RSS

جنسية أم جواز سفر.. ؟

15 Jun

من مقدمة كتاب أوراق مسافر (رحلة العمر في الكويت)

 

ولدت في لبنان. من أسرة جذورها وأصولها هناك. وقريتنا التي فيها كل أهلنا في (عكار) في الشمال. وعندما انتقل الوالد إلى سوريا كان عمري سنتان أو أقل.

هذه الأمور لا تهم أحدا في شيء.. ولكني أردت أن أصل منها إلى موضوع جنسية المسلم.

قبل الإسلام كان يفتخر العربي بقبيلته، ولا قيمة لإنسان مهما علت منزلته ما لم ينتسب لقبيلة. حتى أنه لا يستطيع مجرد الإقامة ما لم يلتحق بإحدى القبائل.. فعرف الإقامة اليوم هو عرف جاهلي قديم.. كل ما هنالك أنه أعطي اليوم صفة قانونية..

وارتبط بقبيلة الدولة بعد أن كان يجوز ارتباطه بقبائل مختلفة.. وعندما جاء الإسلام أوجد مكان هذه الوشيجة الأرضية رابطة أسمى وأعظم هي رابطة العقيدة.

ورابطة العقيدة هي التي تليق بالإنسان المتحضر.. فلا معنى إطلاقاً لرابطة عنصرية جاهلة تجمع إنساناً راقيا متحضراً مع قاطع طريق سافل لمجرد أنهما من قبيلة واحدة.. أو جمعتهما مضارب الخيام في أماكن متقاربة.. وارتبطت قوة المسلمين وضعفهم.. بتمسكهم بوشيجة الإسلام ورابطة العقيدة.. فما أن ينحدروا في تصوراتهم حتى يصيبهم الصغار..

في عهد الرسول صلى الله وعليه وسلم جزع اليهود من تنامي قوة المسلمين في المدينة.. فبعثوا شعراءهم ليقولوا الشعر الذي يؤجج خلافات الأوس والخزرج من ناحية، وليؤكدوا على القبلية والعصبية من جهة أخرى.. وتجاوب قمة النفاق يومئذ مع هذا المخطط اللئيم فصاح أنصاري يا للأوس.. وصاح أنصاري آخر يا للخزرج.. وكادت تنشب المعركة.. وخرج عليهم رسول الله صلى الله وعليه وسلم يقول: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!

وفي عهد الأمويين أطلت الجاهلية العنصرية برأسها من جديد.. ووضعت بذلك اللبنة الأولى في نعش الدولة الإسلامية الراشدة.. ثم بدأت الجاهلية تطل برأسها في كل عهد وحين.. فهذه دولة عربية.. وتلك سلاجقة.. وهذه أيوبية.. وهذه تركية.. وبدأت الدولة تأخذ اسم القبيلة.. حتى كانت الدولة العثمانية التي تنازل فيها العثمانيون عن كل جنسية غير الإسلام.. فجاء الإنكليز الغيارى على مصلحة العرب يؤكدون لهم أحقية العرب بالخلافة.. واستجاب المنافقون لفتوى بريطانيا.. ونادوا بأننا عرب قبل أن نكون مسلمين.. وقال الأتراك مثل قولهم.. وتبعهم الأكراد.. وهكذا بدأت هذه الأمة بالانحدار منذ اللحظة التي تركت فيها جنسيتها الحقيقية وتعلقت بوشيجة أخرى جاهلية عنصرية..

والغريب أن الغرب النصراني الذي تمرد على كنيسته فارتد إلى القومية.. عاد فتمرد على قوميته بعد أن اصطلى بنار عدة حروب قومية كادت تأكل الأخضر واليابس.. وهو اليوم يعيش تحت شعارات لاقومية مثل الرأسمالية.. أو السوق الأوروبية المشتركة أو حلف شمال الأطلسي.. وكلها رايات سياسية امبريالية جمعت أعداء الأمس تأميناً لمصالح الجميع.. وكذلك فعلت روسيا القيصرية والصين الشعبية.. تأميناً لمصالحها كذلك..

أما الدول الإسلامية التي أكرمها الله برسالة الإسلام.. فقد ارتكست للأسف في حمأة القومية.. وهي تعمق هذا الانحدار يوماً بعد آخر. وصارت شعارات الوحدة التي كانت تصم الآذان قبل ثلاثين سنة كلمات فارغة لا يكاد يفهمها أحد من أبناء هذا الجيل. وصار المسلم اليوم… يسمع بحرب بين الجزائر والمغرب.. وبحرب بين تونس وليبيا.. وبحرب بين ليبيا ومصر.. وبحرب بين ليبيا والسودان.. وبحرب بين اليمني في الشمال وأخيه في الجنوب.. وحرب بين اليمني في الجنوب وأخيه في عمان.. وأخرى بين إيران والعراق.. وحرب بين العراق وسوريا.. وحرب بين سوريا ولبنان.. وبين سوريا والأردن.. وبين الجميع والفلسطينيين.. كل ذلك مما نسمعه.. ونراه..

هذا بالنسبة للحكومات.. أما بالنسبة للحركات الإسلامية التي قامت أساساً كرد طبيعي على سقوط الخلافة.. ونادت بالإسلام ديناً وعقيدة ووطناً وجنسية.. وجمعت الناس جميعاً تحت هذا المفهوم وضمن هذا الإطار.. هذه الحركات بدأت – للأسف الشديد- تصيب بعض المنتسبين إليها دعوى العنصرية الجاهلية كذلك.

في أوائل الستينات، كنا طلبة ندرس خارج البلاد، زارنا (أحدهم) من قادة الحركة الإسلامية في ذلك الوقت.. والتقى بالشباب، وكان سؤال وجواب، وأذكر يومها أننا سألناه عن رأيه في كتاب اشتراكية الإسلام للمرحوم الدكتور مصطفى السباعي فقال:

نحن في حلب نتبنى الكتاب!.. وصعقنا للكلمة.. ماذا يعني؟

إن هذا النمط في التفكير هو اللعنة التي أصابت العمل الإسلامي في سوريا.. وكانت تنطلق أساساً من العنصرية مهما حاول الآخرون تزيينها وتعليق بعض الأجراس عليها وإلباسها بعض الأفكار.. وهي جاهلية في البداية ونتنة في النهاية..

وتلفتنا حولنا، وكنا تجمعاً فيه السوري، والليبي، والعراقي، والمصري، واللبناني، والأردني، والتركي، والسعودي، وغيرهم.. ماذا يسمع هؤلاء.. وكل واحد منهم يحلم بالعمل الإسلامي المثالي الذي يتجاوز حدود الوطن والوطنية والجنسية والقومية.. وكل الجاهليات العفنة الموجودة على سطح الأرض..؟

من هذا المنطلق.. ومن اللعنة نفسها حدث الانقسام في سوريا الذي لم يكن في لحظة واحدة خلافاً فكرياً أو عقائدياً وإنما عصبية جاهلية في سبيل الشيطان ولمصلحته وحده دون خلق الله.

وبدأت تسمع لغة، لم يكن أحد من قبل يفهمها.. فهذا انتماؤه شامي.. وذاك انتماؤه حلبي.. تماماً كما كان الأعراب يفتخرون بقيس أو تميم.. وإذا وجد أحد الشاردين يردد مرة ثانية:

أبي الإسلام لا أبا لي سواه          إذا افتخروا بقيس أو تميم

إذا وجد ذك الشخص.. أنكروا لغته فهو يتكلم لغة انقرضت منذ زمن وما عاد أحد يفهمها..

إيه أيتها الدعوة العظيمة.. دعوة القائد الشهيد الإمام حسن البنا بصفائها ونقائها وعظمتها.. والتي هي الصدى الصحيح للدعوة الأولى بزعامة محمد صلى الله وعليه وسلم .. كم تُرتكب باسمك حماقات باسم الإسلام.. وكم يُتاجر باسمك بدعوى المصلحة..!

إن الإنسان المسلم منذ اللحظة الأولى التي يقبل أن ينتسب فيها إلى هذا الدين ينخلع من جاهليته ليصبح مواطناً عالمياً.. يعبد أينما كان رباً واحداً.. ويتجه في عبادته إلى قبلة واحدة.. كل مسلم في أنحاء الأرض سمع به أو رآه هو أخوه.. وكل أرض يُشهد فيها بلا إله إلا الله بينه وبينها نسب وقربى..

إن الإنسان المسلم عندما يقول بأنه سوري، أو فلسطيني، أو هندي.. فإن ذلك يعني (بالمقياس الإسلامي) أنه يحمل جواز سفر سوري أو فلسطيني أو هندي.. ولكنه في كل الحالات مسلم وعقيدته هي جنسيته..

 
14 Comments

Posted by on June 15, 2010 in أوراق مسافر

 

14 responses to “جنسية أم جواز سفر.. ؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *