RSS

طفل من القرية

الجزء الأول من أوراق مسافر

المؤلف : مصطفى محمد الطحان

المقاس : 17 * 24

عدد الصفحات : 219

  الإهداء

إلى أبي.. شيخ شباب قريته في لبنان..

هاجر من بلدته كوشا في عكار، بعد صراع مرير مع البكوات الذين كانوا يمارسون كل السلطات..

انتقل من مكان إلى آخر بحثاً عن لقمة العيش، ومن أجل تأمين مستقبل أفضل لأبنائه..

عاش مباركاً.. ومات بعيداً..

كنت أتمنى أن ألقى على وجهه الصبوح نظرة وداع.. ولكن هيهات..

فالقوة البائسة حلت محل البكوات، ولكن بسيطرة أقوى وبطش أرعب.

أما الفتى فهو على خطوات أبيه.

إلى أبي.. أقدم كتابي هذا (أوراق مسافر).

اعترافاً مني بفضله، وحسن توجيهه.. وروعة جهاده..

رحم الله أبي رحمة واسعة.

ابنك مصطفى

هي قصة حياتي..

أرويها كما حدثت.. وأقدمها إلى القراء في بلادي القريبة والبعيدة.. بعضهم سيجد فيها قصة مسلية مثل حكايات السندباد وابن بطوطة.. وبعضهم سيجد فيها طرفاً من أخبار المسلمين في الأقطار التي زرتها وكان لي فيها بعض النشاط في العمل الدعوي والطلابي.. وسيجد فيها البعض تحليلات سياسية لأحداث هامة جرت في بلادي تختلف فيها الرؤى وتكثر حولها التحليلات أردت أن أدلي فيها بدلوي، لعل في ذلك فائدة.

كنت أعتب على الدعاة والسياسيين لِمَ لا يستريحوا في أواخر أيامهم من عناء الحركة، ويتفرغوا لكتابة مذكراتهم كما يفعل الرؤساء في كثير من البلدان الغربية.. وحتى لا أقع فيما وقع فيه غيري.. قررت الكتابة في وقت مبكر.

قسمت هذه المذكرات إلى أجزاء.. بعض هذه الأجزاء تناولت فيها قصتي في قطر مكثت فيه سنين طويلة من عمري مثل سوريا ولبنان.. وتركيا.. والكويت.. بينما تناولت في الأجزاء الأخرى خواطري عن تلك البلدان التي مررت بها.. أو زرتها لأيام قليلة وكان لي فيها أثر قل أو كثر..

ربما غلبت السياسة على نكهة هذه الذكريات.. وماذا أفعل وقد عشنا في الزمن الصعب.. بلادنا محتلة تصارع المحتلين.. وأحزابنا لا تجيد إلا لعبة التسلق، حتى إذا وصلت إلى الكرسي.. تشبثت بموقعها إلى آخر العمر.. واستنجدت بالأبناء ليواصلوا تاريخ أسرة الزعيم الأوحد..؟

كنت أقول باستمرار إن هذه الأوضاع حرمتنا كأطفال أن نلهو ونلعب مع الأطفال.. وحرمتنا كشباب أن نستمتع بمعطيات وأهازيج الشباب.. لم تترك لنا فرصة لنفكر في الجمال المبثوث في كل زاوية من زوايا الحياة.. في الهواء وأنت تركب متنه.. وفي الماء وأنت تعبر محيطاته.. وفي الشجرة وهي تعطي وتبهج.. وفي السحر الحلال وأنت تسكن إليه فيورق ويزهر ويثمر..

اليوم وأنا أقف على قمة الستين أسائل نفسي: هل كنت سأختار هذه الرحلة بهذا الأسلوب لو كان لي الخيار..؟

ـ هل كنت سأعطي لنفسي مزيداً من الوقت استمتع فيه بالقراءة والكتابة والسياحة.. وأخفف عن نفسي هذا القدر الكبير من المعاناة.. وعن زوجتي طول مكثها على النافذة تنتظرني هل أعود أو لا أعود.. وعن أولادي الذين أرهقهم كثرة غيابي ووعورة دربي..؟

ـ هل كنت سأفعل كما فعل الشاعر الأموي جرير الذي انتبه متأخراً لنفسه.. فوجد أنه قضى عمره في هجاء الشعراء وتأييد الخلفاء.. فلما فقد زوجه استعبر وكتب في رثائها أجمل رثاء وأعظم نسيب.. ولسان حاله يقول: لقد فات الأوان ولولا نفاذ رصيد العمر لنسبت نسيباً أبكي العجوز على شبابها

ـ هل كنت سأستنطق الحياة وأقرأ المزيد في كتابها؟

وكتابٌ كنت أقرأ فيه صوراً ما قرأتها في كتابي..

وأردد مع (إيليا أبو ماضي) بعض أبياته وهو يعزف لحن الجمال:

أيهـا الشاكي ومـا بـك داءٌ كيــف تغدو إذا غدوت عليلاً

أترى الشوك في الورد وتعمى أن تـرى فوق النـدى إكليـلاً

والذي نفسـه بغيـر جمـال لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً

ـ هل تظنني قادراً أن أختار..؟

وهل تعرفني ممن يؤثرون الراحة والدعة..؟

أستبعد ذلك.. فقد طبقت حرفياً ما حفظته من قول أبي تمام..

بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها تنال إلا على جسر من التعب

هذه هي أوراق المسافر..

الورقة الأولى بين أوراق كثيرة..

تحدثت فيه عن سوريا.. البلد الذي عشت فيه طفولتي.. وباكورة أيامي.. تعرفت فيه على أعز الأصدقاء.. والتزمت فيه بالفكر الإسلامي.. في بلد يعج بالأفكار وينوء كاهله بأحزاب بعيدة كل البعد عن مصالح بلدي أو عقيدة شعبي..

وألحقت بهذا الجزء.. ذكرياتي عن لبنان.. البلد الذي ولدت فيه.. واستمتعت بأجوائه الجميلة.. وما زلت أحنّ إليه.. فكل ممنوع مرغوب!

وستتلو هذه الورقة أوراق أخرى.. تتحدث كل منها عن بلد من البلدان.. وهكذا مضت رحلة العمر مع أوراق الذكريات.

المؤلف

2006/2/22

 

(1)

طفل من القرية

في الصباح الباكر لبست كل ما عندي من ملابس، وحملت حقيبتي، وتوجّهت إلى سيارة (القرية) بعد أن طبعت قبلة على يد الأمّ وقبلة على يد الأب..كنت أقفز من مكان إلى مكان في محاولة لتجنب الوحول التي تملأ الطريق. كانت السماء ملبدة بالغيوم..والمطر ينهمر..وأنا مسرع أخشى أن يتلف المطر والوحل ملابسي الوحيدة، وأخشى كذلك أن تتركني السيارة فلا أدرك مدرستي في ذلك اليوم..كانت نفسي مع ذلك راضية مطمئنة فدعوات الأمّ شرحت صدري وطردت الضيق من قلبي..وفي هذه الأثناء استوقفني الرجل..

لا أعرفه،ولم أكلمه في حياتي،صاح في وجهي:

– لِمَ تشتمني أيها (…)؟

ورفعت نظري إليه باستغراب شديد..ولم أستطع النطق..ولم يمهلني للإجابة، فأكمل يقول :

ألم يكفنا والدك…الذي أشعل الفتنة في كل القرية…وأنت اليوم تريد أن تكمل طريقه..وعندما رفع عصاه ليضربني لذت بالفرار ولكن من طريق آخر.. ولما وصلت إلى ساحة القرية وجدت سيارتها قد انصرفت.

وبعد فترة من الزمان زارني الوالد في سلمية (المدينة التي كنت أدرس فيها). قصصت عليه القصة باستغراب.. فضحك ضحكة خفيفة.. وقال: القصة طويلة يا بني ولها فصول كلها مؤلمة.. وكنت أرغب أن تعيشوا حياتكم دون أن أقحمكم في هذه المشكلة.. أما وأنت تلح الآن في السؤال وتريد أن تعرف.. فإليك بعض فصول قصتنا..

من فصول قصتنا أننا تركنا قريتنا (كوشا) في لبنان عام 1939م وحضرنا إلى سوريا.. إلى قرية (تل الدره) التي نعيش فيها الآن.. هجرنا قريتنا في لبنان بعد صراع مرير بيننا وبين (البكوات) الذين كانوا يمارسون جميع السلطات. ولم يكن أمامنا وقد تجرأنا على المطالبة ببعض حقوقنا.. إلا أن نترك مراتع صبانا.. أهلنا وبيوتنا.. ونهاجر في أرض الله الواسعة.. لم يكن أمامنا إلا الإذعان أو القتل أو الهجرة..

ومن فصول قصتنا أننا وجدنا معظم سكان القرية الجديدة من الإسماعيليين الأغاخانيين الذين لم يسرهم وجودنا. وفي أول رمضان يمرّ علينا بينهم.. أعلن جميع أهل القرية حربهم ضدّنا لأننا كنّا صائمين.. وأمام إصرار القرية أن نرحل أو نقتل.. كان إصرارنا أكبر أن نبقى ونتحدى..

تحديتهم وحدي.. عشرات المؤامرات دبروها لي ولكم.. أتذكر يوم استفردوا بك فضربوك، أتذكر يوم ضربوا أخاك، أتذكر لماذا كانوا يقاطعوننا فلا نستطيع شراء أي شيء من عندهم حتى رغيف الخبز لا نستطيع الحصول عليه.. قطعوا عليّ الطريق مرات ومرات.. هاجموا البيت مرات ومرات.. وفي كل مرة نصرني الله عليهم.. وكان النصر الأكبر يوم بدأت حلقتهم المحكمة حولي تنكسر، فقد دخل في الإسلام الواحد منهم تلو الآخر حتى صرنا اليوم أكثر من خمسين رجلا وامرأة كلهم يوحدون الله يعبدونه لا يشركون به شيئا..

هل فهمت يا بني.. لمَ اعترضوك وأرادوا أن يضربوك.. إنه الظلم الذي يكره الحق.. وينادي دائما بالشعار الخالد : أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون.

واستطرد الوالد يسرد حكايات لا تنتهي مرارتها، عن الظلم الذي وقع على أسرتنا من قبل هؤلاء الذين لم يرضوا لنا أن نكون مسلمين نعبد الله بالطريقة التي ارتضاها رب العالمين لخلقه.

حدثني عن جمعية الكف الأسود.. التي تحاكم من يكلمنا أو يبيعنا شيئاً.. أو يتعامل معنا.. وحدثني عن (حافظ) رئيس الجمعية الذي يزعم أن الوحي يأتيه ويطالبه بقتل المرتد!

ووصل في سرده إلى ذلك اليوم الذي جاءنا فيه الشيخ جمال (من أصدقاء الوالد) من لبنان.. وعندما غربت شمس ذلك اليوم صعد على سطح المنزل ليؤذن لصلاة المغرب بصوته الشجي.. وتجمع الناس على هذا الحدث الفريد في قريتهم.. ومع خشوع البعض.. إلا أن أصواتاً من هنا وهناك بدأت تردد عبارات بذيئة تشبه المؤذن بالحمار الذي ينهق.. هكذا الضلال يغير الأحوال ويقلب المفاهيم وترتكس معه فطر الناس..

وكان يوما مشهودا، فئة قليلة تدافع عن حقها المشروع.. وفئات كثيرة أبطرتها قوتها راحت تعتدي بكل أنواع الاعتداء على كل من تصادف في طريقها. ونحن الصغار كنا نرقب المشهد ببراءة الأطفال.. نخشى أن تصيبنا دائرة.

وانتقل المشهد إلى حماة.. إلى علماء المدينة وعلى رأسهم الشيخ الجليل محمد الحامد (رحمه الله).. الذي خطب في جماهير المدينة.. يحثهم على نصرة إخوانهم في الدين الذين يتعرضون لخطر الإبادة.. وتدخلت السلطة وقد أصبحت وطنية بعد الاستقلال، وجاء جنودها يعتقلون المعتدين.. يومها شعر المسلمون في قريتنا ولأول مرة بأن حلقة الطغيان بدأت تنكسر.. وأنهم أصبحوا يأوون إلى ركن شديد.

حوادث في غاية القسوة.. وظلم في غاية المرارة.. مارسه هؤلاء الذين لا يقبلون لغيرهم أن يعيشوا كما يشاءون.. ويتعبدوا الله كما يريدون..

ساعدتهم على ظلمهم أنظمة زرعها الاستعمار لتكريس مثل هذه الطائفية.. لقد كان الحصار المفروض على الثلة المؤمنة في هذه القرية الصغيرة.. شبيه بالحصار الذي فرضه كفار قريش على المسلمين في شعب بني هاشم في مكة..

أليس التاريخ يعيد نفسه؟

وهكذا تمرّ في حياة الإنسان أحداث كثيرة.. بعضها يمرّ مرّ الكرام فلا يترك في النفس أثرا يذكر، وبعضها يلتصق بالإنسان، بل ويضع بصماته على صفحات فكره وعقله.. فلا يستطيع أن ينساها أبدا. والأحداث التي تتفاعل مع النفس الإنسانية.. هي تلك التي تصادفه في سنواته الأولى، عندما يبدأ بالظهور على مسرح الحياة بنفس صافية رائقة كالصفحة البيضاء.. يومها تبدأ الأحداث تخط خطوطها.. هذه سوداء مؤلمة وهذه زاهية مفرحة.. وتبقى الخطوط.. وتفشل كل محاولة لمحوها بعد ذلك. قد تزيدها الأيام وضوحا.. وقد تخفف من شدتها.. والأمر في جملته متروك للزمن، وللثقافات التي يطّلع عليها الإنسان، والتجارب التي يعيشها.. الزمان والثقافات والتجارب هي وحدها التي تزيد اقتناع الإنسان بفكرته أو تخفف من قناعاته التي شكلها في الأيام الأولى من حياته.. وبقدر استقامة الإنسان مع المنهاج الصحيح.. بقدر انسجام قناعاته الأولى مع الثقافات الصحيحة.

وكذلك الأيام لم تزد الخطوط السوداء الداكنة، والخطوط الزاهية المفرحة التي حُفرت في ذاكرتي إلا وضوحا يوما بعد يوم.

نسيت أن أخبرك أني ولدت في لبنان عام 1939م.. ويوم هاجر الوالد إلى سوريا كان لي من العمر بضعة أشهر.

(2)

أبي

أبي مثل كل الآباء.. في زمانه..

عاش وترعرع في قريتنا كوشا.. في أقصى شمال لبنان.. قرية صغيرة حالمة على كتف الجبل.. أمامها الوادي الجميل والنهر المتلألئ.. صيفها حار.. تخفف نسمات البحر من شدته.. وتزيد في الوقت نفسه من رطوبته ولزوجته.. وشتاؤها قارس.. يكلل الثلج هامات قممها.. وتصفر الريح في جنبات واديها.

في ليالي الشتاء الطويلة يتجمع أهل القرية في البيوت.. يلعبون الورق.. ويستمعون إلى قصص الزير سالم وأبي زيد الهلالي.. وقصة عنتر وعبلة.. يستمتعون بالدفء الذي ينبعث من الموقد ويضيفون إليه مزيدا من الحطب أو الفحم كلما خفت حرارته..

جميع سكان القرية ذوو قربى.. فالتزاوج جعل البعيد قريبا.. والأسر المتفرقة موصولة.. هكذا هي المجتمعات الضيقة.. وإذا كان التزاوج يقرب ويبعد.. فليس غريبا أن ترى وتسمع في كل يوم مشكلة جديدة.. معظم المشاكل تتعلق بحوادث الزواج والطلاق والخلافات البيتية.. يتعصب الفرقاء للزوجة أو الزوج وتبدأ المشاكل تتعقد حتى يجتمع المصلحون لحلها..

سكان القرية فقراء معوزون.. يكدحون في الحقل نهارا، وفي صيد السمك نهارا أو ليلا.. يقضون الأيام على ساحل النهر أو البحر ولا يعودون لبيوتهم إلا في آخر الأسبوع.. وبالرغم من كل هذا العمل الشاق.. فبالكاد يحصلون على الكفاف.. ويزيد من ضيقهم تحكم البكوات (جمع بيك)(مصطلح تركي يعني السيد) بهم. فلابد أن تعمل في حقل البيك تحصد الزرع.. أو تزرع الفستق.. أو ترعى البقر.. كل شيء للبيك ومن أجله… كان البيك يمثل الحاكم المطلق، يتمتع بجميع السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية.. والويل كل الويل لمن يحاول التمرد على البيك أو يعتدي على حقله أو خيله أو دجاجاته.. أو ينظر إليه شذرا وهو يتنقل على حصانه بين مصالحه المختلفة.. ولا يتردد البيـك وهو يرى عبيد أرضه أن يطلق نكتة سمجة يهزأ بهذا الفقير.. أوينال من آخر.. أو يتطفل على النساء العاملات بنظرة شريرة أو بقولة فاحشة تخدش الحياء..

