قليلاً؟!

وأين التمكين في حياة موسى أو عيسى عليهما السلام؟! وأين هو في حياة إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام؟!

إن هذه النماذج النبوية هي النماذج التي ستتكرر في تاريخ الأرض، وهؤلاء هم أفضل من “عَبَدَ” الله عز وجل، {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90].

والآن بعد أن فقهت المغزى لعلك عرفت لماذا لم يعش عمر بن عبد العزيز إلا سنتين ونصف فقط في تمكينه، وأدركت لماذا قُتل عماد الدين زنكي بعد أقل من عامين من فتح الرُّها، وكذلك لماذا قُتل قطز بعد أقل من سنة من نصره الخالد على التتار في عين جالوت، وكذلك لماذا قُتل ألب أرسلان بعد أقل من عامين من انتصار ملاذ كرد التاريخي، ولماذا لم “يستمتع” صلاح الدين بثمرة انتصاره في حطين إلا أقل من سنة ثم سقطت عكا مرة أخرى في يد الصليبيين، ولماذا لم يرَ عبد الله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين التمكين أصلاً، ولماذا مات خير رجال دولة الموحدين أبو يعقوب يوسف المنصور بعد أقل من أربع سنوات من نصره الباهر في موقعة الأرك.

إن هذه مشاهدات لا حصر لها، كلها تشير إلى أن الله أراد لهؤلاء “العابدين” أن يختموا حياتهم وهم في أعلى صور العبادة، قبل أن تتلوث عبادتهم بالدنيا، وقبل أن يصابوا بأمراض التمكين.

إنهم كانوا “يعبدون” الله حقًّا في زمن الإعداد والشدة، “فكافأهم” ربُّنا بالرحيل عن الدنيا قبل الفتنة بزينتها..

ولا بد أن سائلاً سيسأل: أليس في التاريخ ملك صالح عاش طويلاً ولم يُفتن؟! أقول لك: نعم، هناك من عاش هذه التجربة، ولكنهم قليلون أكاد أحصيهم لندرتهم! فلا نجد في معشر الأنبياء إلا داود وسليمان عليهما السلام، وأما يوسف -عليه السلام- فقصته دامية مؤلمة من أوَّلها إلى قبيل آخرها، ولا نعلم عن تمكينه إلا قليل القليل.

وأما الزعماء والملوك والقادة فلعلك لا تجد منهم إلا حفنة لا تتجاوز أصابع اليدين، كهارون الرشيد وعبد الرحمن الناصر وملك شاه وقلة معهم..

لذلك يبقى هذا استثناءً لا يكسر القاعدة، وقد ذكر ذلك الله عز وجل في كتابه فقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]..

فالذي يصبر على هذه الفتن قليل بنص القرآن، بل إن الله عز وجل إذا أراد أن يُهلك أمة من الأمم زاد في تمكينها!! قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].

إنني بعد أن فهمت هذا المغزى أدركت التفسير الحقيقي لكثيرٍ من المواقف المذهلة في التاريخ..

أدركت لماذا كان عتبة بن غزوان رضي الله عنه يُقْسِم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعفيه من ولاية البصرة!

وأدركت لماذا أنفق الصديق رضي الله عنه ماله كله في سبيل الله،

وأدركت لماذا حمل عثمان بن عفان رضي الله عنه وحده همَّ تجهيز جيش العسرة دون أن يطلب من الآخرين حمل مسئولياتهم،

وأدركت لماذا تنازل خالد بن الوليد رضي الله عنه عن إمارة جيش منتصر،

وأدركت لماذا لم يسعد أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بولايته على إقليم ضخم كالشام،

وأدركت لماذا حزن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه عندما جاءه سبعمائة ألف درهم في ليلة،

وأدركت لماذا تحول حزنه إلى فرح عندما “تخلَّص” من هذه الدنيا بتوزيعها على الفقراء في نفس الليلة!!

أدركت ذلك كله.. بل إنني أدركت لماذا صار جيل الصحابة خير الناس!

إن هذا لم يكن فقط لأنهم عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لأنهم هم أفضل من فقه مغزى الحياة، أو قل: هم أفضل من “عَبَدَ” الله عز وجل ؛ ولذلك حرصوا بصدق على البعد عن الدنيا والمال والإمارة والسلطان، ولذلك لا ترى في حياتهم تعاسة عندما يمرضون، ولا كآبة عندما يُعذَّبون، ولا يأسًا عندما يُضطهدون، ولا ندمًا عندما يفتقرون.. إن هذه كلها “فُرَص عبادة” يُسِّرت لهم فاغتنموها، فصاروا بذلك خير الناس.

