RSS

الصلح بين الزوجين

مصطفى محمد الطحان 

قبل الحديث عن الخلاف بين الزوجين.. وعن التحكيم بينهما.. أحب أن أعطي مقدمة لهذا الموضوع.

مقدمة

للأسرة ركنان: الرجل والمرأة.

فكيف يختار كلاهما الشطر الآخر؟

وما هي مقاييس هذا الاختيار؟

عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما استفاد المؤمن – بعد تقوى الله عز وجل- خيراً له من زوجةٍ صالحة: إن أمرها أَطاعته، وإن نظر إِليها سَرَّته، وإن أَقسمَ عليها أَبرَّته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)( ابن ماجه).

والنفس تميل إلى الجمال.. وتشتهي المرأة الجميلة. وحتى لا يترك الرجل لضعفه فيسقط في متاهات الجمال أو المال، بيّن له الإسلام الطريق السليم في اختيار شريكة حياته.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقرا، ومن تزوج امرأة لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة ليغض بها بصره، ويحصّن فرجه أو يصل رحمه، بارك الله له فيها، وبارك لها فيه)( رواه ابن حبان).

وليست هذه دعوة ضد الجمال.. فحب الجمال فطرة.. والله جميل ويحب الجمال.. والتجمل من خصائص المرأة . إنما المقصود أن لا يفتش الإنسان عن الجمال أو الحسب أو المال وحده على حساب المواصفات الأخرى.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء ذات دين أفضل)( رواه عبيد بن حميد).

فليس الزواج صفقة تجارية تُراجع فيها الأرصدة..! وليس الزواج مجرد متعة حسية، تستعرض فيها المرأة فتنتها وجمالها في ميدان العرض.. !

بل الزواج توازن بين كل هذه العوامل مع تركيز شديد على جانب الأخلاق والدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)( رواه البخاري ومسلم).

ومع ذلك يحض الإسلام كلاً من الرجل والمرأة على السواء أن يحسنا الاختيار.. وأن يدققا فيه.. فليست القضية أياماً تنقضي ويعود كل فريق إلى رحاله.. بل بقية العمر يقضياه معاً في سعادة غامرة تملأ قلوبهم وترفرف بأجنحتها على بيتهم، أو شقاء مستعر يدمر قلوبهم ويعصف بسلامهم وأمنهم. عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من أصابهن فقد أُعطي خيرَ الدنيا والآخرة: قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجةً لا تبغيه حُوباً في نفسها وماله) (رواه الطبري بسند جيد).

ومعظم النكسات التي تصيب قلوب المتزوجين، وتنكد عليهم، وقد تعصف بهم مرجعها إلى سوء الاختيار والانبهار ببعض الجوانب على حساب الجوانب الأخرى.

فقد يتم الاختيار نتيجة إعجاب سريع بموقف معين. وقد لا يتاح للخاطب أن يرى خطيبته إلا رؤية قصيرة، لا تعطي لأي منهما الفرصة في الاختيار السليم. وقد تكون نتيجة لمواقف عاطفية عابرة أو نزوة قاصرة، تنتهي مع انقضاء النزوة أو برود العاطفة. والصحيح أن يدخل الشاب البيوت من أبوابها.. وأن ينظر إلى المرأة فيمعن النظر.. ويدقق في شكلها.. ويدرس أوضاعها..

فعندما خطب المغيرة بن شعبة امرأة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: (اذهب فانظر إليها، فانه أحرى أن يؤدم بينكما)( الترمذي).

ونصح الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً خطب امرأة من الأنصار، فقال له: (انظر إليها، فان في أعين الأنصار شيئا) (مسلم).

وكان جابر بن عبد الله يختبىء لمن يريد التزوج بها، ليتمكن من رؤيتها، والنظر إلى ما يدعوه إلى الاقتران بها(أبو داوود).

بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل بعض النسوة ليعرفن بعض ما يخفَى من العيوب، فيقول لها: (شميَّ فمهـا، شميَّ ابطيها، انظري إلى عرقوبيها).

وليست العناية بالمظهر فقط.. بل وبالمخبر أيضا. قال ابن الجوزي: ومن قدر على مناطقة المرأة أو مكالمتها فليفعل(صيد الخاطر – ابن الجوزي).

إلى هذه الدرجة راعى الإسلامُ هذا الأمر.. بل وهيّأ أسبابه.

هذا بالنسبة للشاب الخاطب.. وكذلك يصح مثله للشابة أن تنظر إلى ما يدعوهـا إلـى قبول خاطبهــا(المجموع شرح المهذب للشيرازي 15 : 295).

قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد) (الترمذي).

وما لم يتفهم أولياء أمور الشباب والبنات هذه السعة في دين الله، فيتيحوا لأولادهم وبناتهم، مجال الرؤية عن قرب، والحديث المتبادل.. والجلسات المحتشمة التي تسبق الاختيار، في إطار الفضيلة والأخلاق الإسلامية.. ما لم يفعلوا ذلك فلن تكون النتائج حسنة لأبنائهم الأولاد والبنات.

لقد انقضى ذلك الزمن الذي كان الأب يختار لابنه أو لابنته شريك حياته.. وينبغي أن ينقضي، للتقليل من المفاجآت والمآسي التي تدمر حياة الأسر الغضة الصغيرة.

وعلى الآباء الذين يفهمون الدين على أنه تزمتٌ ورجعية، ويؤمنون بأن الفتاة إنسان قاصر لا يخرج إلا مرة للحياة من رحم الأم ومرة للاستعباد في بيت الزوجية ومرة ثالثة للقبر.. عليهم أن يراجعوا أنفسهم، ويعيدوا تربيتها على أساس الهدي الرباني والنبوي الكريم.

إن معظم الزيجات الفاشلة.. كان سوء الاختيار من أهم أسباب فشلها. كما كان سوء تصرف الآباء من أهم أسباب سوء الاختيار.. فليتق الآباءُ اللهَ في أبنائهم وبناتهم.

ومن هنا، فقد شدّد الإسلام على ضرورة اختيار المرأة الصالحة ليكون البيت منسجما صالحا.. ويعيش الأبناء سعداء في كنفه، فلا تقع أعينهم على معصية.. أَوَ ليست المرأة الصالحة التي تبني بيتاً صالحاً.. ومجتمعا صالحا.. من أكبر النعم التي يحق للرجل أن يحمد الله عليها؟. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)( الترمذي).

مواصفات الزوجة الصالحة، وللزوجة الصالحة مواصفات، فهي:

تطيع زوجها

والبيت المسلم، مجتمع مصغر يقوم على: المودة والرحمة، والسكن النفسي والحسي، والمساواة من الناحية الإنسانية، قال تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة)( البقرة – 228).

(وهذه الدرجة مفسرة بقوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء)( النساء – 34)، فالحياة الزوجية هي حياة اجتماعية، ولا بد لكل مجتمع من رئيس، لأن المجتمعين لا بد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يرجع إلى رأيه في الخلاف، لئلا يعمل كلٌ ضد الآخر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختل النظام، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب شرعاً بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف) (حقوق النساء – محمد رشيد رضا، ص- 38).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وحفظت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت الجنة) (رواه أحمد).

وتسرّه إذا نظر إليها

تسرّه بجمالها، وحسن منظرها، وتأنق ملبسها، وطيب رائحتها.

وتسرّه بترتيب منزلها، وتحويل بيتها إلى سكن حقيقي يأوي إليه الرجل المكدود. فيجد فيه: الحب والحنان، والراحة والأمان.

وتسرّه بالعناية بأطفالها: مظهرهم ومخبرهم، مطعمهم ومشربهم، وبكل شيء من شأنهم.

وتسرّه بجمال أدبها، وكريم خلقها، وحسن تبعلها، وبرّها زوجها، ورعايتها له في قلبه وشعوره وماله وعرضه.

وتسرّه بالتزامها بأوامر دينها، في صلاتها وصيامها، في تصدقها وإحسانها (فالصالحـات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله)( النسـاء – 34).

من هذه النظرة المؤنسة، والسكن الودود، والرحمة والمودة، يتولد الحب الذي يشعر فيه الرجل والمرأة براحة الجسم والقلب، واستقرار الحياة  والمعاش، وأنس الأرواح والضمائر، واطمئنان الرجل للمرأة والمرأة للرجل على السواء.

قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)( الـروم – 21).

وإن أقسم عليها أبرته

وهو تأكيد لمعنى (إذا أمرها أطاعته).. أو هو درجة أعلى في الطاعة.. فطاعة الزوجة لزوجها مجلبة للهناءة والرضا، والمخالفة تولد الشحناء والبغضاء، وتوجب النفور، وتفسد عواطف المودة، وتنشىء القسوة في القلوب.

وما من امرأة نبذت طاعة زوجها إلا حل بها الشقاء ولحقها البلاء. وكلما زادت طاعة الزوجة لزوجها ازداد الحب والولاء بينهما، وتوارثه أبناؤهما، لأن الأخلاق المألوفة إذا تمكنت صارت ملكات موروثة: يأخذها البنون عن آبائهم، والبنات عن أمهاتهن(المرأة في التصور الإسلامي – عبـد المتعال محمد الجبري، ص- 93).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تمسهم النار: المرأة المطيعة لزوجها، والولد البار بوالديه، والعبد القاضي حق الله وحق مولاه).

وقال أيضاً: (جهاد المرأة حسن التبعّل) أي إطاعة الزوج. وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء أفضل؟ قال عليه السلام: (التي تطيع زوجها إذا أمر، وتسره إذا نظر).

ولن يسر الرجل بمنظرها.. إذا كانت عنيدة مشاكسة عاصية متحدية!!

ومهما حسنت أخلاق الزوج أو الزوجة فلا بد من حدوث بعض الأمور التي تكدر العلاقات بين الحين والحين.. وهنا تتجلى الأخلاق.

قال أبو الأسود الدؤلي لامرأته: (إذا رأيتني غضبت فرضَّني، وإن رأيتك غضبت رضّيتك، وإلا لم نصطحب !).

وهنا يتجلى معنى: إذا أقسم الرجل على امرأته أمرا فعليها الوفاء والطاعة.. وخير النساء المبقيةُ على بعلها، المؤثرة راحته على راحة نفسها.

وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله

روى ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، وقرأ قوله تعالى (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله)( النساء-34).

(فالغيب هنا هو ما يستحيا من إظهاره، أي: حافظات لكل ما هو خاص بأمر الزوجية الخاصة بالزوجين، فلا يُطلِعُ أحدٌ منهما على شيء مما هو خاص بالزوج.

ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة ولا سيما حديث الرفث، فما بالك بحفظ العرض.

وعندي أن هذه العبارة أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة، تقرؤها خرائد العذارى جهراً، ويفهمن ما تومىء إليه مما يكون سرا، وهن على بعدٍ من خطرات الخجل أن تمسّ وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها، فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات، التي تدفع الدم إلى الوجنات، ناهيك بوصل حفظ الغيب (بما حفظ الله) فالانتقال السريع من ذكر ذلك الغيب الخفي، إلى ذكر الله الجلي، يصرف النفس عن التمادي في التفكير بما يكون وراء الأستار، من تلك الخفايا والأسرار، وتشغلها بمراقبته عز وجل. فالمرأة الصالحة لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظةً من الخيانة، قوية على حفظ الأمانة) (حقوق النساء في الإسلام- محمد رشيد رضا، ص-49).

هذا معنى أن تنصحه في نفسها.. أما أن تنصحه بماله فمعناه أن تحفظ وتصون مال زوجها. فلا تعطي أحداً من أهلها أو من غيرهم شيئا من مال زوجها أو متاعه، إلا إذا أذن لها.. لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تعطي شيئا من بيته إلا بإذنه، فان فعلت ذلك كان له الأجر وعليها الوزر) (رواه البيهقي).

الصلح بين الزوجين

ولكن لماذا قدمت هذا الموضوع، بهذه المقدمة الطويلة؟ ذلك لأن حسن الاختيار، ومراعاة شروطه، وأن يتعرف الشاب على الشابة شكلاً وموضوعاً، وأن يناطقها ليتعرف على فكرها.. وحسن تقديرها للأمور.. هو الذي يقلل الخلافات أو ينهيها، فقد تعرف كل من الزوج والزوجة على الآخر، وفهم شخصيته، فيفعل ما يسره.. ويتجنب ما يسيئه.

بالرم من ذلك.. فقد تجدّ ظروف.. يجد فيها الزوج والزوجة نفسيهما مختلفين. فكيف يتم التوفيق بينهما؟

من تجاربي

أنا ‘عيش في بيئة صالحة.. ولي معارف كثيرون.. وكنت، في معظم الخلافات عند الآخرين أشارك في حلها قدر الإمكان.. وطالما انتدبت من قبل القضاء لأكون أحد الحكمين في إصلاح ذات بين الزوجين المختلفين.. وهذه التجارب أوصلتني لبعض الآراء حول الموضوع.. أذكرها هنا للفائدة.