في هذه البيئة القاسية عاش أبي.. في أسرة فقيرة تتألف من والده سليم ووالدته مريم ومن أخوين آخرين هما زكي وحسين بالإضافة إلى أبي وهو أكبر الأبناء.. أدركت بيت العائلة المتواضع المؤلف من غرفتين صغيرتين وثالثة للبقرة.. في الصيف ينامون على أسطح المنزل وفي الشتاء يحشرون مع البهائم في هذه الغرف الضيقة.. تعايشوا معها فهي وسيلة رزقهم في النهار، ورفيقة نومهم في الليالي الطويلة.

فسحة الدار صغيرة، في أحد أركانها الموقد الذي تخبز عليه أم محمد (جدتنا مريم) كل صباح، وتطبخ في المناسبات.. عندما تتوفر لها بعض المواد الصالحة للطبخ.. وفي الركن الآخر فتحة ينزل منها سكان البيت إلى (الزريعة) وهي حديقة صغيرة فيها جميع أنواع الخضروات وأشجار الفاكهة (التين والعنب والرمان والجوز والدراق والليمون). فإذا أضفنا لذلك الدجاج الذي يربى في ركن وخلايا النحل التي تعطي العسل الجيد في ركن آخر.. لأدركنا كم تساهم هذه الزريعة في معيشة الأسرة..

إذا استيقظت في الصباح مع زقزقة الطيور أو صياح الديكة، وسمعت إلى التواشيح الجميلة التي تسبق الأذان تمجد الخالق وتسبحه، ثم يتلوها أذان الفجر، وجدت أبا محمد (جدنا سليم) يسقي الزريعة بالماء الذي يجري فيها.. أو يهتم بأشجار الفاكهة.. ووجدت أم محمد تخبز الخبز الشهي على الموقد المتواضع.. وإذا توفر الخبز الساخن والعسل الجيد والخضروات الطازجة والبيض الطازج كانت أمامك مائدة عامرة.

مازلت أذكر مرافقتي للجد سليم وهو في طريقه إلى (طاحونة الجديدة) في الصباح الباكر.. حيث لديه دكان صغير يصنع فيها السكاكين الصغيرة والكبيرة وبعض الأدوات المعدنية البسيطة يبيعها لرواد الطاحون الذين جاءوا من القرى المجاورة يطحنون القمح أو الذرة.. يكدح طوال اليوم ويعود في المساء منهكاً من التعب يحمل معه بعض المال البسيط الذي يسدّ الرمق.. أو كمية من الطحين تخبزها أم محمد في الصباح.. كنت أستمتع بصحبته في طريقنا عبر البساتين إلى طاحونته، وبحكاياته الطريفة حين أجلس إليه في أوقات فراغه.. كنت أقضي اليوم في البساتين الخلابة البكر. والنهر الجميل الذي يمرّ عبرها.. وأحلام الطفولة كالفراشات تتطاير من منظر إلى منظر.. وكلها جميلة تأخذ بالألباب.

كان أبي شيخ شباب القرية.. فهو شيخ الصيادين.. يمكث الأيام مع الصيادين على النهر الكبير ولا يعود إلى القرية إلا يوم الأحد تنتظره مائدة عامرة من صنع والدته (أم محمد) المشهورة بطعامها اللذيذ.. وهو شيخ الشباب فلا تزف عروس في القرية، حتى يرفع الوالد (الجرن) المصنوع من الحجر الثقيل.. دفعة واحدة من الأرض إلى أعلى.. وعندما يكون الجرن في الأعلى تخرج العروس تحفها أهازيج النسوة ونغمات المزمار وضربات الطبل المتقنة.

وعندما تزوج الوالد.. اختار امرأة من آل حمود.. جمعت بين الشخصية القوية.. والرأي السديد.. والتدين الذي عرفت به أسرتها.. وبين السهولة الممتنعة التي عرفت بها أسرة الوالد.. والحزم الممعن الذي عرفت به أسرة الوالدة.. جاء الأبناء السبعة وقد أخذوا أقساطا متفاوتة بين هذا وذاك.. وطفلنا الذي يقدم نفسه اليوم أكثر ما يكون شبها بأبيه في الشكل والطبع.. ومن شابه أباه فما ظلم!

لم يستطع الوالد الذي كان معتزا بجسمه القوي، وشاربيه المفتولين، وكفاءاته التي ميزته عن شباب القرية، أن يكون واحدا من القطيع الصامت أمام بطش وجبروت (البيك). هددوه بالقتل. فما كان منه إلا أن هاجر إلى الأرض البعيدة.

كان الوالد حازما.. ولكنه سهل.. يغضب بسرعة ويرضى بسرعة كذلك.. وكان شديد العطف على أبنائه.. أذكر هنا حكاية ذات مغزى.. فلقد أصبت بالحمى وأنا صغير.. ومثل هذه الأمراض خطيرة خاصة في القرى البعيدة.. حيث لا طبيب ولا دواء.. أذكر الوالد كيف كان يضعني في حوض صغير ويسكب عليّ الماء ليخفف من فيح الحمى.. ثم يحملني ويضعني في فراشي.. كنت أشعر بيده وبنظرته وبحنانه ما يخفف عني وعكة الحمى..

يومها أيقن إبليس اللعين أنى أعيش ساعاتي الأخيرة.. وأن الموت أوشك أن يأخذ بأنفاسي فيكتمها.. فتمثل أمامي يشككني بوجود الله.. ويقول: لا تصدق أن الله موجود.. أراد اللعين أن يهلكني في ساعتي الأخيرة.. حتى صرفه الله عني.. ولله المنّة على ما ثبتني أمام عدو الله.

(3)

المواقف الحاسمة

 

تعذّر علي الاستمرار في مدرسة القرية، فقد كانت مدرسة تشرف عليها الطائفة الإسماعيلية (الأغاخانية). أساتذتها منهم وجميع الطلبة من أبنائهم.. وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي كانت تربطني ببعضهم إلا أني كنت أشعر بالغربة بينهم.

يومها أدركت أن غربة العقيدة.. هي الغربة الحقيقية، فإذا اطمأنت نفس الإنسان شعرت بالأمان والاطمئنان.. وإذا لم تشعر بالاستقرار كانت غريبة في ديارها.. بين أهلها وفي أوطانها..

ومع الغربة التي كنت أحسها.. فقد كنت علامةً مميزة ومتفوقة عند الأساتذة.. الأمر الذي جعل معظم الطلاب ينظرون إليّ بعين الحسد.. وربما تساءلوا: من أين جاءنا هذا الغريب؟ الذي أدهش الأساتذة بتفوقه.. وأخذ منّا فرص البروز.. مازلت أذكر أبياتاً حفظتها في حينها..

إن يحســدوني فإني غير لائمهـم غيري من الناس أهل الفضل قد حُسدوا

فتم لي ولهم ما بي ومـــا بهـم ومــات أكثرنـا غيظـاً بما يجــدُ

ولم أكن وحدي الذي يشعر بالضيق.. فقد كان الوالد يعاني من إرهاق المصاريف. فقد كنت الوحيد الذي يدفع أقساطا مرتفعة بينما الطلبة الآخرون يدفعون أقساطا رمزية.. فقد كانت الطائفة تعدّ أبناءها بالطريقة التي تطمئن على مستقبلهم ومستقبلها.

المحضن الجديد
وانتقلت من القرية إلى مدينة (سلمية).. حيث بدأت الدراسة في مدرستها المتوسطة الرسمية. وسلمية مدينة صغيرة.. على بعد قليل إلى الشرق من مدينة (حماة) وللمدينة تاريخ عريق.. فقد كانت يوما مركزا للدعوة الإسماعيلية عندما نشأت هذه الفرقة في أواخر العهد العباسي.. وللتعرف على هذه الفرقة لابد من الرجوع إلى كتب التاريخ.. وإذا كان الوقت لا يسمح فبالإمكان الاكتفاء بقراءة كتاب الثائر الأحمر للأديب الفنان علي أحمد باكثير.. فهو يمني الأصل.. وفي جبال اليمن نشأت هذه الفرقة الباطنية!