إن الذي فقِه فقههم سعِد سعادتهم ولو عاش في زمن الاستضعاف!

والذي غاب عنه المغزى الذي أدركوه خاب وتعس ولو ملك الدنيا بكاملها.

إنني أتوجه بهذا المقال إلى أولئك الذين يعتقدون أنهم من “البائسين” الذين حُرموا مالاً أو حُكمًا أو أمنًا أو صحة أو حبيبًا..

إنني أقول لهم: أبشروا، فقد هيأ الله لكم “فرصة عبادة”!

فاغتنموها قبل أن يُرفع البلاء، وتأتي العافية، فتنسى الله، وليس لك أن تنساه..

قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].

وأسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه..

وأسأله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.

 
1 Comment

Posted by on September 25, 2010 in مقالات تستحق القراءة

 

الإمام الشهيد حسن البنا فى عيون معاصريه

..إهداء لوحيد حامد

رحمة حسين

 مقتطفات من شهادات بعض الرموز التاريخية التى عايشت الإمام الشهيد حسن البنا على ” إختلاف توجهاتها ” من كبار المشايخ والعلماء والسياسيين والقادة والكتاب والمفكرين ، نهديها للكاتب والسيناريست وحيد حامد – مؤلف مسلسل الجماعة – الذى زعم أنه أمتلك الحقيقة ورأى مالم يراه الجميع فى شخص الإمام الشهيد حسن البنا .

 *  كتب علي ماهر رئيس مجلس الوزراء يقول: “عادت بي الذاكرة إلى عام 1935، حين زارني الفقيد الكريم مع بعض أصدقائه بمناسبة انتقاله بجماعته من الإسماعيلية إلى القاهرة، متحدثًا في بعض الشئون العامة، وكان حديثه يشرح صدري وأسلوبه يشهد بموفورالثقافة الإسلامية والبصر بشئون الأمم العربية، وبراعة المنطق وقوة الحجة، وكان إلى ذلك شديد الإيمان بأنه يؤدي رسالة إنسانية سامية، دعائمها الإخاء والمحبة والسلامبين سكان البلاد جميعًا. وفي مارس سنة 1939 بارحت لندن بالطائرة، إثر مؤتمر فلسطين، ووصلت القاهرة في مستهل الهزيع الأخير من ليلة لا أنساها، رأيت فيها جموع الإخوانتملأ فضاء محطة العاصمة، وتموج بهم أرصفتها، وسمعت نداءهم: “الله أكبر ولله الحمد” يدوي عاليًا، فيأخذ طريقه إلى القلوب، ويملأ النفوس إيمانًا بالله، وتجردًا، للمثل العليا”.

*   وفي مقال تحت عنوان “الداعية الموفق” للسيد اللواء محمد صالح حرب باشا – الرئيس العام لجمعيات الشبان المسلمين- قال: ” واستطاع -عليه الرحمة- أن يوقد جذوة الفكرةالإسلامية في صدور الآلاف من الشباب، فأقبلوا على الدين وعكفوا على القرآن وتعلقوابأسباب الثقافة الإسلامية، وكان لهم في ميدانها جهود وجولات استطاع أن يرد غربةالإسلام بين هؤلاء الجاهلين به إلى معرفة وأنس، وبذل في سبيل ذلك من علمه وجهادهووقته ونفسه وأعصابه وراحته ما لا تستطيعه إلا العصبة المجتمعة من أقوياء الرجال..”.

*  وفي كلمة الزعيم محمد نجيب عن حسن البنا عقب نجاح الثورة،قال: “من الناس من يعيش لنفسه، لا يفكر إلا فيها، ولا يعمل إلا لها، فإذا مات لميأبه به أحد، ولم يحس بحرارة فقده مواطن، ومن الناس من يعيش لأمته واهبًا لها حياته حاضرًا فيها آماله، مضحيًا في سبيلها بكل عزيزٍ غالٍ، وهؤلاء إذا ماتوا خلت منهم العيون وامتلأت بذكرهم القلوب، والإمام الشهيد حسن البنا، أحد أولئك الذين لا يدرك البلى ذكراهم، ولا يرقى النسيان إلى منازلهم لأنه- رحمه الله- لم يعش في نفسه بل عاش في الناس ولم يعمل لصوالحه الخاصة، بل عمل للصالح العام.