1- في مرة التقيت مع المحكم الآخر بحضور والد الزوجة.. وعندما استمعنا لوالد الزوجة وجدناه خصماً لا يريد الصلح.. فطلبنا منه أن يتركنا لوحدنا.. واتفقت مع الحكم الآخر أن نعطي الرجل وزوجته فرصة ليتحدثا معاً.. وقد يتراضيان.

وافق الأب والأم بصعوبة ولكنهما وافقا أخيراً.. نصف ساعة فقط بدلت الأمور بين الزوجين.. وعلمت بعدها أن أسرة الزوجة تريد الطلاق وأن الزوج والزوجة لا قضية عندهما.. ويريدا استئناف رحلة العمر مع بعضهما.

ذهبت إلى القاضي في بيته – وكان صديقا صالحا- وسألته ما رأيه بالأمر فقال: لابد من الطلاق.. فإن محامية الزوجة مصرة على ذلك.

فقلت له: هل تتحمل المسؤولية أمام الله أن تطلق دون أن تسأل الزوجة، وتكتفي بقول المحامية؟ ورأى قولي معقولا.. وفي الجلسة التالية طلب حضور الزوجة أمامه.. سألها القاضي: هل تريدين الطلاق؟ قالت: بل أريد زوجي وأبنائي.. وسأل الزوج، فقال: الشيء ذاته.

وثار أخ الزوجة ووالدها.. وأدرك القاضي الأمر.من هذه القصة أقول للحكمين: لا تتركوا الخلافات بين أهل الزوجة وأهل الزوج فقد يكون الخلاف بينهما.

2- قوله تعالى: (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما).. أي إذا كان الحكمان عادلان.. يريدان الإصلاح حقاً.. يوفق الله بينهما.. هذا قول ربنا، ولا قول غيره.

والخلاصة

1- إن حسن اختيار الزوجة، والالتزام بالمواصفات التي حددها الدين الحنيف في اخيتار الزوج والزوجة.. من الأمور التي تقلل نسبة الخلاف إلى الحد الأدنى.. وتكون عندها كما قال سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم عن خديجة: (ولقد رزقت حبها)، وعندما توفيت سمي ذلك العام، بعام الحزن.

2-  لابد من إبعاد الأسرة (أسرة الزوجة وأسرة الزوج) عن القضية.. فقد يكونوا هم الخلاف.

3-  في حالة الخلاف.. لابد من اختيار حكمين صالحين عاقلين لمعالجة الأمر، فإن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما.

 

والحمد لله رب العالمين

28/2/2011م

 
Leave a comment

Posted by on March 14, 2011 in خواطر

 

عندما بكى الرئيس البرازيلي

قصة الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا الذي انتهت ولايته قبل أيام، مع البكاء هي قصة طويلة ورائعة وتبعث على البكاء أيضاً. فخلال آخر خطاب له كرئيس للبلاد، أجهش لويس أناسيو لولا دا سيلفا، وهو اسمه الكامل بالبكاء ثلاث مرات، لم يكن سبب أحدها بالتأكيد مغادرته لمنصب الرئاسة.

دا سيلفا الذي يلقب بـ “ابن البرازيل”  بكى أمام حشد بمسقط رأسه في ولاية بيرنامبوكو التي ولد فيها فقيراً قبل 65 عاماً. وذرف هذا الرئيس الفقير الدموع أولاً حينما استحضر ذكريات نشأته وهو طفل فقير في إحدى المدن الريفية القريبة من مدينة جارانهونس بشمال البرازيل إلى أن وصل لرئاسة ثامن أكبر قوة اقتصادية في العالم.

الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا

ثم بكى دا سيلفا ثانية عندما عبر شاعر من سكان المنطقة عن عرفانه بجميل “الرئيس الذي حظي بأكبر قدر من محبة شعبه”. وأخيراً بكى دا سيلفا حينما استحضر ذكرى فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2002 بعد 3 هزائم متتالية في 1989 و1994 و1998 قائلاً “خسرت لأن جزءاً من الفقراء لم يكن لديهم ثقة فيَّ حينذاك”.

وعلى أية حال فان بكاء دا سيلفا ليس جديداً، حيث أنه بكى مرتين قبل ذلك خلال مقابلة تلفزيونية عندما تذكر قرضاً منحته الحكومة لإحدى شركات إعادة تدوير المخلفات. وهذا الرئيس، الذي بلغت شعبيته 80 %، قام بتسليم قرض إئتماني خلال ولايته الأولى بقيمة112.1 مليون دولار منحها البنك الوطني للتنمية الاقتصادية لأكبر جمعية تعاونية تضم جامعي القمامة وتدويرها في ساو باولو. وجامعو القمامة هم بالطبع رفاق دا سيلفا السابقين قبل أن يصبح رئيساً للبرازيل.

دا سيلفا الرئيس، أتى من العمل كماسح للأحذية في ضواحي ساوباولو، وكصبي بمحطة بنزين، وخراطاً، وميكانيكي سيارات، وبائع خضار. ولولا وهي كلمة برتغالية تعني الكالمار أو سمك الحبار متحدر من أسرة فقيرة، وهو من أبرز الزعماء السياسيين الذين خرجوا من رحم الفقر والتهميش إلى قمة هرم السلطة فقد وُلد في 27 أكتوبر/تشرين الأول 1945، بمدينة جارانهونس الفقيرة حيث عاش الهنود الحمر آلاف السنين، قبل أن يأتي البرتغاليون، ليختلطوا ويتزاوجوا معهم، منتجين ما يسمى بـ “الميستيزو” أي “الخليط الأسمر”. وكان دا سيلفا الطفل السابع لعائلته المكونة من 8 أطفال تركهم والدهم العنيف لأمهم الأمية، فاضطرت العائلة أن تسكن في غرفة واحدة خلف ناد ليلي، تنبعث منه الموسيقى الصاخبة وشتائم السكارى. غير أن الأم أريستيديس التي بكى عليها دا سيلفا حين وفاتها،كانت تتمتع بعزم كبير وأسهمت في تربية وتكوين شخصية دا سلفيا، الذي قال عنها «لقد علمتني كيف أمشي مرفوع الرأس، وكيف أحترم نفسي حتى يحترمني الآخرون» صور. وقد اضطر دا سيلفا للتوقف عن تحصيله الدراسي في الصف الخامس الابتدائي بسبب المعاناة والفقر. وفي سن الـ 19، خسر لولا الأصبع الصغير في يده اليسرى أثناء العمل في مصنع لقطع غيار السيارات، وهو ما دفعه للمشاركة في اتحاد نقابات العمال ليدافع عن حقوقه وحقوق زملائه.