ولم يطل بي المقام حتى تعرفت على مجموعة من الأصدقاء.. بعضهم جاء مثلي للدراسة من القرى القريبة.. وبعضهم الآخر من أبناء البلد نفسه..

وفي المدينة شعرت بالاستقلال والمسؤولية أكثر من ذي قبل.. فقد كان عليّ أن أتدبر أمر المصروف ودفع إيجار الغرفة وتدبير الكتب القديمة التي نشتريها من الطلبة الذين نجحوا في صفوفهم..

إن نسيت عمري فإني لا أستطيع أن أنسى أحداث هذه الحقبة من حياتي..

كان شباب المدينة موزعين بين حزبين: حزب البعث العربي الذي يرفع شعارات العروبة والوحدة والحرية، وشعارا منمقا غامضا.. أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.. والحزب القومي السوري الذي يرفع شعارا إقليميا.. سوريا للسوريين والسوريون أمة تامة.. وكنت أشعر بالتعاطف مع حزب البعث لسبب بسيط هو أن قيادات القوميين السوريين كانوا يمثلون الطائفية في البلدة.. بينما زعامات البعث كانوا من عامة الناس.

وعلى الرغم من هذا التعاطف فإني لم استطع زيارة مركز الحزب ولو لمرة واحدة.. ولقد تعرضت لضغوط شديدة من أساتذتي الذين أحبهم من أمثال علي السلطان وعبد الله الجرف، ومن بعض زملائي مثل مصطفى سيفو وظافر دندي لحضور بعض المحاضرات في مركز الحزب.. إلا أن دافعا خفيا كان يشدني باستمرار ويبعدني عن هذه البيئة..

هناك أحداث تمرّ بالإنسان.. لا يعرف تفسيرها.. ثم يدرك أنها يد الله الحانية وعنايته الكريمة توجهه نحو هذا العمل أو ذاك.. أو تثنيه عن هذا الموقف أو ذاك التصرف..

أمام حبل المشنقة
مساء أحد الأيام من عام 1954م اجتمع نفر من الأصدقاء في غرفتي المتواضعة.. وراحوا يتحدثون في السياسة، وتطرق بهم الحديث إلى إعدام ستة من زعماء الإخوان المسلمين في مصر وأخرج أحدهم من جيبه كتابا صغيرا بعنوان.. (شهداء الإخوان أمام حبل المشنقة).. وتناول الكتاب أحد الشبان البعثيين.. نظر إليه نظرة شذراء ورماه جانبا.. شعرت بنظراته الحاقدة تملأ الجو فتفسده.. وشعرت فجأة بقشعريرة تهز كياني فاستنكرت هذا التصرف أشد الاستنكار.. ورفضت أن استمر في الحديث.. فلا تستقيم الشماتة والحقد مع الموت دفاعا عن فكرة. وبعد انفضاض السامر وجدت رغبة جامحة في قراءة هذا الكتاب..

قرأت في الكتاب خلاصة علاقة ثورة 23 يوليو 1952 مع الإخوان.. وكيف تعاهد هؤلاء الضباط مع الإخوان على إصلاح الأوضاع في مصر من منطلق إسلامي.. وكيف دبّ الخلاف بين جمال عبد الناصر والإخوان المسلمين.. وكيف حلّ جماعتهم وأعدم قادتهم.. ليحكم مصر وحده.. إذا قال كلمة وقفت مصر.. وإذا قال كلمة أخرى جلست.. ثم تحدث الكتاب عن الستة الذين أعدموا وإذا بهم من أرباب العلم والجهاد وعلى رأسهم عبد القادر عودة ومحمد فرغلي ويوسف طلعت..

هذه هي اللحظة الحاسمة في حياتي.. فلم تنقض هذه الليلة التي شهدت فجرها حتى أدركت بداية القصة.. وتصوّرت نهايتها.. وقررت أن أكون واحدا من ركب الإيمان وموكب أصحاب العقيدة السالكين طريقهم نحو الله.. رب العالمين.

في هذه الليلة وجدت نفسي.. وفي اليوم التالي بدأت أبحث عن نوع آخر من الأصدقاء.. فقد قررت أن أفتح صفحة جديدة في حياتي.

ما زلت أذكر هؤلاء الأخوة.. وما زالوا يحتلون مكانا في قلبي.. تقلبت ببعضهم الأيام.. وقست على بعضهم الظروف.. وتحوّل بعضهم إلى اتجاهات أخرى.. ومع ذلك فما زالوا عندي كما وصفهم شوقي:

ألا حبذا صحبة المكتب وأحبب بأيامهم أحبب.

وهذه نقطة تستحق الوقوف عندها.. فعندما يغير الإنسان اتجاهه الفكري.. فهذا يعني أنه بدأ حياة جديدة.. البيئة غير البيئة.. والجيران غير الجيران.. والأصدقاء غير الأصدقاء.. والكتب التي يطالعها غير الكتب القديمة.. والسلوك غير السلوك السابق.. أما أن يستعير الإنسان بعض أدوات هذا المنهج.. ويمزجها مع أدوات المنهج الآخر.. فهذا يفسد العمل ولا يسمو بالعقل والوجدان والروح.

ولابد من القول.. أن الشعوب في البلاد العربية قاطبة وخاصة في سوريا.. خرجت عن بكرة أبيها بما فيها جميع الأحزاب على اختلاف اتجاهاتها تستنكر فعلة عبد الناصر.. وتحيي الإخوان الذين تصدوا للاتفاقية المصرية البريطانية المجحفة بحق الشعب المصري..

التفوق في الدراسة
كنا في المدرسة أنشط الطلبة وأكثرهم حركة.. وعلى الرغم من أن غالبية الطلبة والأساتذة كانوا من البعثيين إلا أننا كنا نتمتع باحترام الجميع.. ومن أول الدروس التي تعلمتها في هذه الفترة هي أن الداعية ينبغي أن ينتزع إعجاب زملائه وتقدير أساتذته. فالذي يحترم نفسه.. يحترمه الآخرون مهما تباينت الآراء واختلفت المفاهيم، هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى فلا مجال أمام أصحاب الأفكار الجادة أن يكونوا عابثين في ميدان الدراسة..

**

زارنا مرة مفتش الرياضيات.. وبدأ يسأل الطلبة ليتعرف على مستواهم في هذه المادة الهامة.. سأل عدة أسئلة.. ووجه لي ملاحظة وشكرا.. فقد كنت الوحيد في الصف الذي أجاب على جميع أسئلته.

الطلاب اليوم لا يقرأون ولا يتفوقون.. فقد شغلتهم كرة القدم.. وركوب السيارات.. والتلفونات النقالة وبرامج التلفزيون.. عن المدرسة والتعليم.

ولم يكن ذلك نغمة نشازاً في لحن حياة هؤلاء الطلاب. بل نتيجة خطة محكمة طبقوها عليهم.. فأشغلوهم بالامتحانات التي لا لزوم لها.. ولم يتركوا لهم أي وقت لأي نوع من النشاط.. باستثناء نشاط الفساد..

أيامنا كان الطالب هو الذي يقود الحركات السياسية.. والطالب اليوم لا يفهم من ذلك شيئاً.. أكثر من أن السياسة نوع من الانحراف.

ولا يمكن إصلاح الأمور في بلادي.. حتى يتسنم الطالب موقعه الصحيح.. ويقود تيار التغيير.

(4)

الأستاذ أحمد عبد الغني

  

ولا أستطيع في هذه الفترة أن أنسى أستاذنا الجليل المربي الكبير ابن مدينة الزقازيق أحمد عبد الغني (رحمه الله).. فقد كان مهندسا زراعيا مصريا منتدبا للعمل في سوريا.. وقد استقر به المقام في المدرسة الزراعية في السلمية. تعرفنا عليه وتتلمذنا على يديه.. كان عندنا الاستعداد وكانت لديه الطاقة فنتج عن ذلك الخير الكثير..

كل شيء في هذه الحياة يحتاج إلى من يتعهده.. النبات والشجر.. يحتاج إلى من يهيء له الأرض ويسمّد له التربة ويتعهده بالماء وينزع عنه الأعشاب الضارة.. ويقوّي النبتة إذا مالت ويحجب عنها الريح إذا انحنت.. وكذلك الإنسان.. فمثلما يحتاج الإنسان إلى صديق صدوق يميل برأسه على صدره يبثه ذات نفسه كلّما ضاقت نفسه، كذلك يحتاج إلى مرشد معلّم يأخذ بيده، وينصحه، ويعلّمه، ويربيه، ويكون له القدوة الصالحة..