*   وقال جمال عبد الناصر في احتفال مجلس الثورة بذكرى استشهاد الإمام: “إنني أذكر هذه السنين والآمال التي كنا نعمل من أجل تحقيقها، أذكرها وأرى بينكم من يستطيع أن يذكر معي هذا التاريخ وهذه الأيام، ويذكر في نفس الوقت الآمال العظام التي كنا نتوخاها أحلامًا بعيدة، نعم أذكر في هذا الوقت، وفي هذا المكان، كيف كان حسن البنا يلتقي مع الجميع ليعمل الجميع في سبيل المبادئ العالية، والأهداف السامية، لا في سبيل الأشخاص ولا الأفراد ولا الدنيا “.. ثم قال في نهاية كلمته : ” وأشهد الله أني أعمل – إن كنت أعمل – لتنفيذ هذه المبادئ وأفنى فيها وأجاهد فيسبيلها “.

*   وقال صلاح سالم: “إن هذه الأخلاق العالية والصفات الحميدة قد اجتمعت وتمثلت في شخص أستاذ كبير، ورجل احترمَه وأجلَّه واعترف بفضله العالم الإسلامي كله، وقد أحبه الجميع من أجل المثل العليا التي عمل لها، والتي سنسير عليها إلى أن يتحقق لنا مانريده من مجد وكرامة في أخوة حقيقية وإيمان أكيد، رعاكم الله ووحد بين قلوبكم وجمع بينكم على الخير”.

*  وفي ذكرى استشهاده كتب المرحوم الشيخ محمد مصطفى المراغي – شيخ الجامع الأزهر-  يقول: “إن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع الداء في جسم الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام وقد اتصل بالناس اتصالاً وثيقًا على اختلاف طبقاتهم، وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي، على الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة”.

*  وتحدث الشيخ حسنين مخلوف- مفتي الديار المصرية في الأربعينيات- عن حسن البنا، وأشاد به وبمكانته بين الدعاة، فقال: “الشيخ حسن البنا أنزله الله منازل الأبرار، من أعظم الشخصيات الإسلامية في هذا العصر، بل هو الزعيم الإسلامي الذي جاهد في الله حق الجهاد، واتخذ لدعوة الحق منهاجًا صالحًا وسبيلاً واضحًا استمده من القرآن والسنة النبوية ومن روح التشريع الإسلامي، وقام بتنفيذه بحكمةٍ وسدادٍ وصبرٍ وعزمٍ، حتى انتشرت الدعوة الإسلامية في آفاق مصر وغيرها من بلاد الإسلام، واستظل برايتها خلق كثير”.

*  وتحت عنوان “الإمام الشهيد يغزو الجامعات” كتب الأستاذ الدكتور محمد طه بدوي- أستاذ القانون العام، يقول: ” لقد كان الإمام الشهيد شمسًا وغيثًا وأملاً للجامعة بل للجامعات المصرية، فأنشأ مدرسته المثالية، وعلّم ألوفًا من إخوانه الفلسفة والمبادئ الإسلامية، فغزوا بعلومهم وأفكارهم وثورتهم كليات الجامعة، وإذا بنا نشهد جيلاً آخرهو جيل المجاهدين في سبيل الفكرة الإسلامية والوطن الإسلامي، ولم يعد يجرؤ أستاذ أن يتهجم بفلسفته على تراث الإسلام الغالي، ولم يستطع جامعي أن يُلوح للبشرية بنظام خير من النظام الإسلامي الذي وجد من تلامذة الإمام الشهيد”.

 *  ويقول الأستاذ كامل الشناوي بك: “لقد كان حسن البنا هو الزعيم الوحيد الذي آمن بالفكرة التي جاهد من أجلها، ولقد كان حسن البنا هو القائد الوحيد الذي تلمحه في صفوف الجنود”.

*  وتحدث محمد التابعي عن حسن البنا وما دار بينهما من حوارات، استطاع من خلالها أن يتعرف على شخصية البنا عن قرب، فيصف البنا بقوله: “دائم الابتسام، فاره القامة، رحب الهيكل، يبدو قويًا كشجرة السنديان، في صوته عمق وعرض وطول، وللسانه سحر إذا تكلم يتكلم فيه بالألباب والأحاديث وأمجاد الجهاد الإسلامي”.

*  وأرجع على الغاياتي كل ما بذل الإخوان من جهود إلى حسن البنا، فقال: “إذا صح ما قاله المغفور له الملك عبد الله الهاشمي من أن الإخوان المسلمين هم معجزة القرآن في هذا الزمان، فمما لا شك فيه أن مؤسس جماعتهم وراعي نهضتهم ومرشدهم العام المرحوم الأستاذ حسن البنا هو رب هذه المعجزة، فمن علمه وهديه، ونشاطه وروحه، وإيمانه وإسلامه، استمدت هذه الجماعة ما سمت به من عظيم الصفات، وما قامت به من جليل الأعمال”.

*  ويشير إحسان عبد القدوس إلى بعض جوانب شخصية البنا وإخوانه، ويوضح كيف أن البنا فتح باب الاجتهاد وأعاد إليه رونقه وصفاءه بعد أن ران عليه غبار الجمود، وأشار إلى تضحية الإخوان في سبيل الدعوة، وأن شخصية حسن البنا قد مُلئت قلوب جميع المصريين بحبه على اختلاف دينهم، فكان- رحمه الله – ودودًا باشًا يحب كل من يلقاه ولم يفرق بين مسلم ومسيحي، لذلك فقد كان المسيحيون يحبونه.

*  في كلمة للزعيم الوطني المسيحي مكرم عبيد باشا، قال: وما من شك أن فضيلة الشيخ حسن البنا هو حي لدينا جميعًا في ذكراه، بل كيف لا يحيا ويخلد في حياته رجل استوحى في الدين هدي ربه، ففي ذكره حياة له ولكم.

*  ويشير مصطفى أمين إلى أشد ما أعجبه في الإمام البنا فيقول: “إيمانه بفكرته، كان يؤمن بها بطريقة عجيبة، ويرى أن المستقبل لها، وقد انعكس ذلك على سلوكه، فكان له قدرة فائقة على إقناع الغير بذلك. أعجبني كذلك في حسن البنا أن إيمانه بفكرته لم يكن عاطفيًا فقط بل كان محسوب الخطوات مدروسًا ولم يكن متعجلاً رغم حماسه الشديد لما يؤمن به”.

 نافذة مصر 12/9/2010م

 

 
 

دموع التماسيح

جهاد الخازن

بريطانيا كلها تتحدث عن مذكرات رئيس الوزراء الأسبق توني بلير التي حملت العنوان «رحلة» غير أن كتاباً آخر صدر في الوقت نفسه يستحق إشارة، فالدكتور بريان جونز وهو عالم من موظفي إدارة استخبارات الدفاع كان مسؤولاً عن متابعة أسلحة الدمار الشامل كتب عن تجربته مع الحكومة البريطانية عشية الحرب، وكتابه الذي يحمل العنوان «استخبارات فاشلة: القصة الحقيقية لخداعنا ودخول الحرب» هو الأخير في سلسلة لا تنتهي عن الكذب المتعمد وتزوير المعلومات وكتم غير المناسب منها لتبرير الحرب على العراق.

لا أعتقد أننا بحاجة الى كتاب آخر يقدم أدلة قاطعة على تآمر جورج بوش وتوني بلير لإقحام بلديهما في حرب غير مبررة قتلت أكثر من مليون عراقي، وأطلقت إرهاباً مستمراً، وتركت العراق بلداً مدمراً بنظام سياسي فاشل وبوضع أسوأ كثيراً مما عانى أيام ديكتاتورية صدام حسين رغم ما يبدو من استحالة ذلك.

الدكتور جونز يحكي كيف شاهد الأدلة تزوَّر، وكيف طلبت منه الحكومة كتابة تقرير يثبت امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل ورفض، وكيف طلعت الحكومة بخرافة أن صدام حسين يستطيع إطلاق أسلحته في 45 دقيقة مهدداً الشرق الأوسط والعالم كله.

الكتاب «رحلة» هو مرافعة هيئة الدفاع عن توني بلير الذي يبدو كمن أخذته العزة بالإثم، فهو يقول إنه لو عاد الوضع الى بدايته فهو سيظل يؤيد حرباً على صدام حسين حتى وهو لا يملك أسلحة دمار شامل ولا علاقة له مع القاعدة، لأن وجوده خطر على المنطقة، بل ان توني بلير، في مقابلة مع تلفزيون «بي بي سي» للترويج لمذكراته، قال إنه يؤيد حرباً على إيران لمنعها من امتلاك سلاح نووي، فسلاحها سيكون خطراً على المنطقة والعالم، وسيجعل الدول العربية تسعى لامتلاك هذا السلاح، فهو على ما يبدو يريده لإسرائيل، ومن دون أن يعترف بأن اسرائيل الفاشستية المجرمة تملك ترسانة نووية وهي تحتل وتقتل وتدمر.

بلير كان من الوقاحة أن اتهم ايران بتمويل المسلحين الذين قتلوا جنوداً بريطانيين في العراق، مع أن من الواضح جداً أن هؤلاء الجنود ما كانوا ليُقتَلوا لو لم يرسلهم بلير الى العراق وأفغانستان… مرة أخرى لأسباب مزورة عمداً. الدكتورة روز ماري هوليس، وهي خبيرة في الشرق الأوسط من جامعة مدينة لندن أعرفها جيداً وأقدرها، ردت على بلير بالقول إن ألعاب الحرب التي أعدها الأميركيون أظهرت أن نتائج مهاجمة إيران وقتل مدنيين أخطر كثيراً من امتلاك إيران سلاحاً نووياً.

توني بلير مجرم حرب يجب أن ينتهي مع جورج بوش وعصابة الحرب كلها أمام محكمة جرائم الحرب الدولية في لاهاي.

لست وحدي في اعتبار بلير مجرم حرب، فبعض الصحافة البريطانية الذي عرض مذكراته ردد التهمة، والصحافي البريطاني المشهور جون بيلجر زاد عليها ان بلير مسؤول عن الإرهاب الذي ضرب لندن في 7/7/2005 وقتل عشرات الناس لأنه كان رد فعل على جرائم حكومته. وتحالف معارضة الحرب الذي يضم بعض أبرز وجوه العمل السياسي والفكري في بريطانيا، يطالب بمحاكمة بلير كمجرم حرب منذ سنوات. وقد طالبت بمثل ذلك الحركة الإرلندية لمناهضة الحرب، وأعلنت فتح كتاب تعزية بضحايا حروب بلير. وكانت أسر كثيرين من الجنود البريطانيين الذين قتلوا في هذه الحروب طالبت بمحاكمة بلير كمجرم حرب. وعندما قال إنه يبكي على ضحايا الحرب قيل له فوراً إنها دموع التماسيح.

توني بلير سياسي انتهازي لا يزال رغم جرائم الحرب يجمع الفلوس حتى إن خصومه قدروا ثروته منذ ترك الحكم قبل ثلاث سنوات بحوالى 40 مليون جنيه، لذلك فهو عندما تبرع بأجره عن مذكراته، أو حوالى 4.6 مليون جنيه، للمصابين من الجنود قيل له فوراً إن الفلوس لن تغسل يديه من دماء الضحايا.

وهو بانتهازيته وضع مقدمة خاصة بالطبعة الأميركية من مذكراته، وجدتها قصيدة غزل في أميركا وسياستها وشعبها تضاف الى زعمه في المذكرات أن جورج بوش الابن الذي أجمع العالم على أنه أحمق وجاهل، لا يعرف الكلام بلغته الإنكليزية، وهو عبقري زمانه وذكي وشجاع.

الآن هناك تهمة جديدة تضاف الى سجل بلير الأسود هي أنه سعى لإطلاق عبدالباسط المقرحي المدان في إرهاب طائرة لوكربي، لتحصل شركة النفط البريطانية BP على عقود من ليبيا بحوالى خمسة بلايين جنيه، وهو كان زار ليبيا سنة 2007 عندما وُقعت العقود.

هل ينجو مجرمو الحرب من المحاكمة؟ أرجح ذلك فالضحايا، عرباً ومسلمين، هانوا على أنفسهم وعلى الناس.

الحياة 5/9/2010م

 
 

الإسلام كما يراه الأمير تشارلز

د. وائل مرزا

منذ أسابيع، ألقى ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز كلمة بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيس مركز الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد العريقة. والذي يقرأ تلك الكلمة التي استمر إلقاؤها ساعة كاملة، والموجودة بنصّها في موقعه على الانترنت، يشعر أن الرجل الذي سيصبح رئيس الكنيسة القادم في بريطانيا عندما يصبح ملكاً عليها، يعرف عن جوهر الإسلام أكثر مما تعرف شرائح واسعة من المسلمين.

يبدأ الأمير الحديث عن الإسلام على المستوى الفلسفي فيقول: «إن جهودنا في العالم الصناعي اليوم لا تنبثق حتماً من حبنا للبحث عن الحكمة، وإنما تتركز في الرغبة بتحصيل أكبر عائد مادي ممكن. وهذه الحقيقة تتجاهل تعاليم روحية مثل تعاليم الإسلام الذي يؤكد على أن الجانب الحيواني من حاجاتنا كبشر لا يشكل حقيقة من نحن عليه… ومما أعرفه عن القرآن أنه يصف مراراً وتكراراً العالم الطبيعي على أنه صناعة أنتجتها قوةٌ توحيدية راعية… والقرآن يقدم رؤية تكاملية للكون تشمل الدين والعلم والعقل والمادة جميعاً…»

لا يتوقف الرجل عند مستوى الفلسفة والرؤية وإنما يتحدث بعد ذلك عن الممارسات العملية التي تنبع من تطبيق تلك الرؤية على أرض الواقع. فبعد أن يتحدث عما يجري من تدمير للبيئة والطبيعة بسبب ممارسات الإنسان المعاصرة في ميدان الزراعة مثلاً يقول: «إن هذا (التدمير) يحصل عندما يتم تجاهل ممارسات ومبادئ أصيلة تحمل معاني الحرمة للأرض في منظومة تترسخ فيها قيم التكامل والروحانيات مثل الإسلام. كما كانت تلك القيم يوماً ما راسخةً في التراث الفلسفي للفكر الغربي…».

ثم يستخدم الأمير مفهوم حرمة الأرض ودلالاته العملية في الإسلام لتفنيد مقولة التعارض بين الدين والعلم، فيؤكد أن إدراك ذلك المفهوم يكون غير ممكن «إذا كان كل ما تفعله مبنياً على فهمك للعالم بمنطق الحسابات الرقمية الكمّية (الإمبريقية) فقط… ومن الواضح أن هناك نقطةً ما لا يمكن بعدها لذلك المنطق أن يساعدك في فهم العالم. فهذا المنطق يعمل على تحديد الحقائق عبر اختبارها من خلال السيرورة العلمية. هذا نوعٌ من أنواع اللغة، وهو نوعٌ جيد جداً، لكن هذه اللغة لا تقدر على فهم تجارب مثل الإيمان أو إيجاد معاني الأشياء، كما أنها غير قادرة على التعامل مع قضايا الروح. ولهذا فإنها تعمل بشكل مستمر على إبقاء الروح خارج الصورة. إلا أن لدينا أنواعاً أخرى من اللغات، كما يعرف الإسلام، وهي أنواع أكثر أهليةً بكثير للتعامل مع عالم الروح وقضايا القيم والمعاني. إن كلاً من تلك اللغات يتعامل مع جوانب مختلفة من الحقيقة، وإذا وضعت المنطق الكمّي إلى جانب الفلسفة والإدراك الروحي الإيماني للحياة سوياً، كما فعل ذلك الإسلام في أكثر صوره نقاءً على الدوام، فإن تلك اللغات تصبح متكاملة بطريقة ممتازة. خذ على سبيل المثال ما أحدثه هذا التصور من فارق خلال القرنين التاسع والعاشر (الميلاديين)، خلال ما يسمى بالعصر الذهبي للإسلام، وستجد أنها كانت فترة شهدت نمواً رائعاً للتقدم العلمي، لكن كل هذا التقدم كان مبنياً على فهمٍ فلسفي للواقع راسخٍ في روحانيته ويحتوي على احترام كامل لحرمة الطبيعة والأرض. كانت تلك رؤيةً متكاملة للعالم تعكس الحقيقة اللانهائية بأن الحياة بأسرها متجذرةٌ في وحدانية الخالق. هذه هي شهادة الإيمان، أليست كذلك؟ إنها شهادةٌ كامنة في المعطيات القائمة على التأمل في القرآن عن الحقيقة. إنه مفهوم التوحيد، أو وحدة جميع الأشياء ضمن رعايةٍ تُوفّرها وحدةُ الخالق». وكان من الرمزي المعبّر أن الأمير استخدم كلمات (الحقيقة) و(التوحيد) بلفظها العربي أثناء إلقاء كلمته. ثم إنه أعطى مثالاً كيف أن هذه الرؤية عبّرت عن نفسها لدى المفكرين المسلمين، وضرب مثلاً على ذلك ابن خلدون الذي كان يُعلم بأن «كل المخلوقات توجد وفق نظام مرتب ومنضبط، تكون الأسباب فيه موصولة دائماً بالنتائج».

إن الطرح السابق يعيد إلى الأذهان درجة الرقيّ الكامنة في المنظومة الحضارية الإسلامية حين تقدم للإنسان قواعد التعامل مع الكون من حوله. وهي قواعد لا تكاد تجد مصداقاً عملياً لها في واقع المسلمين المعاصر. من هنا، يذكّر الأمير تشارلز مستمعيه وقراءه بقيمة تلك المنظومة قائلاً: «إن العالم الإسلامي يحوي واحدة من أعظم كنوز الحكمة المتراكمة والمعرفة الروحية الموجودة لدى البشرية. وهي تشكل في نفس الوقت تراث الإسلام النبيل وهدية لا تُقدّرُ بثمن لباقي البشرية. رغم هذا، كثيراً ما يتم استصغار تلك الحكمة الآن بسبب التوجه السائد لتبنّي المادية الغربية، أي الشعور بأنه لتكون معاصراً وحداثياً فإن عليك أن تقلّد الغرب…».

من المفارقات أن يقول هذا الكلام إنسانٌ يمثل معقلاً رئيساً من معاقل الغرب والحضارة التي صنعها، ويحتل مركزاً مرموقاً في منظومتها السياسية والحضارية، فلا يمكن اتهامهُ بأنه رجعيٌ أو ماضوي. لكن من المفارقات أيضاً أن مثل هذا الطرح يمثل يداً ممدودةً من قبل أهل تلك الحضارة لا يبدو أنها تجد من يقابلها بشكلٍ عملي. فالعرب والمسلمون يشكون على الدوام من التيارات الانعزالية الموجودة في أوروبا وأمريكا، إلا أنهم يبدون غائبين عن الساحة عندما تظهر مثل هذه الطروحات الهامة. ولا أعتقد أن أحداً من القراء مثلاً سمع عن هذه الكلمة، فضلاً عن وجود أي مشروع عملي للبناء على ما ورد فيها. في حين أن إعلامنا يعطي أولوية غريبة لكل تصريحٍ فيه إساءة للإسلام مهما كانت صغيرة، ولو صدر عن جهةٍ هامشية في الغرب.

المؤلم أن الرجل يطالب المسلمين في خطابه مباشرة بأن يقوموا بواجبهم وأن يقدموا للبشرية مساهمةً تنبثق من دينهم. فهو يختم كلمته بقوله: «وبكل هذا في أذهاننا، فإنني أحب أن أضع أمامكم ،لو أمكن، تحدياً آمل أن يصل إلى ما وراء هذا الحضور اليوم. وهذا التحدي يكمن في تحفيز العلماء والشعراء والفنانين والمهندسين والحرفيين المسلمين لتحديد الأفكار العامة، ومعها التعاليم والتقنيات الكامنة في الإسلام، والتي تشجعنا على العمل بالانسجام مع الطبيعة وليس ضدها أو في تضاربٍ معها. إنني أدعوكم لاعتبار ما يمكن أن نتعلمه من ثقافة الإسلام التي تمتلك فهماً عميقاً للعالم الطبيعي لمساعدتنا جميعاً في التعامل مع التحديات المخيفة التي تواجهنا».

كيف يواجه المسلمون هذا التحدي؟ السؤال كبير دون شك. لكن عملية الحصول على إجابات تتطلب على الأقل أن يقابلوا الأيادي الممدودة إليهم بشكلٍ عملي دون الاقتصار على شعارات الحوار مع الآخر. وإذا لم يكن لهم أن يقابلوا التحية بأحسن منها كما يطالبهم القرآن، فمن المعيب ألا يردّوها في أقل الأحوال.

المدينة 15/8/2010م

 
 

!عندما ينفصل جنوب السودان سيتمدد الإرهاب

بقلم: د. محمد مورو

علينا ألا ننتظر حتى ينفصل جنوب السودان ثم نفاجأ بأحداث وأوضاع لم نستعدّ لها، سواءٌ على المستوى المصري أو السوداني أو حتى الإقليمي والعالمي.

وبالطبع فإن رصد السيناريوهات المتوقعة عقب انفصال جنوب السودان وتحوله إلى دولة هو جزء لا يتجزأ من الواجب السياسي والاستراتيجي.

لماذا نرجِّح أن جنوب السودان سينفصل، رغم أن من الواضح الآن وفقاً للأوضاع الدولية والإقليمية الجديدة أن ذلك لن يكون في مصلحة جنوب السودان ذاته، ولا في مصلحة الغرب وأمريكا، الذين سعوا دائماً لتحقيق هذا الانفصال؟

كانت القوى الانفصالية في الجنوب تسعى لتحقيق الانفصال، وتلقت تحريضاً ودعماً في هذا الاتجاه من كل من أمريكا والغرب, لأن تجزئة العالم العربي والإسلامي هي جزء من الاستراتيجية الثابتة للغرب، وكذا فإن التآمر على السودان باعتباره الرابط بين العرب وإفريقيا، وبداية الإسلام إلى القارة، كان جزءاً من تلك الاستراتيجية أيضاً، وقد أدت حكومات وأجهزة مخابرات وكنائس وقوى رسمية غربية دوراً كبيراً لتحقيق هذا الانفصال، ونجحت في الضغط على حكومة السودان حتى وقعت اتفاقية ماشاكوس التي تعطي الحق في استفتاء للجنوبيين لتقرير المصير، مع أن مبدأ تقرير المصير في حد ذاته لم تصغه الأمم المتحدة بهدف تفتيت الدول، بل كان في مواجهة الاستعمار.

على أي حال، فإن وصول تلك القوى الجنوبية والإقليمية والعالمية إلى هذا المستوى كان هدفاً تحقق لهم، ولكن الأمور لا تسير عادة بما تشتهي السفن، فكثير من المتغيِّرات قد حدثت، الأمر الذي جعل الانفصال خطراً كبيراً على جنوب السودان ذاته، وعلى القوى التي طالما دعمت الانفصال والتجزئة، وهذا هو المستجد الجديد في الواقع الدولي والإقليمي. ففي السنوات الأخيرة أعلنت أمريكا الحرب على الإرهاب «الإسلامي»، واعتبرته الإدارة الأمريكية والغرب كله الخطر الأكبر على مستقبل الحضارة الغربية واستقرار العالم، وبديهي أن هذا الإرهاب يستفيد من أي فوضى وعدم استقرار وينتشر ويتوغل في هذا المناخ، وإذا كانت الصومال مفككة والقوى الفاعلة فيها أصبحت تعلن أنها مع  تنظيم القاعدة، وكذا فإن اليمن يعاني من مخاطر التفكك وبه نشاط ملحوظ للإرهاب والقاعدة، فإذا أضفنا إلى ذلك تزايد نشاط الإرهاب في شمال إفريقيا خاصة المغرب والجزائر وموريتانيا والنيجر، وإذا ما انفرط عقد السودان.. وصل الإرهاب بداهة إلى دارفور وتشاد. وإذا أدركنا أن انفصال الجنوب يعني بداية ظهور حركات وقلاقل قبليَّة، وأن القتال بين الجنوبيين أنفسهم مرجَّح، وأن هذا سوف يمتد إلى دول أخرى مثل الكونغو وكينيا وإثيوبيا وأوغندا, لأن هناك امتدادات قبلية من الجنوب السوداني إلى تلك الدول، أي أن المسألة ستصبح نوعاً من الفوضى الشاملة، ستكون مرتعاً للإرهاب.. وهكذا فإن انفصال الجنوب لن يعني تحقيق هدف أمريكي وغربي، بل يعني زيادة مناخ الإرهاب، ربما لأن الإرهاب أصبح هو العدو الرئيسي لأمريكا والغرب، فإن الاستراتيجية التقليدية للغرب وأمريكا في تفكيك وتجزئة العالم العربي والإسلامي قد تغيرت ولو مؤقتاً.

ولكن رغم أن حظر تقسيم الجنوب ذاته وامتداد القلاقل إلى الدول المجاورة وعدم امتلاك هذا الجنوب منفذاً بحريّاً وغيرها من الأمور التي كان من المفترض أخذها في الاعتبار، إلا أن القوى الانفصالية في الجنوب لا تزال تعيش في حسابات ما قبل اعتبار أمريكا الإرهاب عدوّاً رئيسيّاً، وتتصور أن الدنيا لا تزال كما هي منذ عشر سنوات، ومعها أيضاً قوى كنسية غربية وقوى داخل أمريكا تضغط على المؤسسة لمساعدة الدولة الوليدة.

وفي الإطار نفسه، فإن خطر انفصال الجنوب سيصيب مصر، لأنه سوف يزيد في تعقيد موضوع مياه النيل، ولكن مصر لم تفعل ما يمنع الانفصال. أما حكومة السودان فإنها مستريحة للانفصال, لأنه سيخلصها من أعباء كبيرة، ثم إنها تمتلك نظاماً إداريّاً متماسكاً، ولديها ثروات بترولية ومعدنية ظهرت أخيراً، أي أن وضعها سيكون أفضل في حالة الانفصال، ومن ثم فإنها لن تبذل الجهد الكبير لمنع الانفصال.

وهكذا فإن من المرجح أن يحدث الانفصال، لأن الجميع يعتمد على حسابات استراتيجية قديمة، ثم نفاجأ بسلسلة من الأحداث في اتجاه المزيد من التجزئة والفوضى في الجنوب وفي الكونغو وأوغندا، بل وكينيا وإثيوبيا، ثم تشاد ودارفور، ولن ينفع وقتئذ قدوم قوات أمريكية أو إقليمية لمنع الانتشار المتوقع للإرهاب، وهذه رسالة إلى كل من يهمه الأمر قبل فوات الأوان.}

 الأمان 27/8/2010م