وهذا الرئيس الفقير وغير المتعلم، واليتيم بالمعنى المجازي، استطاع خلال 8 سنوات من الحكم، وضع بصمته على اقتصاد البرازيل التي ستصبح في عام 2016 أي قبل الألعاب الأولمبية التي ستقام فيها ولربما قبل، ذلك خامس اقتصاد في العالم. وهذا الرئيس الفقير هو الذي جعل البرازيل ودولاً أخرى في أمريكا اللاتينية، تعترف بدولة فلسطين متحدياً إسرائيل وأمريكا والصهيونية العالمية، وكل الجهات التي تقف خلفها.

نادراً جداً ما يبكي الرؤساء، وقلما يكون بكاؤهم صادقاً كبكاء البرازيلي الفقير دا سيلفا الذي لا يحمل أي شهادة  سوى شهادة الوفاء والحب لشعبه، مقرونة بشهادة الإصرار على خدمته ورقيه وتحسين أحواله، وأيضاً بشهادة الزهد في السلطة والمنصب، وشهادة حب الرفاق القدامى من الفقراء. ما أحوجنا إلى رؤساء يبكون بصدق، أليس كذلك؟

12/3/2011م

 

الحوار الأخير بين الأستاذ خيرت الشاطر والعادلى وزير الداخلية المصرية السباق

بعد قضائه أكثر من أربع سنوات من السنوات السبع التي حُكم بها عليه النظام البائد، وقبل مغادرة المهندس خيرت الشاطر، نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، سجن طره، استقبله مأمور السجن في مكتبه ليهنِّئه ويودِّعه، وقال له: أعرف أنكم ظُلمتم كثيرًا، وأنا على استعداد لتلبية أية خدمة تطلبونها في أي وقت.

الأستاذ خيرت الشاطر

لمعت في رأس الشاطر فكرة، فقال للمأمور: أريد منك خدمةً شخصيةً صغيرةً، وعلى الرغم من دهشته لأنه لم يتعوَّدْ منهم على الطلبات الشخصية، فإنه أجابه على الفور: تحت أمرك. قال الشاطر: أريد زيارة حبيب العادلي.

ردَّ المأمور: ألا تعتقد أن هذا الأمر خارج عن صلاحياتي؟! أجابه الشاطر: يمكنك أن ترسل للعادلي في زنزانته من يستأذنه.

قبل المأمور الفكرة، واستدعى أحد ضباطه، وطلب منه أن يذهب للعادلي، وكانت المفاجأة أن هذا الضابط عاد على الفور يحمل الموافقة التي أدهشت الجميع.

فُتحت الزنزانة، وسُمح للشاطر بالدخول على العادلي، ودار بينهما الحوار التالي:

الشاطر: السلام عليكم.

العادلي (يحدق في الشاطر): رغم كل هذه السنوات لم تتغير ملامحك كثيرًا، فقط ازداد الشيب في شعرك، كنت أنظر إليك من خلال كاميرات لاظوغلي أثناء تحقيقات أمن الدولة معك، (يضحك بأسى) وبعد هذه الزيارة لن أراك إلا من خلال التليفزيون المصري، أنت تذكِّرني بيوسف الصديق.

حبيب العادلي وزير الداخلية المصري السابق

الشاطر: أنا جئت..

العادلي: (مقاطعًا) أعرف أنك تريد أن تشمت بي، ولهذا السبب سمحت لك بزيارتي.

الشاطر: أولاً: الشماتة ليست من أخلاقنا، فهذه ليست أول مرة يدخل معنا السجن من قام بسجننا، ولعلك تذكر صلاح نصر ورفاقه الذين لم نشمت فيهم، ثانيًا: لماذا سمحت لي بالزيارة وأنت تظن أنني سأشمت بك؟!

العادلي: لأن ما حدث لي كان بسببكم.

الشاطر: نحن؟!

العادلي: لقد كنت أقوى وزير داخلية في العالم كله قديمًا وحديثًا، أكثر من مليون ونصف المليون رجل شرطة ينتظرون إشارة من أصبعي في أية لحظة، لم يكن يُعيَّن خفير أو مدير أو وزير، معيد أو عميد، إلا بإذن كتابي صريح من رجالي.. الرئيس لا يثق إلا في تقاريري حتى لو كانت ملفَّقةً، وما مَدْحُه لنا قبل الأحداث الأخيرة بيومين فقط إلا دليل على ذلك، ثم يحدث لي ما حدث، أنا على يقين أنها لم تكن قوة عادية أبدًا أبدًا.

الشاطر: ماذا تقصد؟!

العادلي: إنها السهام التي لا تخطئ.. إنها دعواتكم التي لم أستطع منعها أو التصدي لها، ولهذا سمحت لك برؤيتي على هذه الحال، لتشمت بي لعل هذا يرضيك ويجعلك تكف عن الدعاء عليّ.

الشاطر: ولماذا تظن أن دعائي هو الذي سبب لك هذا؟!

العادلي (يضحك بأسى): ألا تعرف التهمة التي أدخلتني هنا؟! إنها نفس التهمة التي لفقتها لك وأدخلتك بها هذا السجن: غسيل الأموال، على الرغم من أن هناك تهمًا أفظع يُحقق معي فيها كقتل المتظاهرين، لكنني لم أدخل في البداية إلى هنا إلا بتهمة غسيل الأموال، هل تريد دليلاً أكثر من هذا؟

الشاطر: هذه حكمة الله تعالى التي يجب أن نتعلم منها.

العادلي: لكنني لم أتعلم، لم أتعلم مما حدث للوزراء من قبلي: النبوي إسماعيل، زكي بدر، عبد الحليم موسى، وصولاً إلى هامان.

الشاطر: ما عليك الآن إلا التوبة.

العادلي: أظن أن توبتي غير مقبولة، فهي كالتوبة التي أعلنها فرعون حين أدركه الغرق.

الشاطر: أكثر من الاستغفار، فرحمة الله واسعة.

العادلي: أحس كأن الملائكة تضع طينًا في فمي، فأعجز عن النطق بكلمات الاستغفار.

الشاطر: من داوم قرع الباب فُتح له.

العادلي: أعطني مصحفك، لعلي أفهمه كما فهمتموه أنتم.

الشاطر (يخرجه من جيبه ويعطيه له): تفضل، لكنك لم تعرف حتى الآن لماذا جئتُ إليك.

العادلي: لماذا؟!

الشاطر: جئت لأخبرك أنني سامحتك، وليت الأمر بيدي، كنتُ طلبت من الشعب المصري كله أن يسامحك.

العادلي: بعد 12 سنة قضيتها في السجون، تأتي وتقول لي هذا الكلام.. الوداع يا أنبل الناس.. الوداع.. (يمد العادلي يده مصافحًا ثم يحتضن الشاطر، فيغلبهما البكاء، العادلي يبكي ندمًا، والشاطر يبكي تأثرًا). 

12/3/2011م

 
 

عمارة يفضح خطايا مبارك

قال د. محمد عمارة المفكر الإسلامي: إنه عاصر رحيل أنظمة عديدة في مصر بدءا من الملك أحمد فؤاد والملك فاروق ومن بعدهما، إلا أنه لم يشهد نظاما رحل بهذه الطريقة المذلة والمهينة مثل التي رحل بها الرئيس السابق حسني مبارك.

الدكتور محمد عمارة

وأكد أن ثورة 25 يناير سبقت في شرفها كافة الثورات الماضية، بعد أن طوت صفحة مليئة بالاستبداد والظلم والفجرالسياسي الذي كان يخدم دولة الصهاينة بزعامة مبارك، مستدلا على قوله بتصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قال فيه “مبارك كان كنزا للأمن الإسرائيلي”، معتبرا أن هذا التصريح كان عارا على مصر لو استمرت تحت حكم هذا الطاغية، ومن ثم كان يجب أن يرحل ويُنحى من منصبه.

وأشار عمارة إلى أن الولايات المتحدة ما كان لها أن تدمر العراق وتنهب ثرواته وتدمر أفغانستان وتنشر فيها حملات التنصير وتعبث في الصومال ولبنان إلا بتحريض من نظام الرئيس السابق حسني مبارك، بعد أن وشى لبوش الابن الذى دخل العراق تحت الراية الصليبية وأقر عبث زيناوي في الصومال رغم محاربته لحصة مصر من النيل، بعد أن قال مبارك” إننا نتفهم طبيعة الحرب الأثيوبية في الصومال”.

حسني مبارك

وتابع: “لقد تواطأ نظام مبارك مع الكيان الصهيوني على ضرب قطاع غزة وحصارها، ولم يفعل مبارك ذلك إلا كرها في الإسلام، خاصة بعد صمته أمام الممارسات الصهيونية لهدم المسجد الأقصى وتهويد القدس، حيث تاجر أركان هذا النظام مع الصهاينة في نهب ثروات الأمة من الغاز بعٌشر ثمنه العالمي، وتاجر مع الصهاينة في بيع الأسمنت والحديد المصري لبناء المستوطنات الإسرائيلية في القدس.

وأوضح أن الدليل الواضح لمحاربة مبارك للإسلام أنه لم يٌغلق مسجد بعد الصلاة على مدار التاريخ الإسلامي في مصر بدءا من عهد عمرو بن العاص وحتى وقتنا المعاصر إلا في عهد هذا النظام السابق، لافتا إلى أن هذا النظام كان يتابع المباريات والحفلات الصاخبة ولا يتابع مؤتمرا إسلاميا واحدا، بالإضافة إلى تعيين خطباء المساجد وعمداء الكليات من قبل أمن الدولة، وهو ما لم يحدث أيام الاحتلال البريطاني على مصر.

ودلل عمارة على فساد نظام مبارك ببيعه المصانع المصرية بثمن أقل من سعر الأرض التي بنيت عليها، بالإضافة إلى بيع الأهرامات الصناعية التي بناها طلعت حرب وإفساد الزراعة المصرية بالمبيدات المسرطنة الإسرائيلية، وزراعة القطن المصري بأيدٍ إسرائيلية في أفريقيا لصالح الصهيونية رغم أهميته للاقتصاد القومي على مستوى الفرد والمجتمع، لمحاربة أرزاق المصريين، حتى اضطر بعض الشباب المصري للعمل في الجيش الإسرائيلي بسبب ضيق الرزق.

وأضاف المفكر الإسلامي أنه في عهد مبارك ارتفع عدد قوات الأمن المركزي وأفراد أمن الدولة إلى 4 ملايين وهو ما يزيد على عدد الجيش المصري بضعفين، وذلك لقهر المصريين في سلاخانات التعذيب وتزوير إرادة الأمة في الانتخابات، مشيرا إلى أن وزير الداخلية السابق حبيب العادلي كان يهدد مديري أمن المحافظات بأن مرشح الوطني الذي يرسب في الانتخابات سوف يكون سببا في عزلهم من مناصبهم.

وقال عمارة: إن الأمن المصري في عهد مبارك لم يكتف بالقوة الباطشة لديه ولكنه استعان بالبلطجية لتعذيب المصريين في المظاهرات والانتخابات وتزوير إرادة الأمة، موضحا أن “الشواذ والشماشرجية والمخنثين والزنادقة” احتلوا وزارة الثقافة وسيطرت عصابتهم عليها بحماية أمن الدولة حتى أنهم كانوا يوزعون أموال الدولة على أنفسهم من خلال ما تسمى بجوائز الدولة التقديرية.

ونوه إلى أن أحد الزنادقة كتب “أن الله لم يخلق الإنسان وأن وجود كلمة الله لا مبرر لها بل يجب أن يحل محلها الإنسان وأن اتصال النبي بالوحي مثل اتصال الشاعر بالجن” ومع ذلك تٌدرس كتبه للطلاب ونال إحدى جوائز الدولة على يد هذه العصابة المنحلة.

وطالب عمارة المصريين بالتيقظ، خاصة في هذه المرحلة، محذرا من الانقلاب على هذه الثورة البيضاء التي لم يشهد مثلها في التاريخ أو سرقتها على يد المنافقين الذين مازالوا في مناصبهم، موضحا أن الإصلاح لن يتم إلا بالتطهير من هؤلاء الزبانية كما جاء في قول الفقهاء “التخلية مقدمة على التحلية”، وهو ما يعني أنك إذا أردت أن تبني فلابد من إزالة الأنقاض وتطهير الأرض، مؤكدا أن التطهير لن يتم إلا بإسقاط هذا النظام كاملا بعد أن سقط رأسه.

أخبارك نت 20/2/2011م

 

نجم الدين اربكان في ذمة الله

مصطفى محمد الطحان

 وصلنا النبأ الفاجع بوفاة القائد الإسلامي الكبير نجم الدين اربكان .. زعيم حزب السعادة في تركيا.. بعد صراع مع المرض في إحدى مستشفيات أنقرة.

مصطفى الطحان مع الراحل الأستاذ نجم الدين أربكان

حاولت زيارته في المستشفى.. فلم أتمكن فقد كان الأطباء المشرفون على علاجه يمنعون زيارته..

كنت على اتصال بمدير مكتبه.. رجاء أن يخبرني بخروجه من المستشفى حتى أسارع إلى زيارته.. ولكن ذلك لم يتم، فالأعمار بيد الله. وها هو اربكان القوي في جسمه الحاسم في مواقفه، يستسلم للموت رحمه الله.

كان لابد لي من كتابة كلمة عن نجم الدين اربكان.. ولا أعتقد أن كل الكلام يمكن أن يوفي هذا الرجل حقه.. قرأت ما كتبوا عنه.. فرأيت كلاماً قصير القامة.. ممزوجا بأحقاد العلمانية.. على الرجل الذي أفنى عمره وهو ينافح عن الإسلام..

بدأت علاقتي بالرجل في وقت مبكر من عام 1970م، فقد زرته في بيته في أنقرة أستطلع منه أخبار الحزب الجديد الذي أسسه تحت اسم حزب النظام الوطني.. حدثني الرجل عن حزبه.. وعن استقبال الأتراك للحزب الجديد، لمبادئه وقيادته.. وحدثته عن الحركة الإسلامية في المنطقة العربية.. فوجدنا تطابقا كاملاً بين النظام والإخوان.. دون سابق اتفاق.

منذ ذلك اليوم.. بدأ اللقاء ولم ينته إلا بوفاته رحمه الله رحمة واسعة.

لم تستطع العقلية التي تحكم تركيا في جيشها أو إدارتها أن تستوعب مبادئ حزب النظام.. فهي تتحدى في رأيهم علمانية أتاتورك.. التي يدافع عنها الجميع.. فحلّوا حزب النظام قبل أن يتم عاماً واحداً على تأسيسه بعد إنذار من قائد الجيش محسن باتور.

وفي عام 1972م أسس اربكان وزملاؤه حزب السلامة الوطني، الذي دخل الانتخابات البرلمانية عام 1973م، وحصل على 8% من الأصوات.. يومها بدأت النخبة العلمانية التي تتوارث الحكم في تركيا تعيد حساباتها.. وتحسب حساباً كبيراً لنجم الدين اربكان.. وتتساءل فيما بينها.. عن ماهية هذا الفارس الجديد الذي اقتحم الميدان.

شكل اربكان في مطلع عام 1974م حكومة ائتلافية مع بولنت أجاويد رئيس حزب الشعب الجمهوري.. وهو الحزب الذي أسسه أتاتورك..

لقد كان شيئاً غريباً أن يشكل حزب السلامة (الإسلامي) مع حزب الشعب (رائد العلمانية في تركيا).. حكومة تركيا الجديدة.

في هذا الوقت تجلت عبقرية اربكان السياسية.. فقد كتب مع أجاويد بروتوكولاً من نقاط مثيرة للجدل.. حصل عليها اربكان بصبره وحنكته السياسية.. ووافق عليها أجاويد من أجل أن يشكل الوزارة في مواجهة سليمان ديميرال.

من أهم القضايا التي ذكرت في هذا البروتوكول:

1- تدريس الطلاب في المدارس الابتدائية مادة الأخلاق (يعني الإسلام).

2- أن يدخل الطالب من خريجي معاهد الأئمة والخطباء جميع الكليات في الجامعات بما فيها كلية البوليس والكلية الحربية.

3- وإطلاق جميع المعتقلين السياسيين من السجون (وأغلبية هؤلاء كانوا من الإسلاميين).

4- وحصل حزب السلامة على عدد من الوزارات الهامة.. بما فيها منصب نائب رئيس الوزراء، ووزارة الداخلية، والتصنيع، والزراعة، وغيرها.

من أهم مكتسبات حزب السلامة من هذا الائتلاف.. أن اعترف حزب أتاتورك.. بحزب إسلامي في تركيا.. شريكاً له في حكم تركيا. وكانت هذه مفارقة تحدث لأول مرة في تاريخ تركيا الحديث.

وفي أثناء غياب رئيس الوزراء عن البلاد، وتصاعد إرهاب اليونانيين للأتراك في قبرص.. أمر اربكان قائد الجيش باحتلال المناطق التي يسكنها الأتراك لحمايتهم من بطش جيرانهم.

حاول اربكان فرض بعض قناعاته على القرار السياسي التركي، فقد أسهم في تطوير علاقات بلاده مع البلاد العربية، ونجح في حجب الثقة عن وزير الخارجية آنذاك خير الدين اركمان بسبب سياسته المؤيدة للكيان الصهيوني، واتبع ذلك مباشرة بتنظيم مظاهرة ضخمة في مدينة قونية ضد القرار الصهيوني بضم مدينة القدس، كانت المظاهرة من أضخم ما شهدته تركيا في تاريخها المعاصر؛ الأمر الذي اعتبر استفتاءً على شعبية الإسلام السياسي بزعامة اربكان، وبعد بضعة أيام تزعَّم قائد الجيش كنعان إيفرين انقلابًا عسكريًّا أطاح بالائتلاف الحاكم، وبدأ سلسلة إجراءات كان من بينها إعادة القوة للتيار العلماني، ومن ذلك تشكيل مجلس الأمن القومي وتعطيل الدستور وحل الأحزاب واعتقال الناشطين الإسلاميين إلى جانب اليساريين، وكان اربكان وزملاؤه من بين من دخلوا السجن آنذاك.

خطة العمل الجديدة

ذهبت أزوره وأبارك له خروجه من السجن.. وبدلاً من أن يحدثني عن سجنه أخرج ملفاً وعليه عنوان: خطة العمل الجديدة.. هكذا كان يفكر الرجل.. يفكر بعمله قبل أن يفكر بنفسه.

وفي عام 1983م أسس اربكان وزملاؤه حزب الرفاه الوطني.. الذي أصبح في انتخابات عام 1996 الحزب الأول في تركيا.

إصرار لا يعرف اليأس.. وقوة لا تُرهبها السجون أو المعتقلات.. ورهان دائم على النصر.. ومعناه في قاموسه.. عودة الإسلام من جديد إلى تركيا.. وانهيار الحملة الظالمة التي تحارب الإسلام والمسلمين.

شكل اربكان مع تانسو تشيللر زعيمة حزب الطريق القويم.. وزارة ائتلافية.. وأصبح اربكان بموجبها رئيساً للوزراء.. حقق اربكان مجموعة من الأمور التي لم يستطع في السابق أن يحققها.. فقد قام بزيارات إلى بلدان العالم الإسلامي مثل مصر، ونيجيريا، وماليزيا، وباكستان، وإيران، وينغلاديش، وإندونيسيا.. وشكل بهم مع تركيا (المجموعة الثمانية الاقتصادية).. ولقد عرضت أمريكا على اربكان مليارات الدولارات مقابل أن يتوقف عن تشكيل هذه السوق الاقتصادية الإسلامية فأبى.. وكانت هذه المجموعة من أسباب إسقاط اربكان من رئاسة الحكومة.

وفي عام 1998م تم حظر حزب الرفاه بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة، ومُنع اربكان من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، فأسس حزب الفضيلة بزعامة أحد معاونيه، وتعرض هذا الحزب للحظر هو الآخر في عام 2000م.

وفي عام 2003م أسس اربكان حزب السعادة، وهو الحزب الخامس ضمن مجموعة (مللي جوروش) أو الحركة الإسلامية في تركيا.. والذي مازال يعمل حتى الآن.

قال اربكان مرة: إذا سألني ربي يوم القيامة، ماذا فعلتم للإسلام؟ نقدم له أحزابنا الخمسة.

التجمعات الإسلامية

شكل اربكان مع قيادة التجمعات الإسلامية في أنحاء العالم الإسلامي.. منظمة تجمع كلمة المسلمين.. وتوحد مواقفهم، وتقارب مفاهيمهم السياسية والتربوية، وتهتم بشؤون الاقتصاد والمرأة.. وكنت أميناً عاماً لهذا التجمع.. الذي يلتقي قادته مرة في السنة.

وشكل مع قيادات العمل الإسلامي لجنة لتنسيق العمل فيما بينهم.. يلتقون فيها على مواقف موحدة.. وفكر موحد.

اربكان وقضايا المسلمين في العالم

كان اربكان بالإضافة إلى قضايا تركيا التي كانت يوماً مركزاً للخلافة الإسلامية التي تنافح عن المسلمين في العالم وتحميهم من الاستبداد الغربي والتآمر الصهيوني.. مشغولاً بكل قضايا المسلمين..

فهو الذي طالب قائد الجيش التركي بحماية الأتراك في قبرص.. والتي هي بالأساس جزيرة تركية.. مكنت بريطانيا أثناء احتلالها للجزيرة العناصر اليونانية على حساب الأتراك سكان البلاد.. تماماً كما فعلت بريطانيا بفلسطين عندما احتلتها ومكنت للمهاجرين اليهود على حساب الفلسطينيين الذين تشردوا في الآفاق.

وعندما حاولت يوغسلافيا التهام البوسنة والقضاء على المسلمين فيها.. عقد اربكان مؤتمراً إسلامياً لنصرة البوسنة في استانبول، حضره القائد المسلم علي عزت بيغوفتش.. ووضعوا خطة لنصرة البوسنة وإمدادها بما يلزمها من مال وغذاء وسلاح.

أما أفغانستان التي احتلها الروس وعاثوا في أرضها وسكانها الفساد.. فعندما خرج الروس.. رأى الأستاذ اربكان أن القتال ينبغي أن يتوقف وأن يتسلم المجاهدون السلطة.. يومها بعثني مع الأخ اوغوزخان أصيل تورك برسالة منه إلى رئيس الدولة.. ووافق الرئيس على طلب اربكان.. وهكذا دخل أحمد شاه مسعود القائد الميداني الأفغاني، كابول بأقل الخسائر..

لم يكن اهتمام اربكان بأفغانستان السياسية فقط.. بل ولقد كنت معه في زيارة إلى بيشاور وزيارة الجرحى في المستشفيات وسؤاله عن أحوالهم وأعطى لكل مجاهد من هؤلاء مبلغاً من المال يساعده على نفقات أهله..

وقل مثل ذلك في بلاد القوقاز وآسيا الوسطى، فقد استأجر الأستاذ اربكان طائرة.. بدأت بأذربيجان.. ومرت على كل دول آسيا الوسطى.. التقى في هذه الرحلة.. مع الرؤساء وحاورهم في مستقبل بلادهم وأن هذه البلاد ينبغي أن تعود لأصالتها الإسلامية.. ولا يعني تحررها من الاستعمار الروسي.. انقيادها للاستعمار الأمريكي.

وفي دافوس التي يقصدها السياسيون والاقتصاديون من أنحاء العالم لاتخاذ القرارات المناسبة لخدمة الرأسمالية العالمية التي يتحكم فيها اليهود.. في دافوس أعلن أمام الأوروبيين والحضور عامة.. ودعا إلى تعاون إسلامي أوروبي.. تعاون يحفظ الحقوق.. وينهي الاستعباد.. ويعطي لكل ذي حق حقه.. كانت صراحة في دافوس لم يسبقه أحد إلى مثلها.

أما فلسطين.. فهو يعرف أن السلطان عبد الحميد أسقطه اليهود.. ولم يستطيعوا أن يستولوا على فلسطين إلا بعد أن صار عبد الحميد في معتقله ينتظر الموت في منفاه.. وكذلك فعل اربكان.. فقد أفهم العالم.. والمسلمين من قبل أن الصهيونية هي رأس الداء.

يوم فتح استانبول

كان اربكان يجمع قاد المسلمين من أنحاء العالم للاحتفال بفتح استانبول.. عاصمة الإسلام يوم  فتحت، وعاصمة الإسلام يوم يحكم الإسلام مرة أخرى..

لم يكن اربكان سياسياً مسلما ليجلس على كرسي الوزارة.. ولم يكن مفكرا ليكتب كتباً.. بل كان عظيما في السياسة، رائعا في الأداء، عميقا في الفكر.. فهو ابن زمانه.. وقلما يجود الزمان بمثله..

جنازته تخرج من مسجد الفاتح

ولقد كانت جنازته في مسجد الفاتح في استانبول.. رمزاً لهذه العظمة فقد حضرتها الملايين.. وحضرتها وفود من أنحاء العالم الإسلامي.. تماماً كما قال الشاعر:

علو في الحياة وفي الممات             لعمري تلك إحدى المعجزات

شارك في جنازته الرئيس عبد الله جول، ورئيس الوزراء رجب طيب اردوغان الذي قطع زيارته لأوروبا لحضور جنازة المعلم والمؤسس للحركة الإسلامية الحديثة في تركيا.. ورفيق دربه رجائي كوتان وأوغوز خان اصيل تورك وشوكت كاظان وأحمد تكدال وفهيم أضاك ومحمود أفندي النقشبندي، إلى جانب زعماء وقادة إسلاميين من أنحاء العالم.. على رأسهم المرشد العام السابق للإخوان المسلمين الأستاذ محمد مهدي عاكف، والدكتور سعد الكتاتنة، والدكتور محمود عزت، والأستاذ يوسف ندا، والأستاذ غالب همت، والمهندس علاّن بلال، والأستاذ إبراهيم منير، ومحمد الحمداوي وسعد الدين العثماني (من المغرب) وإبراهيم المصري (من لبنان)، والقاضي حسين أحمد أمير الجماعة الإسلامية السابق (باكستان)، ومصطفى محمد الطحان الأمين العام لاتحاد المنظمات الطلابية، والدكتور أحمد عبد العاطي الأمين العام للإفسو، والأستاذ إبراهيم الزيات والدكتور أيمن علي والدكتور شكيب مخلوف من اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، والأخ محمد نزال (من حماس) وصديق حسن خان من الجماعة الإسلامية في الهند، والدكتور عمر زبير من السعودية والأستاذ علي صدر الدين البيانوني (المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سوريا، والدكتور محمود الأبياري.

وكان من جملة المشيعين عدد من كبار قادة الجيش التركي، ورئيس جمهورية قبرص التركية (درويش اراوغلو) وعدد آخر من الوزراء ومن قادة المعارضة، بالإضافة إلى أعداد أخرى من مسؤولي العمل الإسلامي في البوسنة، والسودان، والكويت، ومصر، وأفغانستان، وأذربيجان، والمغرب، والجزائر، وماليزيا، والهند، وباكستان، وإندونيسيا، وفلسطين، وغيرها.

قد أكون أكثر الناس حزناً على الرجل العظيم.. من بين الملايين التي شيعته، فقد جمع الحب بين قلبينا، وقارب الحب في الله بين الشاب الأصغر والقائد الكبير.. والثقة المشتركة التي كانت تقارب بين قائد عظيم وشاب يتعلم من قائده.

حياة اربكان باختصار

ولد اربكان عام 1926م في مدينة سينوب على ساحل البحر الأسود، وهو من نسل أمراء السلاجقة، الذين عرفوا في التاريخ، وكان جده آخر وزراء ماليتهم، وكانت أسرته تلقب بآل الوزير.

بدأ أربكان حياته بكل همة وجد وكان متفوقا في دراسته، فقد أنهى دراسته الثانوية في عام 1943 م، ليلتحق بكلية الهندسة الميكانيكية في استانبول والتي تخرج منها سنة 1948 م وكان الأول في دفعته، مما أهله لأن يكون معيدا فيها.وفي عام 1951 م أرسل في بعثة إلى ألمانيا لينال في عام 1956 م شهادة الدكتوراة في هندسة المحركات، وعمل أثناء وجوده بألمانيا رئيساً لمهندسي الأبحاث في مصنع محركات الدبابات التي تعمل بكل أنواع الوقود.

وفي عام 1965م عاد اربكان إلى تركيا ليعمل أستاذا في الجامعة. وكان عمره 29 عاما، وكان أصغر أستاذ جامعي في تركيا آنذاك، وهو أول صانع لمحرك ديزل (الموتور الفضي) ولا تزال الشركة المصنعة تعمل على إنتاجه حتى الآن.

وفي عام 1968م انتخب اربكان رئيساً لاتحاد الغرف التجارية والصناعية.. وبسبب ترأسه هذا الموقع الحساس ثارت ثائرة الدوائر العلمانية والصهيونية وهاجموه.

وأصبح رئيسا لاتحاد النقابات المهنية، ثم انتخب عضوا في مجلس النواب عن مدينة قونية.

الرمز الذي افتقده الجميع

أجمع رموز الدولة وقادة المجتمع التركي على أن نجم الدين أربكان لم يكن فقط عميد الحركة الإسلامية؛ ولكنه مثَّل قيمة وطنية وفكرية لدى جموع الأتراك، بما أداه من أدوار محورية وإستراتيجية في تقدم تركيا؛ ما جعل رحيله مصابًا كبيرًا لدى عموم الشعب التركي.

ولقد نعى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أربكان بقوله: لقد كرس أربكان حياته للتعليم والتعلم، وقدَّم كل حياته لأجل تركيا، وكانت له مكانة كبيرة جدًّا، وهو نموذج ومثال لكل الأجيال كإنسان وزعيم وأستاذ، وما تعلمناه منه مهم جدًّا، وسنظل نتذكر شخصيته المجاهدة.

وقال عبد الله جول، رئيس جمهورية تركيا: تلقيت خبر وفاة البروفيسور أربكان بتأثر شديد، أشعر بالحزن الشديد على فقد رجل العلم والسياسة والدولة، فالعزاء لكل أمتنا، فقد كان أربكان زعيمًا مثاليًّا، حاز تقدير شعبه وحبه بالخدمات التي لن تُنسى أبدًا، فهو أهم الشخصيات السياسية في تاريخنا.

لقد عملت فترات طويلة معه عن قرب في كثير من الأعمال بكل سعادة، وليس هناك شك أنه ترك بصمته في تاريخنا الحديث، فالبروفيسور أربكان جعل كل حياته لأجل خدمة الأمة في كل المناصب التي تولاها، وهو صاحب مساهمات قيمة في تنمية كل المجالات وتطويرها في تركيا، وإننا ننعى البروفسيور أربكان دائمًا بالحب والامتنان والاحترام، وأسأل الله عز وجل أن يرحمه، وأعزِّي أمتنا وعائلته وكل محبيه من حزب السعادة.

ومن جانبه، قال رجائي قوطان، رفيق درب المجاهد نجم الدين أربكان ورئيس حزب السعادة السابق: لقد كان همُّ أستاذنا أربكان هو فقط الأمة الإسلامية، وفي كل مراحل حياته ما كان يفكر إلا في خدمة العالم الإسلامي وتركيا، ولقد كان آخر حديث لي معه عن مستقبل الأمة الإسلامية وتركيا خلال الانتخابات القادمة.

وتحدث عنه ياسين خطيب أوغلو، مساعد رئيس حزب السعادة، فقال: لقد فقدنا زعيمًا عالميًّا، لقد فقدت الأمة الإسلامية رجلاً كبيرًا، رفض أثناء وجوده في المستشفى تحذيرات الأطباء.. فقد كان في جلسات عمل مستمرة.

وقال رئيس حزب الوحدة الكبرى، يالجين توبجو: نعزي بكل أسى تركيا في وفاة البروفيسور نجم الدين أربكان، الذي يعد أحد رموز الحياة السياسية والديمقراطية التركية، فلقد أمضى عمره لغاية واحدة؛ وهي الارتقاء بهذا البلد، مدافعًا عن دينه وقيمه.

 

صور من تشييع القائد المسلم نجم الدين اربكان

الأستاذ مصطفى الطحان مع بعض الشخصيات التي توافدت لحضور جنازة الراحل نجم الدين أربكان 

الأستاذ مصطفى الطحان ومقابلة تلفزيونية مع أحد القنوات الفضائية أثناء الجنازة

10/3/2011م

5/4/1431 هـ

 
Leave a comment

Posted by on March 10, 2011 in خواطر