تمرّ السنون.. ولا تزيد مشاعري إلا تألقاً.. كلما ذكرت هذا الرجل العظيم..

آه يا أستاذي الحبيب.. كيف أنساك؟

كيف أنسى الدروس.. كيف أنسى الليالي التي كنّا نقضيها بالعبادة..

كيف أنسى يوم كنت في بيتك وكنت متعباً.. فأرسلت لي سيارة بعد أيام إلى قريتنا لتأخذني إلى الطبيب في دمشق.. كيف أنسى يوم كتبت لنا من مصر أنهم كانوا يسجلون عليك حتى مناجاتك ربك في السحر..

نعم..

إن الإنسان الذي يرغب أن يتصدى للعمل العام.. وأن يكون من دعاة الإسلام.. عليه أن يكون للآخرين الأستاذ المعلم.. والشيخ المربي.. وصاحب البيت.. ورفيق الصبا.. والقدوة في كل ذلك..

وإذا كانت التربية تبدأ بعقد رباط الحب بين المعلم والمريد.. بحيث يكون التلميذ أخا أو ابنا لمعلمه.. فإن القدوة هي الدرجة الثانية في سلم التربية الإسلامية.. وكل تربية عميقة.. وكل مريد مرتبط بدعوته.. هو نتاج مرب قدوة.. عمل ما عمل مع تلميذه وهو يبغى وجه الله تعالى.

ولقد كان أستاذنا أحمد عبد الغني (ابن الزقازيق) كل ذلك، رحمه الله رحمة واسعة..

إن العاطفة التي نمت بيننا وبين الرجل.. والتي كان أحدنا يبكي عندما يلقاه.. هي المشاعر التي نحس بها اليوم.. والتي نستشعر يده في كل مكرمة نحسنها.. ونقوم بها هذه الأيام.. فمن سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

كنت في مكة المكرمة أؤدي سنة العمرة.. فلقيت شاباً وسيماً وعندما عرفني بنفسه قال: أنا أيمن عبد الغني من الزقازيق..

قلت: ابن أحمد عبد الغني؟ قال نعم. ومرة أخرى تعود الذكريات حية في نفسي.. حسبتني بين يدي والده أتعلم منه وأقرأ على يديه سفر الحياة.

حدثني أيمن عن أسرته وأعطاني بعض التفصيلات عن والده.. فلم يحدثنا أستاذنا عن نفسه أبداً.

توفي أستاذنا في السعودية.. وكان حيثما حلّ.. الأستاذ الداعية المربي.. ولقد بارك الله له في أسرته فكلهم شباب وشابات من فروع شجرة الدعوة المباركة.

قد ألتقي ببقية الأبناء في يوم من الأيام.. لأحدثهم حديث النفس.. وأطلعهم على سر تعلمته من أبيهم.. وهو أن الحياة حب في الله..

(5)

الفكر الحركي بين الأصالة والانحراف

  

ولقد استنطقتني الأحداث.. فكتبت كتاب الفكر الحركي بين الأصالة والانحراف.. تكلمت فيه عن العنف.. ومحاولات التغيير التي تقوم على الانقلاب والثورة واستخدام السلاح.. وقلت أنها لا تؤدي إلى تغيير مفيد.. وقد توصل الأمة إلى مزيد من التخريب! واستقبل الكتاب من البعض استقبالاً حسناً. ورأى البعض الآخر فيه نوعاً من الهرطقة! وما زلت أذكر عبارة كنت أقولها لمن يستنكر علي ما كتبته في هذا الكتاب.. كنت أقول: عد إليّ بعد 15 سنة لنناقش الموضوع. تحملت النقد الجارح.. بل والتشكيك أحياناً.. ولم أعبأ.. فقد كانت سلامة الفكرة أهم عندي من أي شيء آخر. كنت أعتقد أن الشباب المتحمس يحتاج إلى من يقول له كلمة مفيدة. قد لا يستوعبها في وقتها.. ولكنه سيفعل في المستقبل القريب. ولا بأس أن أثبت هنا ما كتبته في ذلك التاريخ حول هذا الموضوع.

(6)

تحديات العنف

  

تعد قضية العنف واستعماله كسلاح في وجه النظم السياسية في المجتمعـات الإسلامية من أكثر القضايا إثارة للجدل والمنازعة، كما أن تلك الظاهرة تـمثـل تحديا أساسيا لكل من الجماعات الإسلامية التي تتخذ من الإسلام راية وشعارا، وتحديا أكبر للنظم السياسية الحاكمة في تلك البلاد.

ولا يخفى أنه ما إن يطرح مشروع إسلامي في بلد ما، حتى تنهال عليه وتلصق به وبالقائمين عليه أشنع الاتهامات.. حتى باتت كلمات الأصولية، والتطرف، والإرهاب، والعنف، والعداء للديمقراطية مادة للإعلام البذيء يوزعها على كل من يطرح مشروعا إسلاميا على الساحة.

بين بورما والجزائر
الكاتب اللبناني (رغيد الصلح) كتب في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ (8/12/1995م) مقارنا بين أحداث بورما وأحداث الجزائر التي وقعت في أوقات متقاربة وظروف متشابهة، يقول: كادت المواجهة بين الجيش والمعارضين في بورما تتحول إلى بداية حرب أهلية.. غير أنه وعلى الرغم من حدة التوتر وشدة القمع الذي مارسه الحكام العسكريون فإن الصراع بين الحكم والمعارضة لم يصل إلى حدود الانفجار وأمكن إعادته إلى إطاره السياسي. بينما حدث العكس في الجزائر فقد انفجر الموقف بين الجيش وجبهة الإنقاذ الإسلامية المعارضة التي نادت بالجهاد لإعادة الشرعية.. وخسرت البلاد الكثير من دماء أبنائها ومن مكانتها الاقتصادية والسياسية..

لماذا هذا الفرق..؟ يقول الصلح: هناك تفسيرات للفارق بين الحالة البورمية والجزائرية تعود إلى الأوضاع الثقافية والاجتماعية في البلدين، ولكن لابد هنا من التوقف طويلا أمام الفارق السياسي بين معارضة قامت أساسا على النهج الديمقراطي في بورما.. وبين معارضة لم تقم على هذه المبادئ ولم تهدف أساسا إلى إقامة نظام ديمقراطي. ويخلص الأستاذ الصلح: إن الالتزام الديمقراطي يشد صاحبه إلى ساحة العمل السياسي دون غيره، أما الجماعات والقوى الأخرى فإنها أكثر استعدادا للتعامل مع العنف والعمل المسلح للوصول إلى أهدافها.

هكذا يريدون أن يثبتوا في أذهان الجميع أن العمل الإسلامي لا يمكن أن يتفق مع العمل السياسي السلمي بعكس حركات المعارضة الأخرى.

عموس برلموتر كتب في الواشنطن بوست (مارس 1992م) مقالا تحت عنوان: (الإسلام والديمقراطية لا يتفقان) قال فيه: إن أحداث الجزائر لا تثير فقط قضية الديمقراطية في العالم الثالث أو الدول الإسلامية، كما يتصور البعض، ولكن المسألة الأهم التي تثيرها تلك الأحداث هي حقيقة موقف الإسلام، الذي اعتبره الكاتب (مخاصما للديمقراطية بطبيعته ومحقرا لها)!

هناك محاولات كثيرة لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.. بالرغم من كل الأصوات العاقلة التي تصدر عن الحركات الإسلامية الرئيسة في العالم تستنكر الإرهاب والعنف كأسلوب للتغيير..

جريمة بحق الفرد والمجتمع
ونريد أن نسجل ابتداء أن العنف جريمة بحق الفرد والمجتمع والسلطة الحاكمة وبحق الإسلام كذلك.. وفي الوقت نفسه نحب أن نقول إن العنف لم يكن في أكثر الأحيان وليد رغبة، وإنما رد فعل تلقائي لممارسات القمع والإرهاب والإذلال من جانب النظم السياسية فكلا الفريقين في الجريمة سواء.

ومهما تكن التحليلات التي قال بها المتطرفون من الإسلاميين, والأسباب التي تذرعوا بها لحمل السلاح في وجه الآخرين, فإن الحركات الإسلامية الرئيسة ترفض هذا الأسلوب لا من منطق التقية، إنما ليقينها بأنه أسلوب يجانب التعاليم الإسلامية الصحيحة. فالآية الكريمة التي تقول: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون..( .. والتي توهم البعض أنها تعني الحكام فقط.. فهو مجرد توهم. فالآية تعني: كل من حكم في دين الله سواء كان حاكما أم قاضيا أم مفتيا أو غير ذلك من عامة الناس.. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الصحابي ابن عباس والتابعي طاووس اليماني قالا: إن الآية ليست على ظاهرها وإطلاقها وإن الكافر هو من حكم بغير ما أنزل الله جاحدا، وإن من أقر بحكم الله وحكم في الأمر على خلافه فهو ظالم فاسق.. وبذلك قال السدي وأبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وابن حزم وابن تيمية. أما عموم الناس داخل المجتمعات الإسلامية فإنه لا خلاف في حمل حالهم على الإسلام.. برغم ما يشوب سلوكهم من معاص.

ويترتب على هذا الفهم كل ما ترتبه أحكام الإسلام من حرمة الدماء والأعراض.

هذا هو فهم الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية والحركات الإسلامية الأخرى الرئيسة في العالم.. فهم يستنكرون العنف ولا يقرونه، عبادة وليس توهما أو خوفا أو تقية.

أمّا التيارات التي تعتمد العنف والقتل فهي تنطلق من فكرة أخرى مؤدّاها تكفير الحاكم أو النظام ككل.. أو تكفير المجتمع كله (كما تذهب بعض الفصائل)..

وترفض هذه الفصائل بالطبع سياسة الإصلاح القائمة على التدرج التي تتبناها الحركات الإسلامية.. وبناء عليه فإن هؤلاء لا يعادون النظام فحسب بل ويصبّون جام غضبهم على كل حركة إسلامية لا ترى رأيهم(عن بيان للإخوان المسلمين حول العنف وموقف الجماعة منه (مايو 1993م).).

بين النظرية والتطبيق
هذا هو موقف الحركة الإسلامية من حيث المبدأ.. أما في التطبيق.. فلم ينل شيء من الحركة الإسلامية كما نال منها العنف..

ففي أفغانستان.. توحّدت الأيدي المسلمة فطردت المحتل الغاصب من أفغانستان.. ولكن العنف المتأصل عند البعض.. دفعهم بالرغم من جميع الشعارات الإسلامية التي طالما ردّدوها، إلى التحالف مع القوى المتآمرة للوصول إلى السلطة.. مستهينين في سبيل هذا الهدف بكل القيم والمبادئ ودماء الناس وأعراضهم.. وأصبح (نتيجة هذه العقلية الإرهابية) الحلم الجميل في إقامة دولة الإسلام في أفغانستان كابوسا يؤرق كل من ساهم في رفع راية الجهاد بماله أو حياته.

لقد أحرقت صواريخ أهل العنف كابول.. ودمّرت الحياة على أرضها.. وصار بإمكان الشعب الترحم على الشيوعيين.

وفي سوريا.. ترعرعت نبتة العنف عند بعض الإسلاميين الذين لم يرزقوا سعة في الفهم أو بسطة في الإدراك.. كل رأسمالهم كان دفعة كبيرة من الحماس.

كانت الحركة الإسلامية في سوريا تستنكر هذه المواقف في البداية..( كما جاء في البيان الرسمي الذي أصدره الإخوان، أدانوا فيه مذبحة مدرسة المدفعية)..

ولكن ظروفا غير طبيعية مرّت بها الحركة، تحكمت فيها الآراء الفردية، وشاعت الانقسامات، وتبودلت الاتهامات بين أبناء الفريق الواحد، وتصاعدت المزايدات المتطرفة تدغدغ عواطف الشباب لجذبهم إلى هذا الصف أو ذاك. هذه الظروف جعلت فريقا من أبناء الحركة يستسلم للعقلية الإرهابية التي تتنافى والمبادئ القويمة في الدعوة إلى الله.. ولقد دفعت الحركة الإسلامية في سوريا ذات التاريخ المجيـد ثمنــا باهظا.. نال من استقلاليتها.. ومن تميزها ونقائها.. كما دفع الشعب المسلم الكثير من أمنه وسلامه. وفي ظل المذبحة خسر الإسلام والمسلمون الكثير.

وفي الجزائر.. عندما انقاد الشعب الجزائري للإسلام.. واختار جبهة الإنقاذ الجزائرية عبر صناديق الاقتراع.. قامت بعض القوى الأوربية المتربصة باستخدام الجيش لإجهاض التجربة الديمقراطية.. وبدلا من أن تسلك الجبهة الإسلامية للإنقاذ الأسلوب الدعوي السلمي الراقي في قيادة الأحداث، استخدمت الأسلوب العسكري المتطرف وكانت الفرصة التي ينتظرها متفرنسو الجيش فاطبقوا على الإسلاميين يقتلون وينسفون حتى زاد عدد القتلى عن المائة ألف.. قد يقول قائل: ولكن الجيش هو المعتدي.. والجواب: هؤلاء مستمرون في العدوان.. ولكن ما بال الحركة الإسلامية تستسلم للإرهاب فتعطي المبرر للآخرين لسحق المعارضة وخاصة الإسلامية..

الأمثلة كثيرة.. وكلها مواقف متعجلة متشنـجة تنطلق من تحليلات سطحية للأحداث ولعملية التغيير.. قادها مراهقون في السن أو في الفهم، وزينها بعض الكتاب المتطرفين.

قد تُعجب هذه الأحداث بما فيها من قوة.. بعض الشباب الذي لم ينل حظه من التربية..

ولكن نتائجها مدمرة على الجميع على الأفراد والمجتمع، على الأمة وخاصة على الحركة الإسلامية.

المطلوب من الإسلاميين أن يكونوا روّادا لقيم الدين العظيمة، ودعاة الحكمة والموعظة الحسنة، والأمر بالعدل والإحسان والنهي عن المنكر والبغي، وأن يؤدوا واجبهم في العمل ضد من يخرق قيم الإسلام الخالدة ويروّج للعنف ويريق الدماء سواء صدرت تلك الأفعال من الحكومات أو الأحزاب أو نبعت من التقاليد والعادات(ليث كبة – الحياة 3/6/1996م)..

ظاهرة عالمية
والعنف أو التطرف ظاهرة عالمية، تتسم بمجموعة من السمات المشتركة، أهمها توهم احتكار الحقيقة والتفكير القطعي ورفض الاختلاف أو التعددية، واستخدام الألفاظ والمصطلحات السياسية الغليظة كالخيانة والكفر والفسوق.. إلخ(عز الدين هلال – ندوة حول التطرف الفكري عام 1994م). ولـقد حدد مفتـي مصر د. سيد طنطاوي المتطرف بأنه المتجاوز للحدود الشرعية في أي أمر من الأمور حتى في العبادة نفسها. أما القرضاوي فيرى سبب التطرف في التعصب للرأي تعصبا لا يعترف معه للآخرين بوجود.. ومن مظاهره الغلظة في الدعوة وسوء الظن بالآخرين. ويبلغ التطرف غايته حين يُسقط المتطرف عصمة الآخرين ويستبيح أموالهم ودماءهم(كتاب ظاهرة الغلو- د. يوسف القرضاوي).

وبالرغم من عالمية الظاهرة إلا إن للمتدينين نصيبا وافرا فيها.. بل قد يكون المتطرف المتدين هو الأخطر بين زملائه المتطرفين.. فسرعان ما يجد لسلوكه فتاوى فقهية يقنع نفسه بها كفكرة التكفير وبالتالي جواز قتل الناس وسبي النساء ونهب الأموال بحجة أن هذا كله حقا للمسلمين وحدهم. (والمقصود بالمسلمين هنا هم أفراد التنظيم المتطرف). ولن تعدم الساحة أعدادا من علماء السوء الذين هم على استعداد دائم لإصدار فتاوى القتل والتدمير.

هل التطرف جزء من مؤامرة..؟
ويحلو للذين يفسرون كل شيء بالمؤامرة.. أن يقولوا إن هناك مؤامرة تستهدف الإسلام ينفذها المتطرفون عن علم أو جهل..

ولا بأس أن نقول إن اختلاط المفاهيم، وعدم وضوح الرؤية، وضعف التربية وازدواجيتها، وضعف القيادات الفكرية، وتناقض الأدبيات، واستبداد وتطرف الأنظمة.. كل ذلك مسؤول عن هذه الظاهرة المنحرفة.

وعلى الإسلاميين أن يقتدوا بكلمات الإمام حسن البنا الذي وصف الرصاصات التي قتلت القاضي الخازندار كأنها انطلقت في صدره.. ووصف أولئك الذين قتلوا النقراشي بأنهم ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين، وبموقف أربكان الذي أبعد الشباب المتطرف من حزبه.

إن المتطرف هو أخطر على الإسلام من كل ما عداه. وهو أقرب للعدو فسرعان ما ينتقل من الضد إلى الضد لأنه لا يعرف معنى الاعتدال(تحديات سياسية تواجه الحركة الإسلامية- مصطفى محمد الطحان، ص- (126-132)).

   

(7)

قصة النفير العام

  

إعلان النفير العام.. من المواضيع الهامة، التي كشفت النقاب عن كثير من الأمور حتى المستور منها.

يوم 9 شباط (فبراير) 1982م اتصلت المخابرات الأردنية بالأستاذ عدنان سعد الدين في عمان، وأخبرته أن أحداثا خطيرة حدثت في مدينة حماة يوم 2 شباط (فبراير)، وأن الجيش السوري قمع المعارضة المسلحة وهو يصفي الآن جيوب المقاومة الباقية في المدينة. فتداعى الإخوان من فورهم إلى اجتماع طارئ قرروا فيه الانتقال إلى بغداد فورا، وأعلنوا النفير العام لجميع من له علاقة بهم من الإخوان.. وأمروهم بأن يتجمعوا فورا في بغداد للزحف إلى سوريا لنجدة مدينة حماة..

ولك أن ترى الإخوان الذين ارتفع حماسهم إلى أعلى درجة.. وهم يتجمعون من كل حدب وصوب.. هذا ترك وظيفته وقدم استقالته واستودع أهله على أن يلقاهم قريبا في دمشق في ظل دولة إسلامية.. أو يلقاهم في الجنة.. وذاك ترك مصنعه أو متجره أو دراسته وباع كل ما يملكه من طارفه وتليده واتجه نحو بغداد يؤدي شرف الجهاد، وبلغ الحشد نحو 1500 شاب من خيرة شباب سوريا.. ومن أعلى كوادرها العلمية.. ومن أرقى تخصصاتها، تجمعوا في معسكرات أعدها لهم العراقيون على عجل..

وبدأت الإذاعة العراقية من خلال برنامجها الخاص (صوت المجاهدين) تشحن الناس وتحض المجاهدين على الجهاد.. لتحرير بلدهم من رجس الطاغوت..

خطاب الشيخ سعيد حوى
في هذا الإطار، أذاع الشيخ سعيد حوى القائد العسكري للقوات الضاربة خطابه من راديو بغداد بتاريخ 16 شباط (فبراير) 1982م(أي بعد انتهاء موضوع حماة بأسبوع).. قال فيه:

لقد أصبح الشعب كله بفئاته وطوائفه جبهة واحدة، تؤكد وحدة الماضي والحاضر والمستقبل، وتسقط كل ما رتبه الطاغية أسد من خطط التفرقة وحسابات الاستبداد والخيانة، وقد راهن الطاغية على مصارعة الإسلام فصرعه الله عز وجل، وراهن على الطائفية فحطمه رهانه، وراهن على سلخ الجيش عن الشعب فالتحم الجيش بشعبه، وراهن على اصطناع حصون من مرتزقة المليشيات فانهارت وأخذت تنقض عليه حصنا حصنا، وراهن على تغطية صفقاته الخيانية في لبنان والجولان وأرض الأنبياء فانفضحت كلها دفعة واحدة، فاختلف أسياده وقرروا الاستغناء عن خدماته التي أثبتت عقمها وبوارها ولم يبق له إلا الخزي في الدنيا والآخرة.

إننا نعلن إلى شعبنا المجاهد الأبي:

إن شعبنا كله قد اتخذ قراره وهو إسقاط الطاغية حافظ الأسد، وإقامة نظام شعبي حر يتساوى فيه المواطنون جميعا في الحقوق والواجبات.

إن المغرورين والمورطين من حول الطاغية مدعوون للمرة الأخيرة إلى الانفضاض عنه والالتحام بالشعب فمن ألقى سلاحه منذ اليوم وأغلق عليه بابه فهو آمن على ماله وعرضه ودمه..

بيان الأستاذ عدنان سعد الدين
وبتاريخ 19 شباط (فبراير) 1982م (أي بعد عشرة أيام على انتهاء قضية حماة!) ألقى الأستاذ عدنان سعد الدين خطابا موجها لإخوانه النصيريين جاء فيه:

بكل الحس الوطني المرهف هب الشعب السوري يقارع المحتل ويجاهد صفا واحدا متراصّا يقف فيه المسيحي مع المسلم والعلوي إزاء السني لا عصبية ولا إقليمية ولا طائفية. وكان يقود الجماهير الثائرة في حرب الاستقلال رجال ينتمون إلى الشعب كله كان من أبرزهم إبراهيم هنانو وتوفيق الشيشكلي وهاشم الأتاسي وشكري القوتلي وصالح العلي وسلطان باشا الأطرش. فكان من ثمرة هذا التلاحم استقلالنا الناجز.

أيها المواطنون من أبناء الطائفة العلوية

 مدوا أيديكم إلى أيدي إخوانكم في سوريا.. فكلكم شعب واحد عاش القرون في سلام، وما كان المواطن ليخطر بباله أن يسأل خالدا أو عليّا عن مذهبه أو طائفته.

وفي نداء آخر وجهته قيادة الثورة الإسلامية في سوريا بتاريخ 20 شباط (فبراير) 1982م (أي بعد 11 يوما من انتهاء قضية حماة) جاء فيه:

إننا نعلن لحظة التفجير العام في مدينة دمشق، وسوف نواجه الطغيان من بين يديه ومن خلفه، ومن تحت الأرض ومن فوقها، ولن ندع له مكانا للهرب.

من أجل ذلك ندعو أبناء العاصمة:

1- إلى إعلان العصيان المدني.

2- إلى إغلاق المتاجر والحوانيت والمدارس والجامعات.

3- نتوجه بندائنا إلى الهيئات الدبلوماسية في دمشق لكي تأخذ حذرها وتبعد رعاياها عن مواقع الاشتباكات.

بيانات الثورة!
وبدأت إذاعة المجاهدين في بغداد.. وإذاعات أجنبية مختلفة تبث بيانات تنسبها إلى الثورة الإسلامية.. ومن هذه البيانات:

بيان أذيع يوم 14 شباط (فبراير) 1982م ذكر أن معنويات المجاهدين عالية، وأنهم يسيطرون على المدينة، وقد دمروا للنظام 70 دبابة في شارع العلمين ودمّروا بيت المحافظ ودمّروا كل مراكز سرايا الدفاع والصراع في مدينة حماة.

وفي يوم 18 شباط (فبراير) 1982م ذكر البيان أن المجاهدين نسفوا وزارة الإعلام في دمشق.

وفي بيان آخر أعلنوا انضمام اللواء 47 للمجاهدين في حماة.

وفي بيان آخر أعلنوا انضمام اللواء 21 وأن قسما منه تم تدميره بينما انضم للمجاهدين القسم الآخر.

وفي بيان آخر أعلنوا إسقاط عدد من الطائرات وأن مطار حماة أصبح بيد المجاهدين.. كما أعلنوا أن إذاعة حلب انضمت إليهم..

أمام هذه البلاغات التي لا نصيب لها من الصحة، لا بأس أن نلقي نظرة على الإخوان في معسكرات الرشيد على مسافة نحو عشرين كيلو مترا من بغداد   على طريق الموصل والتي استقبلت نحوا من 1500 شاب من خيرة عناصر الإخوان.. فماذا كان يدور فيها..؟

1- تشكلت لجان عسكرية تضع الخطط لإنزال حملات سريعة إلى مختلف المدن في سوريا. كان الشباب لا ينامون إلا قليلا ليتفرغوا للتدريب العسكري والتعرف على أسلحتهم وتنظيفها، ونقل الذخائر، وتوزيعها على الحملات المختلفة التي انكبّ قادتها الشباب على إعداد المخططات والدراسات في ظروف سيئة للغاية، فقد كانت المعطيات لا تكاد تذكر، وكان عليهم الانطلاق من الصفر.

2- أعلنت حملة حلب أنها على استعداد للنزول والمشاركة في المعركة ابتداء من 16 شباط (فبراير)1982م ثم أوقفت نزولها بحجة عدم كفاية الأسلحة! وأن الذخيرة غير متوفرة!!

3- كان المخطط أن تنزل هذه الحملات.. عبر الصحراء بلا حماية من أي نوع وتحت نظر الدنيا وبصرها.. بسيارات وانيت عادية.. وليس معهم أدلاء يعرفون طرق الصحراء.. والهدف اسقاط نظام حافظ الأسد وتدمير جيشه!! وانجاد مدينة حماة (المدمرة منذ شهرين)!

وفي يوم 8/3/1982م أعلمت القيادة الميدانية الفرعية قياداتها العسكرية بجاهزيتها واستعدادها للنزول..

وفي اليوم التالي جاء عدنان سعد الدين إلى المعسكر ليعلن حلّ النفير.. وليقرأ الشروط:

          1- حلّ النفير.. لأن حماة سقطت منذ فترة طويلة.

          2- طلب من الشباب أن يستمعوا من تلفزيون بغداد إلى أنباء سارة عن التحالف الوطني مع العراق.

وبدأت القيادات بالمبررات:

يبررونه للعالم الإسلامي الذي قدم لهم ملايين الدولارات.

ويبررونه للشباب البريء.. بأن عدنان عقلة هو الذي نزل إلى حماة واتفق مع أبي بكر على تفجير الأمور قبل انضاجها.

وفي بيانهم المؤرخ في 31/3/1982م.. برأت القيادة نفسها من التقصير، وألقت تبعة ما حدث على عدنان عقلة.. ثم زفّت للجماهير بشرى التحالف الوطني وقالت: أنها تعتبر ميثاق التحالف من أكبر الانتصارات السياسية للحركة الإسلامية، كما أنها تعتبره مقدمة لروح جديدة ستترك آثارها الكبيرة على مستقبل العمل السياسي في العالمين العربي والإسلامي!

وتساءل الشباب القادم من أطراف العالم في أمريكا وأوروبا، والذي ترك عمله في الخليج، والذي باع ما يملك، واللواتي تخلين عن حليهن، تساءلوا.. إذا كان النصر العظيم والروح الجديدة هو التحالف الوطني مع البعث العراقي.. فلماذا لم ننفّذه من يوم كشف النقاب عنه عدنان عقلة..؟!

أكان من الضروري أن نقسم الأيمان المغلظة على عدم وجوده..

أكان من الضروري أن تسقط حماة وتحدث المذبحة حتى يتم هذا النصر العظيم!

كلمة لابد منها

قصة النفير.. وما فيها من عبث!

وكلمة الشيخ سعيد وما تضمنته من ادعاءات..

وكلمة الأستاذ عدنان سعد الدين.. وإعلانه التفجير العام في مدينة دمشق.. ومواجهته الطغيان من بين يديه ومن خلفه، ومن تحت الأرض ومن فوقها..

وبيانات الثورة.. التي تمخضت فولدت فأراً.. مجرد ادعاءات وأكاذيب..!

ومع ذلك نسمي العبث الذي قاموا به.. ثورة!!

(8)

وماذا بعد حماة؟!

  

1- أصيبت القاعدة الإسلامية في سوريا بإحباط شديد، وبدأت تعيد النظر في الكثير من أولوياتها، ومن نظرياتها، ومن منطلقاتها..

2- بدأت القاعدة الإسلامية تستعيد ما ربيت عليه من مبادئ ربانية نظيفة، وما فهمته من تمايز، وما قامت من أجله لإقامة حكم الإسلام بعيدا عن هيمنة الكبراء والمخابرات والسلطات.. وبدأت تدرك كم استهتر البعض وهو يربطهم بهذه السلطة أو تلك. وهو يوغر صدروهم على قياداتهم السابقة، وهو يشعرهم أن أعظم نصر يمكن إحرازه هو التصالح مع أركان العلمانية البعثية في بلادنا، وهو يقودهم ليكونوا مجموعة من الرجال يهتفون للزعماء الطغاة بالروح بالدم نفديك أيها الزعيم!

3- الإعلام الكاذب والبذيء سواء من خلال نشرة النذير أو من خلال الإذاعة المنطلقة من بغداد.. جعل القاعدة الإسلامية تنفر من كل ما يشير إلى هؤلاء الذين تشوهت عقولهم وأفكارهم وتسلطوا في غفلة من الزمن على أنظف جماعة وأنظف شباب في هذا القرن.

4- أما الطليعة فقد انتهت إلى النهاية التي تناسب التطرف.. فالمتطرف لا يتغير ببطء.. بل ينتقل من الطرف إلى الطرف الآخر.. ولهذا انتهت الطليعة المقاتلة إلى مصالحة نظام حافظ الأسد.. وأصبح أغلبهم عناصر في جهاز المخابرات السوري.

أما قائد الطليعة عدنان عقلة.. فقد أوهموه أن آلاف الشباب ينتظرونه في سوريا.. فنزل مع من بقي من أنصاره ليلاقوا مصيرهم!

5- انشق الإخوان جناحا مع الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة يعترف به التنظيم العالمي..  وجناحا مع عدنان سعد الدين.

6- أجرى الإخوان مع النظام السوري عدة محاولات للتصالح.. في أولاها كان الأستاذ عدنان سعد الدين مراقبا عاما.. وفي الثانية كان الدكتور حسن هويدي مراقبا عاما وعدنان نائبه.. وفي الثالثة كان الشيخ عبد الفتاح أبو غدة هو المراقب العام. عقد اللقاء الأخير في ألمانيا الغربية وكانت شروط الإخوان للصلح:

          1- إلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية.

          2- إلغاء الدستور الذي أعطى الحكم صلاحيات استبدادية.

          3- إعلان الحريات العامة وضمان حرية التفكير والتعبير والحقوق السياسية لجميع المواطنين بدون تمييز.

          4- الدعوة إلى انتخابات حرة نزيهة يشارك فيها أبناء الشعب باختيار ممثليهم الحقيقيين.

          5- قيام هيئة تأسيسية تضع دستورا جديدا يلبي طموحات الجماهير.

          6- اعتبار الجيش مؤسسة وطنية تمثل الشعب كله وليس فئة أو طائفة أو حزبا.

الخلاصة

هذه هي خلاصة الحقبة التي بدأت مع عام 1969م، وامتدت على مدى أكثر من عشرين سنة.. مع الحركة التي رفعت السلاح لإسقاط السلطة.. وقيادة الثورة الإسلامية في سوريا.. والتحالف مع البعث.. والتصالح مع الأحزاب العلمانية.. والارتباط  بالمخابرات في أكثر من قطر.. وأخيرا إحباط كامل في نفوس الكثير من الشباب..

تاريخ أم أوراق مسافر؟

قد يتساءل البعض.. وهل يتناسب هذا السرد مع كتاب أوراق مسافر..؟

والجواب نعم. فالقضية مهمة:

بالنسبة لي شخصيا..

فقد كنت ولله الحمد ومنذ البداية.. استنكر الحدث وكل ما أحاط به من ظروف.. وأعتبره انحرافا عن خط الدعوة الأصيل.. عارضت، وابتعدت، وكتبت كتابين حول هذه التجربة المريرة، الفكر الحركي بين الأصالة والانحراف، وكتاب التحديات السياسية التي تواجه الحركات الإسلامية. أبرأت ذمتي.. وأنا اليوم أقدم شهادتي.

ولابد من أن أشير إلى أني دفعت الثمن باهظاً نتيجة لهذا الموقف.. فقد كان التيار جارفاً.. وكلمات الضعيف مثلي لا تكاد تُسمع. ومع ذلك فأنا شديد الاعتزاز بهذه الوقفة.. وبهذه الأفكار التي عاد يتحدث بها ويتبناها من اعتبرها في يوم من الأيام هرطقة!!

وأردت أيضا أن أبرأ الدعوة من هذه القضية.. فلقد كان ضمير الدعوة حيا يقظا مدركا لأبعاد الموقف وما زال كذلك.. أما الآخرون فمنهم من كشفته الأيام ومنهم من سينكشف.. ويبقى الضمير.. وتبقى الدعوة الإسلامية نقية بعيدة كل البعد عن هذا الأسلوب الشائن الذي لا يمثل بشكل من الأشكال روح وتعاليم وأسلوب الدعوة الإسلامية.

 

4 responses to “طفل من القرية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *