RSS

تركيا التي عرفت من السلطان إلى أربكان

الجزء الثاني من أوراق مسافر

المؤلف : مصطفى محمد الطحان

المقاس : 17 * 24

عدد الصفحات : 0

   الإهداء

إلى البروفسور الدكتور نجم الدين أربكان..

الأستاذ العالم..

والسياسي اللامع..

والداعية المتميز..

الذي جاء في وقت صعب.. وظروف عالمية معقدة.. وفي بقعة خطيرة..

فحاورها.. وداورها.. وركز فيها راية الإسلام عميقة الجذور، ممتدة الأفنان، وارفة الظلال.. جنية الثمار..

شهد له العالم.. وارتضى عمله العالِمون.. الصالحون.

وتمرد على فكره بعض أصحاب المصالح.. المتآمرون.

لهذا الرجل العظيم العملاق.. أهدي هذا الكتاب.

المؤلف / مصطفى محمد الطحان
25/6/2007م

صورة للمؤلف مع البروفسور الدكتور نجم الدين أربكان

المقدمة

تركيا التي عرفت.. من السلطان عبد الحميد إلى نجم الدين أربكان..

هو الجزء الثاني من سلسلة كتب (أوراق مسافر). وهو يتحدث عن تركيا وصراع الهوية فيها.. الهوية الإسلامية التي ميزت الدولة العثمانية منذ نشأتها.. تجاهد باسمها.. وتبذر الخير والفضيلة في كل مكان وصلت إليه طلائعها.. غدت يوماً القوة الكبرى في العالم.. تسوس الأمم وتوجه شؤونها.

وعندما تغيرت موازين القوى لأسباب داخلية عملت فتكاً في جسد الدولة العثمانية، ولأسباب خارجية شاركت فيها جميع الدول الاستعمارية.. بالإضافة إلى المنظمات الصهيونية التي اتخذت قرارها: أنه لابد من إسقاط الدولة العثمانية حتى يتمكن الغرب واليهود من إقامة إسرائيل على أرض فلسطين.

وقامت حروب محلية وعالمية.. وحدثت مؤامرات وانقلابات.. أدت إلى سقوط الخلافة الإسلامية.. وأعلنت العلمانية اللادينية.. وأنهت من الوجود والشهود كل ما يشير إلى الإسلام كحكم وأنظمة حياة.

وبقي الشعب ممزقاً بين طبقتين تتنازعان.. إسلامية تريد العودة إلى الإسلام الذي أنشأ هذه الأمة من لا شيء.. وعلمانية تريد الإلتحاق بأوروبا ونسيان الماضي وتشويه التاريخ.. وما زال الصراع مستمراً.

ولقد كنت باستمرار من أنصار القضية الإسلامية التي تذكرنا بالخلافة الإسلامية، فقد كانت هذه القضية هي مركز الصراع.. ليس في تركيا وحدها.. بل وفي جميع البلدان الإسلامية الأخرى.. فقد كان الغرب.. وجميع الأحزاب التي أنشأها وباركها ومكّنها تهاجم العثمانيين وتخص منهم السلطان عبد الحميد.. ومقابل ذلك كان الإسلاميون يحنون إلى التاريخ المجيد.. وإلى البطولات العثمانية التي نشرت الإسلام في أنحاء العالم.. وكانت أنظارهم مركزة.. تتابع الصحوة الإسلامية الحديثة في تركيا التي أنشأها وأدار حلقاتها بمهارة عالية البروفسور الدكتور نجم الدين أربكان.

في هذه الفترة ساقتني الأقدار للدارسة في كلية الهندسة في استانبول.. لأجد نفسي في المقاعد الأولى في مسرح الحياة السياسية التركية.. قريباً من مؤسس الحركة الإسلامية.. معنياً بالأحداث.. وصلة الوصل بين أجزاء الحركة الإسلامية.. حتى بدأ الناس في داخل تركيا وخارجها يشيرون إليّ كناطق غير رسمي باسم هؤلاء.. وكان الأستاذ أربكان خاصة يحيطني بالرعاية والعناية.. وكنت بالمقابل شديد الإعجاب بحيويته وذكائه وألمعيته وحبه.. لقد بادلته حباً بحب.. والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف!!

لهذه الأسباب.. فقد رأيت أن من واجبي أن أكتب شيئاً عن تركيا.. كتبت في البداية (الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا).. وفيها سردت الأحداث حتى عام 1980م.. ثم تطورت الأحداث.. فكان لابد من إضافات وتحليلات.. فكان هذا الجزء من أوراق مسافر الذي أسميته (تركيا التي عرفت.. من السلطان إلى نجم الدين أربكان).. وأريد من هذا البحث:

* أن أجليّ صورة عايشتها عن قرب.. أعرف خلفياتها كما يعرف غيري صورتها الظاهرة..

* وأن أقول لبعض من يتحمسون لهذه الفكرة أو غيرها.. أن السياسة الحقيقية تنطلق من المعرفة.. ولا تنطلق من مجرد الأحلام.

والحمد لله رب العالمين

     المؤلف  25/6/2007م

(1)

تركيا في التاريخ

 قامت الحضارة على الأرض التركية في وقت مبكر، وإن كان تاريخ الأناضول لم يبدأ إلا بقيام دولة الحثيين التي ازدهرت بين 1600 – 1200 ق . م. وكان أحد مصادر قوة الحثيين هو الحديد الذي أول ما صنع في الأناضول.

وجرى صراع بين الحثيين والمصريين استمر حقبة من الزمن، ثم بدأت علائم الضعف والانحلال تظهر على الإمبراطورية الحثية.

وفي هذه المرحلة بدأ اليونانيون يغزون شواطئ بحر إيجه، ثم غزا الإيرانيون البلاد عام 546 ق . م، تلا ذلك غزو الإسكندر الأكبر المقدوني لها عام 334 ق. م، ثم جاء الرومان عام 190 ق . م، وفي عام 330م أنشأ الإمبراطور قسطنطين مدينة القسطنطينية التي اتخذها عاصمة الدولة الرومانية الشرقية.

وتميزت هذه الفترة بالحروب الدائرة بين الرومان والفرس.

وتحركت الجيوش الإسلامية في عهد الخليفة أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما، واستطاعت أن تزيح الروم المحتلين عن مواقعهم في بلاد الشام بقيادة أبي عبيدة وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، وعن مصر وسواحل أفريقيا الشمالية بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وتم للمسلمين فتح قبرص عام 28هـ، ورودس عام 33هـ، وكريت عام 55هـ، ثم تحركت الجيوش الإسلامية نحو الشمال فاستولت على القسم الشرقي من دولة الروم، وغدت جبال طوروس حداً فاصلاً بين الجانبين(تركيا- محمود شاكر، ص- 28).

وفي الوقت نفسه أغار عياض بن غنم على بلاد ما وراء القوقاز عام 19هـ، ثم فتحها حبيب بن مسلمة عام 23 – 31هـ وقد كانت هذه المناطق من قبل مسرحاً للصراع بين الروم والفرس، وغزا المسلمون القسطنطينية منذ عام 50هـ أيام معاوية بن أبي سفيان.

وعندما ضعفت الدولة العباسية،  ظهرت جموع من الترك الأوغوز تتجه من سهوب تركستان وتجتاز بلاد ما وراء النهر وتعتنق الإسلام، ثم تنتقل إلى الأناضول لتجابه البيزنطيين فتهزمهم في معركة ملاذكرت الشهيرة عام 464هـ وتدحرهم من آسيا الصغرى كلها ويصبح هؤلاء الترك سادة المنطقة أولئك هم السلاجقة. وكانت عاصمتهم مدينة قونية.

في هذه الفترة قامت الدولة العثمانية والتي استطاعت أن ترد الهجمات الصليبية عن العالم الإسلامي وأن تنقل مركز الصراع من أراضي المسلمين إلى أرض العدو نفسه.

تركيا في الجغرافيا

تقع تركيا في منطقة تتقاطع فيها قارات أوروبا وآسيا، وهي من أهم البلدان الاستراتيجية من حيث موقعها الجيوبوليتيكي.

تبلغ مساحتها 815 ألف كم2 وعدد سكانها (عام 2005م) حوالي 70 مليون نسمة.

وهي تتألف من قسم آسيوي يعرف بهضبة الأناضول، يصل معدل ارتفاعها إلى 1000م تحيط بها سلاسل جبلية مرتفعة، ففي الشمال تمتد مجموعة من السلاسل المتوازية تساير البحر الأسود تعرف باسم جبال اليونت، ومن الجنوب تمتد جبال طوروس، وتلتقي مع الجبال الشرقية وهي جبال آرارات التي يصل ارتفاعها إلى 5165م عند الحدود التركية – الإيرانية – الأرمينية.

يوجد في القسم الآسيوي عدد كبير من البحيرات أهمها بحيرة وان في الشرق والتي ترتفع 1720م وبحيرة الملح (طوز) جنوبي أنقرة، ثم مجموعة من البحيرات غربي مدينة قونية أهمها بيشهر وبحيرة أغريدير وبحيرة بوردور.

أما القسم الأوروبي ويسمى تراقيا فيتألف من منطقة قليلة الارتفاع يجري فيها نهر أرجين الذي يصب في نهر ماريتزا الذي يصب في بحر إيجه. وهو نهر ينبع من بلغاريا ويشكل الحدود بين تركيا واليونان. تبلغ مساحة تراقيا 3% من مساحة تركيا.

تقع تركيا ضمن حزام ألب- هملايا الزلزالي كواحد من أهم الأحزمة الزلزالية في العالم.

خريطة تركيا

معظم سكان تركيا يتحدثون اللغة التركية.. كما أن هناك أقليات كبيرة تتحدث الكردية والعربية وغيرها.. أما في البلقان وآسيا الوسطى وقبرص وبعض دول أوروبا الشرقية فهناك أكثر من 200 مليون نسمة يتحدثون التركية ويدينون بالإسلام.

أهم المناطق الجغرافية في تركيا

* منطقة الأناضول.

* ومنطقة البحر الأسود.

* ومنطقة البحر المتوسط.

* ومنطقة بحر إيجه.

* ومنطقة مرمرة.. وهي أكبر مركز تجاري في تركيا، وتقع إستانبول ومضيق جنه قلعة ضمن هذه المنطقة.

 

(2)

مأساة الخط الحجازي

 قبل أن أتحدث إليك عن رحلة العمر إلى استانبول، أتابع دراستي في جامعتها، وألتقي بمجموعة متميزة من الأصحاب فيها، وأقضي سنوات خصبة من عمري في جنباتها.. قبل ذلك لابد أن أقف معك قليلا، في حديث قصير عن الخط الحجازي الذي سنمتطي إحدى عرباته غدا.

والخط الحديدي الحجازي.. اسم كثيرا ما طرق أسماعنا.. نحن جيل الحرب العالمية الثانية. على اعتبار أن الجيل الذي سبقنا عاش فلول عزّ كان للخط الحجازي.

محطة سكة حديد الخط الحجازي في دمشق

كانت القطارات تنطلق هادرة من استانبول عاصمة الخلافة إلى دمشق إلى حيفا إلى المدينة المنورة في أرض الحجاز مارة بالأردن ومخترقة وادي اليرموك.

الحديث عن هذه السكة ينقلنا إلى عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م)، إذ أصبحت الدولة العثمانية في أيامه فريسة للأطماع الأجنبية التي تحاول كل منها أن تنتزع جزءا منها. فضلا عن ذلك فإن نزعات قومية، تركية وكردية وعربية وأرمنية، كانت تتقوى تدريجيا محاولة إثبات كيانها وتحقيق آمالها.  كان السلطان الذكي.. يرقب الأحداث.. ويحاول وسعه ترميم الأوضاع التي وصلت إلى حافة الانفجار. فالدول الأوروبية تضع خططها وتزيد من تآمرها لاقتسام تركة الرجل المريض..

حاول السلطان تقوية مملكته.. وربطها بسلسلة من خطوط المواصلات لتقريب أجزائها.. وتقريب شعوبها.. ومن هذه المشاريع الهامة كان إنشاء الخط الحديدي الحجازي.

قبل بناء الخط كانت دمشق مركزا لانطلاق الحجيج نحو الديار المقدسة، حيث يتجمع موكب الحج من كافة الأصقاع الإسلامية، لتبدأ رحلة مكابدات طويلة، إذ يحتاج الموكب إلى نحو 50 يوما في الذهاب ومثلها في الإياب، عدا الأخطار التي يواجهها على طريق القوافل من فيضانات وسيول في الشتاء، وشمس حارقة في الصيف، إضافة إلى أخطار قطاع الطريق.

وكان على والي دمشق الذي يعين أميرا للحج، تأمين سلامة الموكب ومرافقته طوال المسافة التي تتجاوز الـ 1500 كم، ونحو 490 ساعة مسير، مقسمة إلى 40 مرحلة، وكان يحرس موكب الحج عشرة آلاف جندي من المشاة والفرسان والهجانة. وحسب المصادر التاريخية فإن طول الموكب يصل إلى نحو أربعة كيلو مترات في بعض المواسم.

أمام هذه الوقائع الملحة، أعلن السلطان عبد الحميد مشروعه في مطلع نيسان (أبريل) 1900م، وأعلنه مشروعا إسلاميا خيريا يموله المسلمون حكومات وأفرادا، ويصبح بذلك وقفا إسلاميا.

وافتتح التبرعات بنفسه ليسجل أول مبلغ لصندوق المشروع وقدره (220) ألف ليرة ذهبية، وتبرع شاه إيران بمبلغ (50) ألف ليرة ذهبية، كما تبرع خديوي مصر بكميات هائلة من الأخشاب ومواد البناء.. وتشكلت جمعيات خيرية لمساندة المشروع، امتدت إلى مسلمي الهند. وخلال أشهر قليلة تم جمع مبلغ ثمانية ملايين ونصف المليون ليرة ذهبية.. بينما كان المبلغ المطلوب خمسة ملايين ليرة.

وفي ربيع تلك السنة نشر السلطان (إرادة سلطانية) بوجوب البدء بالعمل في أيلول  (سبتمبر) 1900م، وفي آب (أغسطس) 1908م وصل أول قطار من دمشق إلى المدينة المنورة.

كانت الإدارة الفنية تقدمها شركة ألمانية، وكان من المعروف أن المهندسين الألمان سيتخلون عن العمل عندما تصل الأشغال إلى الحجاز، لذلك اختير عدد من الشبان العرب والأتراك للتخصص في موضوع إنشاء سكك الحديد في فرنسا وألمانيا ليتولوا الأمر عند الحاجة.

على أنه يجب الاعتراف بأن بناء سكة حديد الحجاز كان إنجازا من الدرجة الأولى هندسيا: فالأرض التي مرت بها السكة صعبة، وكانت كل المواد الأساسية يجب أن تنقل مسافات شاسعة، والنفقات كبيرة.

وتم بناء الخط على النحو الآتي:

1- دمشق – درعا، تم بين سنتي 1900- و 1903م.

2- الوصول إلى عمان عام 1903م.

3- وصل الخط معان (في جنوب الأردن) عام 1904م.

4-  وفي عام 1906م وصل المدورة.

5- في سنة 1907م وصل مدائن صالح.

6- في سنة 1908م تم الوصول إلى المدينة المنورة.

وتم إنشاء خط فرعي بين درعا وحيفا (1903-1906م).

* تمديد من العفولة (في وسط مرج ابن عامر) إلى جنين والمسعودية.

* من المسعودية إلى نابلس.

* من المسعودية إلى طول كرم ثم إلى وادي الصرار. ومدت هذه الوصلة إلى بئر السبع في جنوب فلسطين.

استمرت أعمال الإنشاء نحو سبع سنوات متواصلة، ووصل أول قطار إلى المدينة المنورة، قادما من دمشق في 22 آب (أغسطس) العام 1908م، واستغرقت الرحلة زهاء 55 ساعة. أما الافتتاح الرسمي، فأقيم في الأول من أيلول (سبتمبر) الذي كان يصادف عيد جلوس السلطان عبد الحميد الثاني، بحضور ثلاثين ألف مدعو، وعدد كبير من الصحافيين الأجانب لتغطية هذا الحدث الكبير.

لقد حقق إنجاز هذا المشروع فوائد عظيمة..

* فقد ربط شعوب المنطقة بعضها ببعض.

* وأمّن الحجاج على حياتهم.. بعد أن كانت رحلة الحج مغامرة غير مأمونة العواقب.

* وازداد عدد الحجاج زيادة كبيرة.. فقد أصبحت الرحلة أقل كلفة وأكثر أمنا.

وحين ننظر اليوم إلى هذا الشريان الحيوي. نجد أنه لا يزال شاهدا على عظمة الانجاز، ونكتشف – إذا دققنا في خط سيره – مدى أهميته الاقتصادية والبشرية والحضارية. كان عدد القاطرات التي تسير على الخط نحو (50) قاطرة و(180) عربة للركاب، وكان كل قطار يجر من 13 إلى 15 عربة إضافية وأربعة خزانات مياه لإمداد المحطات ونقاط الحراسة الممتدة من دمشق مرورا بدرعا وحيفا وعكا إلى عمان والمدينة المنورة.

وحين قامت الثورة العربية الكبرى بزعامة الشريف حسين، وجد لورنس (الجاسوس البريطاني) الذي كان يوجه المؤامرة.. الفرصة سانحة لتخريب الخط الحجازي، وضرب هذا الهدف الاستراتيجي. ولم يكن هدف الكولونيل الإنكليزي الشهير عسكريا بحتا، بل أراد قطع الاتصال نهائيا بين بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية.

توماس إدوارد لورنس

 وإذا كانت المواصلات نقلة حضارية تقارب بين الشعوب.. فإن هدف الاستعمار هو إبعاد هذه الشعوب وقطع الصلة فيما بينها.. ولهذا فقد كان من أهم أهداف لورنس هو تخريب الخط وتدمير قاطراته وسرقة منشآته.. عندما انتهت الحرب العالمية الأولى، حاولت الحكومة العربية في دمشق إصلاح الخط في المناطق المخربة، وبالفعل تمكنت من تسيير القطار من جديد، ووصل الأمير علي بن الحسين في أول رحلة من المدينة المنورة إلى دمشق لزيارة شقيقه الملك فيصل في العام 1919م.

بعد سنة واحدة على تسيير الخط الحجازي من جديد، دخل الفرنسيون دمشق، ولم تعترف حكومة الانتداب بوحدة الخط، إذ تم تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء: الأول استولت عليه بريطانيا وهو الخط الذي يمر بشرقي الأردن وفلسطين. والثاني وهو الأطول مسافة  يقع في أراضي شبه الجزيرة العربية لكنه عديم الفائدة لوقوعه في البادية ولخراب جسوره. أما القسم الثالث وهو الواقع في الأراضي السورية فتم تسليمه إلى الحكومة الفيصيلة.

وعلى رغم الاحتجاجات العربية بوصف الخط وقفا إسلاميا لا يجوز تقسيمه، إلا أن هذه الاحتجاجات ظلت حبرا على ورق منذ معاهدة لوزان عام (1923م) إلى استقلال سورية في العام 1945م، واستلام الحكومة الوطنية  إدارة الخط. وكان من أول الأعمال التخريبية التي قامت بها العصابات اليهودية في فلسطين نسف الجسر الحديدي بين الحمة وسمخ، ما أدى إلى انقطاع الاتصال بن سورية وفلسطين في العام 1946م. وتكررت الاعتداءات على الجسور الأخرى مثل جسر اليرموك، والجزء الواصل بين درعا والحمة، ليتوقف الخط نهائيا بعد حرب العام 1967م.

عبرة لمن يعتبر

وهكذا استطاع خليفة المسلمين.. والدولة العثمانية في أضعف مراحلها.. أن ينشئ هذا الصرح الحضاري العظيم.. ليقرب الشعوب المسلمة بعضها من بعض.. وتأتي المؤامرة الاستعمارية التي نفذ جزءها الأول لورنس البريطاني يعاونه جهلاء العرب الذين حطموا مجدهم دون أن يعرفوا ماذا يفعلون.. وتولى جزءها الآخر الفرنسيون في سوريا والإنكليز في الأردن وبعد ذلك اليهود الذين فصلوا سوريا عن فلسطين.

قرابة قرن من الزمان مرّت على إنشاء الخط الحديدي الحجازي.. جاءت حكومات عربية من كل لون.. رجعية وثورية.. اختلفت في كل شيء إلا في ضرورة تحطيم الخط الحجازي ومنع إعادته.. ضحكوا على الجماهير وأعلنوا عدم الجدوى الاقتصادية للخط..

ليس الأمر كذلك.. وليست القضية جدوى اقتصادية أو سواها.. فلا يوجد عاقل في الدنيا لا يتصور جدوى خط يربط البلاد العربية ببعضها.

يربط العرب  بأوربا من جهة والبلاد العربية مع بعضها من ناحية أخرى..

فالقضية أبعد من ذلك بكثير..

* فالخط الحجازي كان عنوانا للوحدة الإسلامية التي كانت تمثلها دولة المسلمين والتي كرس السلطان عبد الحميد (رحمه الله) حياته من أجلها، ودفع رأسه ثمنا لها.. هذه الوحدة هي التي أملت على سلطان المسلمين، والدولة في أضعف مراحلها أن ينشئ الخط الحجازي الذي يربط استانبول عاصمة الخلافة بمدينة الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم. فلما قامت دولة الاتحاد والترقي التركية.. وقامت دويلات الطوائف العربية قضت على الخط الحجازي كأحد رموز الوحدة الإسلامية.

* المستفيدون من الخط الحجازي أساسا هم حجاج بيت الله الحرام.. وما زالت ذكريات وصول الحجاج الأتراك والإيرانيين والأفغان إلى دمشق (شام شريف) ومنها إلى البلاد المقدسة تقض مضاجع الحكومات التي تآمرت على الإسلام والمسلمين.. فكيف تريد هذه الحكومات وقد دمّرت الخط أن تعيد بناءه.

* إن الخط الحجازي رمز من رموز الوحدة والقوة الإسلامية.. ولن تهدر قاطراته ثانية إلا مع وحدة وقوة المسلمين..
المسلمون فقط هم الذين سينفذون ما فيه مصلحة البلاد والعباد.. وعندها فقط ستنكشف الشروط السرية التي جاء بموجبها هؤلاء إلى كراسي الحكم.. من هذه الشروط تحويل مسجد أيا صوفيا إلى متحف.. ومنها تدمير الخط الحجازي وإبقاؤه مدمرا.
أما محطة الحجاز التي تعتبر إحدى التحف الإسلامية الفريدة في طرازها المعماري، أنجز مخططاتها الكاملة المهندس المعماري الأسباني فيرناندو ديراند، واضعا نصب عينه جماليات العمارة الإسلامية. وكانت أضخم محطة للمسافرين بين محطات الخط الحجازي، كما بنيت محطة صغيرة، بالمواصفات نفسها أنذاك، في المدينة المنورة.
أما الصورة الكاملة لتاريخ الخط الحديدي الحجازي، فنجدها في (متحف القاطرات البخارية)، في محطة القدم بالقرب من دمشق. ويضم المتحف الذي كان الأول من نوعه في العالم، بعض القطع الأثرية للقاطرات البخارية، ومعرضا للصور القديمة والحديثة التي تشكل أرشيفا ضخما ونادرا لرحلة الخط على امتداد مائة عام.
ويمكن للزائر أن يتجول في جناح خاص، بين الأثاث المكتبي القديم الذي يعود إلى بدايات إنشاء المحطة. وربما يخطر في ذهنه رفع سماعة هاتف قديم ونادر، كان يوما ما، صلة الوصل بين محطة وأخرى، قبل أن يصاب بالصمت الأبدي، فلا أحد يسمع الرنين في الجهة الأخرى!

* ما زالت ذكريات الخط الحديدي الحجازي تروي للتاريخ.. قصة أمة الإسلام التي تآمر عليها الأعداء وما زالت تنتظر الأبناء ليعيدوا المجد التليد والحضارة الغائبة.

هذه بعض الأفكار التي كانت تدور في رأسي وأنا أركب من حلب قطار الشرق السريع.. الذي هو بالأساس جزء من الخط الحجازي الذي ينتهي بمحطة حيدر باشا في استانبول. ذكريات مريرة.. تعصر القلب وتدميه.. ندعو الله أن يهيأ لهذه الأمة رجالا من أمثال السلطان عبد الحميد (رحمه الله) يعيدون لها مجدها وعزتها.

قطار الشرق السريع
فبراير – 1959م

(3)

في القطار إلى استانبول

 ولكن لماذا الدراسة في استانبول؟

مدينة استانبول

 فقد تعرضت لوابل من الاستفسارات والانتقادات.

فالدراسة باللغة التركية، وهذه مشكلة في الحياة العملية.

وتركيا بلد من بلدان العالم الثالث.. والدراسة فيها درجة ثالثة أيضاً..

ثم بإمكانك الدراسة في الجامعة السورية أو في لبنان.. فقد حصلت في الثانوية العامة على درجات عالية تؤهلك لدراسة أحسن التخصصات.

لقد كنت مصمما على الدراسة في استانبول.. هل لأنها كانت يوماً عاصمة الخلافة؟

هل للذكريات التي كان جدي يرويها لنا عن حرب جنة قلعة دور في ذلك؟

هل لأن زميل الدراسة الأخ مصطفى الصالح ذهب للدراسة هناك؟

المهم.. صممت على الدراسة في استانبول. الوالد في الكويت والأسرة معه.. نقلني العم أبو مصطفى بسيارته إلى حلب.. نزلنا في أحد الفنادق المتواضعة، وفي الصباح ذهب معي إلى محطة القطار وودعني.. قبلاته ودعواته ذكرتني بأبي.

وما أن ركبت القطار.. حتى انتقلت بخيالي إلى استانبول.

واستانبول تملأ الخيال بالرغبة والرهبة.

الرغبة في استجلاء أخبار هذه المدينة العظيمة التي حدثونا عن ضخامتها، وأنها تقوم على سبعة جبال، وفيها سبعة أبحر..

مدينة استانبول – البسفور وقت المغيب

 والرهبة التي كان يحدثنا عنها كبار السن عندما يتحدثون عن استانبول.. عن حرب (جنة القلعة) وعن الخلافة، وعن عبد الحميد، وعن الانقلاب، وعن المظالم.. يذكرها هؤلاء بصوت منخفض يوحي للسامع بأن أحدا يراقبه فيخشى أن يرفع صوته..

والسفر في القطار متعة، يلقي الإنسان أمتعته على رفوف إحدى غرفه، ويعيش بعد ذلك حياة خاصة لمدة يومين.. والقطار مجهز بكل شيء بالطعام والشراب.. والباعة المتجولون الذين يتسلقون القطار عند كل محطة يزيدون من هذه المتعة.. ويحضرون أنواع المأكولات والحلويات الخاصة بكل بلد من البلدان التي يمرّ بها القطار.

ومنذ كنت أركب القطار كنت أشعر بالخوف.. هل بسبب صوته وصفارته التي توحي بالحزن.. أم لشيء آخر.. ما كنت أدري.

والطريق جميل.. أكثره صعود وهبوط.. جبال عظيمة وأنفاق كبيرة يقطعها القطار وهو يقذف دخانه الأسود الذي يتسلل إلى الغرف إذا كان النفق طويلاً..

جمال الطريق.. والغابات الممتدة.. والثلج الذي كان يتساقط في ذلك اليوم.. كل ذلك نقلني إلى عالم مسحور جميل نسيت فيه نفسي حتى رأيت أخي وصديقي مصطفى الصالح يلوح لي بيده في محطة حيدر باشا.

ركبت السفينة لأول مرة.. وتساءلت.. هل نعبر الآن إحدى البحار السبعة؟

وقابلها أخي (مصطفى) بابتسامة ومضت رحلة العمر في استانبول.

في هذا البلد العريق عشت أهم أيام حياتي، فيه تفتحت عيناي على أمور جديدة، وفيه عشت مفاهيم جديدة.. وخرجت منه بعد ست سنوات إنساناً آخر.. غير ذلك القروي الذي أذهلته أضواء المدينة..!

شباط (فبراير) 1959م

(4)

مع الأتراك وجهاً لوجه

والأتراك شعب كريم مضياف، شديد التمسك بالإسلام، ويحب المسلمين.. ولقد سمعنا عن معاناته في سبيل إسلامه قصصا أقرب للخيال.. حدثونا عن العهد الجمهوري.. وعن الانقلابات العتيدة التي أرادت تحويل تركيا من بلد يقع في الشرق الأوسط إلى بلد تابع لأوروبا.. فرضت على الرجل أن يلبس قبعة الأوروبيين، وعلى المرأة أن تخلع حجاب المسلمات.. غيرت قوانين البلد وحاربت الإسلام واضطهدت المسلمين..

كم كان التركي المسلم، الذي كان يستشعر قوته عندما حمل راية الإسلام إلى أطراف الدنيا، قرع بها أبواب فيينا، بنى باسمها أعظم إمبراطورية غيرت وجه العالم، أقام مساجد خالدة على الدهر.. وهو اليوم يناديه المؤذن للصلاة بلسان أعجمي لا يكاد يبين.. (تانري الو در) هل يمكن أن تكون هي (الله أكبر)، النداء العذب الذي ينطلق من الحناجر والقلوب يسبح الله ويحمده ويكبره ويعظمه..؟

حدثنا الأصدقاء، الذين تعرفنا عليهم في استانبول، بحكايات غريبة..

فهذا رجل صالح من المواظبين على التدريس في مسجد الفاتح.. يخبرني عن والده الذي كان يصرّ على تحفيظه هو وأخيه القرآن الكريم.. كان يفعل ذلك تحت الفراش حتى لا تسمعه أو تراه عيون السلطة الذين يجوبون الطرقات.. هل يسمعون من يقرأ القرآن أو يحفظه..؟!

حكايات عن رجال ونساء مازالوا في السجون منذ عشرين أو ثلاثين سنة لأنهم قرأوا أو كتبوا رسائل النور التي كتبها الإمام بديع الزمان سعيد النورسي.. وهي لا تعدو أن تكون نظرات في القرآن أو السنة أو سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

لقد دفع الرجال ثمناً باهضاً.. قهراً في السجون.. أو مطاردين في المنافي.. أو صامتين فلم يعودوا يحسنون الكلام.. أو مهاجرين فلم يعد لهم في بلادهم مكان.. وهذه هي سنة الله سبحانه وتعالى إذ يقول: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)( العنكبوت- (2-3)).

حكايات أشبه بالخيال.. وأفكار شاذة أصبحت واقعاً في تركيا.. ومنها انتقلت إلى معظم عواصم المسلمين وخاصة الثورية منها.

وإلى جانب هذه الحكايات التي رواها لنا المخضرمون الذين عاشوا عهد الانقلابات.. فقد عشنا عدة سنوات في هذا البلد، ابتداء من عهد مندريس الذي حاول أن يرجع بعض الحريات للشعب المسلم الذي قمعوه وحرموه.. كنا نتابع أخبار انقلاب عام 1960م.. ونتلمس أخبار مندريس الذي أعدموه.. فبكاه شعبه وما زالوا يحبونه.. وعشنا مع شباب حركة النور التي أسسها بديع الزمان سعيد النورسي وقد حدثنا شبابهم عن الظلم الذي يعانون.. وشهدنا وفاة النورسي في رمضان 1960م.. وشهدنا بدايات الصحوة الإسلامية التي أعقبت إعدام مندريس.. بدأ الشعب يفكر بطريقة مختلفة.. بدأت الصحف الإسلامية بالظهور..

وبدأت حركة الترجمة ونشر الكتب الإسلامية تزاحم الكتب العلمانية وتتفوق عليها..

وبدأت البذور التي كانت تبالغ في السرية.. تطل برأسها.. وتبشر بعهد إسلامي قريب..

شهدنا كل ذلك.. وما شهدنا إلا بما علمنا.. عدنا من مقاعد الدرس مع بدايات الفجر القريب.. نبشر العاملين للإسلام في الأقطار الأخرى أن لا ييأسوا.. فالصبح قريب.

في هذا الكتاب الذي هو الجزء الثاني من (أوراق مسافر) سأتحدث عن كثير من الأمور التي عايشتها.. وشاهدتها.. وشاركت في بعضها.. ومن حق المهتمين أن يسمعوا لشهادتي.. وهي شهادة صدق إن شاء الله.

(5)

أيام استانبول

 وفي استانبول.. تعرّفت على نخبة من أروع وأنضج وأنشط الشباب المسلم.. عشت معهم أجمل سنين عمري..

نسينا كل شيء حولنا.. فكان فيهم الأخ والأب، وفيهم المعلم والقائد..

واليوم عندما أذكر تلكم الأيام أجدها غضة حاضرة في نفسي.. وعندما أرى أحد هؤلاء الإخوة أراني في فرحة غامرة.. فهذا من هؤلاء الذين عشنا معهم رحلة العمر في أبهى وأجمل أيامه..

نحن مسلمون.. فلننس إذن من أي البلاد جئنا.. وإلى أي قوم ننتسب.. يومها تفهت في نظرنا القبلية، وألقينا أرضا هويتها.. أنشط القوم أخدمهم لإخوانه.. وقائد القوم خادم للجميع..

إن الكلام الذي أكتبه الآن عن هؤلاء ليس تزويق كاتب، بل حقيقة واقعة عشناها بكل كياننا، بكل ذرة من ذرات عقولنا وأجسامنا..

هل أذكر شباب الموصل، إدريس الحاج داود، وطه الجوادي، ومحمود الحاج قاسم، وعبد الله الرحو، وبشير حنون، وعبد الإله القيسي، وعبد الجبار الحسن.. وغيرهم.

أم أذكر شباب حلب، الأخ عدنان صقال، ومصطفى السروجي، وغسان نجار، وحسان نجار، ومحمد حموية، وغيرهم..

وأذكر عبد اللطيف السفاف، وعبد اللطيف البني، وعبد القادر السفاف، وموسى الحمصي، ومصطفى الصالح، وعبد الرزاق مخللاتي من حماه في سوريا.

وأذكر الأخ لطفي شرف، وعبد الحفيظ المومني، وعلي العمري، وعبد الرزاق  طبيشات، وتحسين خريس، وزياد أبو غنيمة، وعدنان شاكر من الأردن..

بعضهم من مصر.. وآخرون من ليبيا.. وغيرهم من بلدان أخرى.. كلهم طلبة متفوقون.. ميزتهم هممهم العالية في كل الميادين.

 هل هم كذلك في بلادهم.. أم أنهم اكتسبوا ذلك هنا في استانبول..؟

الاحتمالان واردان.. ولكني أرجح أن الجو الرائع الذي كنا نعيشه في كنف قيادة رائعة هي التي صهرت الجميع في هذا الجو الإيماني الفريد.. وكلما وجد القائد المربي.. وجد مثل هذا الركب.. وإذا وجدت الراحلة.. تستطيع أن تقود المائة معها.

جمعتنا معهم المحبة في الله.. والمودة في القربى.. يتعهد الإخوة المتقدمون إخوانهم الجدد في تعليمهم اللغة التركية.. ويدرّسونهم كتب الجامعة.. ويلتقي كلهم على العمل الصالح والعمل المفيد.. إخواناً متقابلين.

كانت الموجة التي تحكم بلادنا في هذه الفترة (أوائل الستينيات من القرن العشرين) هي موجة الناصرية والبعثية والاشتراكية.. ومع ذلك فقد كان الإسلاميون.. الأنجح في دروسهم.. والأقوى في أخلاقهم.. يألفون ويُؤلفون.. وبذلك أصبحوا كتلة يفخر بها الصديق.. ويخشاها العدو.. لو أعطيت لعواطفي العنان لكتبت سفراً عن هؤلاء.. ولكن طبيعة هذه الأوراق لا تسمح بذلك..

صبيحة العيد

في صبيحة العيد خرجنا كالعادة نلعب الكرة ونهنئ إخواننا.. وكان صديقي (مصطفى) يسير وحده، لم يشارك الآخرين لعبهم.. بل انفرد وابتعد.. وفجأة صاح الشباب.. فقد مرّ القطار الكهربائي السريع.. وبسرعة البرق ألقى الأخ مصطفى نفسه من أعلى الجسر حتى لا يكون لقمة صغيرة لعجلات القطار.. وقفت عنده في المستشفى.. وبقيت إلى جواره في البيت أرعاه وأمرضه، ولا أظن الأمهات يفعلن لأبنائهن، أكثر مما كنّا نفعله مع إخواننا.. ألا سقى الله تلكم الأيام.. أيام الحب والأخوة والرجولة والشرف.. كيف يسمح البعض لأنفسهم أن يستبدلوا هذا الحب الذي يربط بين القلوب بسوء الظن والغيبة والبغض في الله.. هل صرنا في الضفة المقابلة للفضيلة؟!

لماذا ابتعد أخونا مصطفى عن إخوانه.. لماذا لم يشارك إخوانه ضحكهم ولعبهم؟

لماذا انفرد عنهم.. وصعد إلى سكة القطار؟

هل هي غيبوبة فكرية.. يتحرك فيها الإنسان بطريقة لا شعورية حتى يصبح على حافة الخطر دون أن يدري..؟!

هل نستطيع أن نقول أن الأخوة التي تغمر الأرواح.. وتقارب بين الأجساد.. وتوجه بوصلة الحياة.. هي ما ينبغي أن يحرص عليها الإنسان؟

* هل عندك ما تقرضني فقد تأخرت فلوسي ولم تصلني بعد؟

وأفتش ما في جيبي وأناوله شطر ما أملك.. وقد كان على الأغلب قليلاً لا يكاد يسدّ الرمق..

نعم هكذا عشنا جميعا، وإذا شذّ أحدنا عن مثل هذا المستوى.. كنا نعدّه شاذا لا يليق بالمستوى السامق الذي كنّا نعيشه.. هكذا كان الأشعريون يجمعون الطعام القليل في إناء واحد ويأكلون منه جميعا.

والتجربة تتكرر باستمرار، كلّما وجد مناخ صالح.. ورجال يستطيعون الصعود.

ومن يتهيب صعود الجبال           يعش أبد الدهر بين الحفر

مجلة الفجر

كنا ننتظر مجلة (الفجر) كل شهر.. نكتبها بأيدينا.. ويخرجها إخواننا..  ويوزعها بعضنا. وعندما رآها الداعية الكبير مصطفى السباعي عندما زارنا وهو في طريقه إلى أوروبا قال أنها تغني عن كثير من المجلات..

كل الأعمال الكبيرة تستطيع أن تنجزها الأيدي الضعيفة والجيوب الخاوية.. إذا كانت النفوس عالية..

أما إذا كانت النفوس هزيلة.. فهزالها يمتد حتى ترى الامكانات العظيمة قزمة تافهة.

كنت أشارك في تحرير الفجر.. ثمّ صرت المسؤول عنها.. أكتبها بيدي فلم تكن الوسائل الحديثة في الكتابة متوفرة عندنا.. وأحرر أكثر مقالاتها.. وأشرف على توزيعها على الإخوة..

وكم استفدت من هذه التجربة..

وكل أمر تأخذه بالجدية اللازمة تستفيد منه!

* تعلمت أن الإنسان الجاد يستطيع أن ينجز كل ما يريد.. والأمور الأخرى مثل المال.. والكثرة.. إنما هي محسنات فقط.

* وتعلمت الكتابة.. فالكتابة مران.. أكثر مما هي معرفة أو ثقافة..

* وتعلمت أن أصدر مجلة.. والمجلة الصغيرة يمكن أن تكون أكبر وأكبر.

هذه هي تجارب الحياة.. الصغيرة مثل الكبيرة.. يتعلم منها الإنسان الجاد دروساً عظيمة.. هي وقود حياته في مسيرتها الطويلة.

ملثم يعتدي على زميلنا لطفي

جاءنا زميلنا الأردني لطفي شرف مصابا، فقد اجتمع عليه نفر من الشباب العرب استفردوا به في إحدى ردهات الجامعة وأشبعوه لكما وضربا.. وقال له الشخص الملثم:

* اذهب.. ولينفعك الإخوان المسلمون..

سبحان الله، كيف يفهم هؤلاء قضية الخلاف.. وهل يعالج الفكر بالعصا؟ وهل يعني الخلاف الفكري العداوة والبغضاء؟

وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يصفون الإسلاميين بالإرهابيين؟

ثم كيف اجتمع أبناء الأحزاب.. وهم يومذاك متعادون.. ليبطشوا بزميلهم المسالم لطفي!؟

* وماذا نفعل؟

* نؤدبهم.. ولا نزيد عمّا فعلوا.

ولم ينس هؤلاء موقف أخينا (مصطفى عبود) الذي ردّ لهم الصاع صاعا فقط.. تمكنوا منه عندما عاد إلى بلده فقتلوه.. عندما ينسى الإسلاميون الإساءة.. فلأن قلوبهم صافية ويحتسبون الأمور عند ربهم.. أما إذا ظن أحدنا أن الحقد يتحول عند هؤلاء الحزبيين إلى حب فقد ظلمنا طبائع الأمور!!

جارنا ضابط بوليس

كنت أسكن في شقة لطيفة في منطقة الفاتح.. مع الأخ مصطفى الصالح والأخ طه الجوادي في الطابق الأول.. وفي يوم بعد أدائنا لصلاة الفجر.. طرق بابنا طارق.

من يطرق الباب في مثل هذا الوقت المبكر؟

وفتحنا الباب.. وإذا به ضابط البوليس الذي يسكن في الشقة التي تحتنا.. كان في إجازته، وعاد بالأمس، وانزعج من هؤلاء الطلبة الذين يحدثون أصواتاً مزعجة من الفجر.. وسألنا: ماذا تفعلون.. قلنا نصلي الفجر.. تكلمنا معه بلطف.. ودعانا بعدها إلى بيته..

هو رجل من حزب الشعب.. وزوجته كذلك.. وابنته شابة مدللة.. تلبس القليل من الثياب.. وتتمايل مع نغمات الموضة المتغيرة كل يوم.. لا فكره ولا سلوكه مثل فكرنا وسلوكنا.. ومع ذلك فقد استقبلنا في بيته أحسن استقبال.. والكلمة الطيبة والهدية البسيطة المتواضعة.. والتأدب مع الجيران.. يزيل كل الحواجز المصطنعة.. ويصبح الجار أقرب إلى جاره من أخيه.

وعندما اعتدي على الأخ لطفي شرحنا لجارنا الضابط الأمر.. فأخذ الموضوع على عاتقه!! هل بالإمكان أن ننفذ وصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه!!

مناسبات عزيزة

ندوات لا تنسى.. في يلوا.. في ساريار.. في توزلا.. في شيلي.. في فلوريا.. في بورصة.. يتحلق فيها الإخوة يتجاذبون أطراف الأمور.. في السياسة.. في الدين.. في الدراسة.. في الزواج.. يطرقون مختلف المواضيع.. التي تليق بأصحاب العزائم..

على قدر أهل العزم تأتي العزائم        وتأتي على قدر الكرام المكارم

 مدينة يولوا – صورو قديمة

كان إخواننا موزعين على الجامعات في استانبول وإزمير وأنقرة.. وكنا في الإجازات والعطل الرسمية.. نتجمع في إحدى المنتجعات.. في بورصة في أحد الفنادق الذي تتدفق فيها المياه الكبريتية الدافئة.. نلتقي في إحدى القاعات.. ونأكل في قاعة.. ثم ننزل للسباحة في حمام الفندق..

أو نذهب إلى يولوا.. وهي منتجع صيفي وشتوي.. ذو شهرة عالمية، بعض رجالات الدولة كانوا يقضون أوقاتاً مريحة في أرجاء الترمال.. النسمات العليلة.. والمياه المتدفقة.. والأزهار الرائعة تريح أعصابهم. كان فيصل الثاني ملك العراق يقضي فصل الشتاء فيه.. هو منتجع الملوك والرؤساء.. وكان أيضاً مكاناً يقضي فيه فقراء الإخوان بعض إجازاتهم.

   يولوا – الترمال – صورة قديمة

ذكريات يولوا لا تنسى. نركب السفينة من شاطئ استانبول إلى مدينة يولوا عبر بحر مرمرة.. وتقف السفينة في الجزر الرئيسة (بورجاز، هيبلي أضا، بيوك أضا).

وإذا وصلنا.. نركب  سيارة كبيرة تنقلنا إلى (الترمال) حيث يختزل الجمال نفسه في هذه البقعة.

بعثنا الأخ أمين أحمد ليسأل لنا عن أجرة الفندق الكبير المجاور للحمامات.. فعاد مسرعاً.. وسألناه كم الأجرة.. قال: لم أسأل، وصاح الجميع لِمَ لم تسأل؟ قال: بعبارات تمزج بين النكتة العراقية والحقيقة، وكيف أسأل والجرسون يلبس أحسن منى بكثير!

هل تريدني أن أصف لك الترمال..؟

وهل يستطيع القلم الكليل أن يحيط بالجمال.. فيصفه..؟

   يولوا – الترمال – حمامات المياه الساخنة

في الوادي الممتد تجري مياه معدنية.. أقيمت عليها سلسلة من الحمامات بعضها مكشوف للسباحة في الهواء الطلق.. وبعضها مغلق.. وبعضها غرف خاصة يدخل إليها الرجل وزوجته.. المياه شديدة الحرارة.. وثقيلة فنسبة الرصاص عالية فيها.. إذا أردنا الاستمتاع بهذا السحر الحلال.. نحجز الحمام ونطلب من الموظف أن لا يدخل معنا غيرنا..

 يولوا – الترمال

واعتاد أن يسألنا في كل مرة.. وهل تخافون من النساء..؟

يقولها وهو يبتسم.. فهو من رجال هذه القرية نلتقي معه في المسجد فصار يعرفنا ويعرف مقصدنا..

فإذا أمضيت ساعة أو ساعتين في الحمام المكشوف أو المغلق.. وأحببت الخروج.. وجدت في مواجهتك استراحة جميلة تظللها شجرة كبيرة تملأ الساحة.. مثل هذه الأشجار معروفة في تركيا هي شجرة الجنار.. تعمر طويلاً.. وأوراقها كبيرة.. إذا وفرت للجالسين الظل.. فإن النسمات المضمخات بعطر الحقول يعزفن مع هذه الأوراق لحناً هادئاً.. يريح الأعصاب.. ويستدعي النوم.. ويمرّ الساقي بأكواب الشاي أو القهوة.. فيتحول كل شيء إلى متعة ما بعدها متعة.

 يولوا – الترمال

تحيط بالوادي من اليمين واليسار هضبة عالية.. تتمدد على يمينها قرية ويس بنار.. تقابلها في اليسار قرية كوك جدره..

إذا كان لديك متسع من الوقت.. أو معك رفيق يحلو الحديث معه.. تسير في هذه الهضاب التي تزينها أجمل الورود.. وأروع الأشجار.. وتسبح الخالق الذي منح للإنسان نعمة الجمال.. كما منحه نعمة الشعور به والتجاوب معه.

(6)

موعد مع الجمال

كنا نتردد كثيراً على منطقة (الترمال) التي تبعد قرابة 15 كيلومترا عن يولوا.. وهي قطعة من الجمال الكوني.. قلما يعثر المرء على شبيه لها.. جئت من جديد إلى هذا المنتجع لا لأزداد إعجاباً بجماله وتنسيق  وروده وجمال سفوحه.. وتغريد أطياره.. وتفرد مياهه المعدنية.. فقد سجلت ذاكرتي كل ذلك منذ أكثر من أربعين سنة.. ولكني جئت أقلب صفحات الذكريات.. وكما تكون الذكريات أوراقاً.. تكون كذلك خلجات في أعماق النفس تحتاج من يقلب خواطرها.. وكأنه يعود شاباً نشطاً.. يتيه في صومعة الجمال والدلال هذه.. في أجمل أيام العمر وأخصبها..

وماذا أتحدث عن الترمال؟

هل أتحدث عن أول رحلة إليها سنة 1959م.. مع زملاء الدراسة.. الذين جاءوا إلى استانبول من بلدان شتى يجمعهم عهد الطلب ووحدة الفكر وروعة النهج.. استقامة في السلوك.. ولين في المعاشرة.. وجدية في التعامل مع الحياة..؟

هل أقول أن جديتنا الزائدة عن اللزوم.. والتزامنا الصارم بأوامر ديننا.. واستشعارنا المسؤولية في أعلى درجاتها.. كانت تحتاج إلى بعض الأيام أو بعض الساعات.. فنقضي يوماً أو أكثر في رحاب الطبيعة الخلابة ننسى فيها الجدية قليلا.. وننطلق في هذا الجو المسحور.. كما ينطلق الأطفال يلهون ويلعبون.. وكأنهم بلابل طير أو نسمات مضمخات بعطر الحقول.. أو صوت المياه المعدنية تتدفق حارة معطاءة من الجبال..؟

ركبت السفينة للمرة الثانية في حياتي.. مرة يوم قدمت إلى استانبول.. وهذه هي المرة الثانية.. وبحر مرمرة الذي يفصل استانبول عن يولوا.. بحر فسيح جميل هو جزء من البحر الأبيض المتوسط.. أنا وهو يجمعنا العشق والهوى التركي.. وكما هو بحر تركي خالص.. يتنازع بعض جزره مع اليونان.. كذلك أنا تركي الهوى.. تتنازع نفسي هويات أخرى.. هوية الميلاد.. وهوية النشأة.. وهوية الاستقرار.

السفينة تمخر المياه الصافية الجميلة.. تشق طريقها.. وتطلق بين الحين والآخر صفارتها.. والركاب يتناولون الطعام أو يقرأون الصحف.. والأسماك المنسجمة مع هذا اللحن الجميل تتقافز أمام السفينة في حركات بهلوانية موزونة.. كأنها ضابط الموسيقي يحكم النغمات لتنطلق رائعة.. لا يملك معها المشاهد إلا أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين.

الطريق الممتدة بين يولوا والترمال.. طريق جميل.. كانت مشاعرنا تمتزج مع الأشجار المنسقة التي تحفه.. ومع البساط الرائع الذي يغطي هضابه وبساتينه.. واليوم وبعد أكثر من أربعين سنة.. أجد هذا الطريق يزداد جمالاً وما زال في شرخ الشباب.. بينما نحن انتقلنا إلى المرحلة الأخيرة من العمر.. هل السنوات تتوقف مع الجمال.. وتمضي سريعا مع الإنسان.. ليمرّ بسرعة بمراحل الشباب والكهولة وما بعدها..؟

أذكر بكل الفخر.. مواقفنا القديمة.. نحجز الحمام كاملاً حتى لا يتحول المسبح إلى معرض لأجساد الفتيات اللواتي جئن يعرضن الفتنة. وما بالك بهؤلاء الذين جاءوا من بيئات محافظة إذا رأوا مثل هذه المشاهد المثيرة.. ولولا هذه الاحتياطات.. وهذا الحزم في اتخاذ المواقف.. لتسربت همنا كما تتسرب النفس أمام وهج الفتنة الناطقة.

وتكررت اللقاءات الحميمة مع منتجع الترمال.. في كل عام مرة أو مرتين.. مرة كنا نصلي المغرب في أطراف البلدة.. وإذا بقوات الجندرما تحكم قبضتها حولنا.. ماذا تفعلون.. ولماذا تصلون هنا؟

الأرض كلها مسجد.. ولا تضيق بذلك إلا صدور أعداء الحياة..

الأشجار الشامخة.. والمياه المتدفقة.. وكل ما في الوجود يسبح بحمد ربه.. فلماذا الإنسان وهو أعظم المخلوقات يمنع من أداء مهمته في عبادة ربه على كل أرض وفي كل حين؟

كم يظلم هؤلاء الفطرة وهم يعتدون عليها..؟

ولكن هل ستعاقبهم الفطرة يوماً على ما ظلموا وغيّروا؟

يوم تزوجت.. جئت مع زوجتي في أيام العسل، إلى هذا المنتجع، أفصل بين صفحات السعادة بفواصل جمالية تزيدها عمقاً وسحراً حلالاً.. ما زالت الممرات التي مشيناها بين الأشجار.. ما زالت الورود المتنوعة الأشكال والألوان.. ما زالت أزهار النيلوفر تبرز بيضاء زاهية من تحت الماء.. ما زالت أشجار عطر الليل الرائعة.. تتنفس عطرها وتعطيه للجميع من حولها.. هي كما كانت لم يتغير في منظومتها سوانا أنا وأم أيمن كنا نتحدث عن المستقبل.. واليوم نقلب أوراق الذكريات..

هل هي ذكريات جميلة.. هل ينظر صاحبها إليها بعين الرضا.. خاصة ولم تتلوث يوماً بمعصية..؟

صار المنتجع مركزاً علميا بناه العلماء الذين اضطروا إلى مغادرة بلدانهم فلجأوا إلى هذا المنتجع الجميل..

الشيخ محمد محمود الصواف.. مؤسس العمل الإسلامي في العراق.

الشيخ محمد علي الصابوني مفسر القرآن.. الشيخ الجليل عبد الفتاح أبو غدة (رحمه الله)..

محمد قطب الكاتب المبدع شقيق الشهيد سيد قطب.. فكيف إذا كنت مع كل هؤلاء في كل عام.. في مثل هذا الجمال المذخور..

بعض كتبي كتبتها.. بعد حوارات مع هؤلاء الفضلاء.. أطرح الفكرة ويقلبونها هم على وجوهها.. وأنا أسجل في ذاكرتي الانطباعات.. الحياة مع العلم والفكر غاية في المتعة.. خاصة في مثل هذا المكان.. ألم أقل إنني أحاول أن أفصل صفحات السعادة بفواصل جمالية تزيدها عمقاً وألقاً وسحراً حلالاً..

رفاق اليوم.. امتداد لأصحاب الأمس.. الأخ غزوان وهو يمتطي الجبال بسيارته.. كأنه متسلق للقمم العالية.. الأخ أبو عبد الله الرفيق الذي يترفق بمن يصاحب كأنه طبيب يتلمس أيدي الآخرين بعطف وحبّ.. سبحان الله كيف يتحول المهندس إلى طبيب؟

ما زلت أذكر الأخ إدريس من مدينة الموصل.. والأخ طه الجوادي.. والأخ عبد الحفيظ المومني والأخ مصطفى الصالح.. والأخ علي العمري.. ذرية بعضها من بعض.. كلما تقادم عهدنا بها.. ازددنا شوقاً للقائها أو لتقليب صفحات ذكرياتنا معها.

القرى والبلدات المجاورة.. كلها من نفس الطراز: جمال فريد متميز.. بحر رائع.. شاطئ لا زوردي لا نهاية له.. فنادق في أما كن مشرفة.. طعام لذيذ.. صحبة كريمة.. في هذا الإطار نذكر ويس بنار.. وكوك جدره.. وعلى مسافة أبعد قليلا جنارجك.. واسن كوي.. وعرموتلو.. ومجيدية كوي..

وإذا كنّا نمرّ بجنارجك سريعاً فشاطئها لا يغري بالمكث.. فقد مكثنا مرات مع الوالد والوالدة رحمهما الله في اسن كوي.. وأقمنا أياما في فندق عرموتلو نستمتع بمياهها المعدنية المشهورة.. وفي طريقنا عرجنا على الأخ بكير يلدز الصديق الصدوق.. وأخيراً.. نزلنا ضيوفاً على أخينا أمين سراج في قريته مجيدية كوي.

هذه هي حكايتنا مع منتجع الترمال.. عمرها أكثر من أربعين سنة.. ولكنها حكايات متجددة جميلة.. تذكرنا بعهود الشباب.. والقوة والفتوة.. كلما قلبنا صفحات ذكرياتها.. تزداد ألقاً وشباباً.. بينما يشتعل الشيب في مفارقنا.. أليس عجيباً أن الجمال لا يذبل وعمره لا يتقدم.. وأشجاره لا تشيب..؟

ساحل البحر الأسود

كنا نذهب في بعض الأحيان إلى ساحل البحر الأسود.. وهو ساحل جميل.. يختلف جماله عن جمال سواحل البحر الأبيض المتوسط.. أو ساحل بحر مرمرة.. تنعكس على صفحة البحر الغيوم الداكنة فتعطيه اللون الأسود.. وزوارق الصيد تجوب سواحله الغنية بالأسماك.. وأمام هذا الشاطئ الجميل.. يحلو للشباب أن يتخذوا لأنفسهم ركناً في المكان.. يصنعون فيه موقداً.. ويهيئون طعاماً من هذه الأسماك الطازجة.

وإذا كنا نقول أن الجمال يتنوع.. والجمال هنا يختلف عنه هناك.. فلحكمة خلقها الله.. بأن يتحسس الناس على اختلافهم.. بالجمال على اختلافه.. فالجمال تربية والجمال ذوق.. ولهذا كان الله جميلاً يحب الجمال.

ولا أنس تلكم السهرات الشيقة التي قضيناها نودّع إخواننا المتخرجين.. نتكلم عن مآثرهم.. عن شؤونهم وشجونهم.. حتى ينتصف الليل أو يزيد.. تقدّم بعدها هدية تذكارية للأخ المتخرج.. ولقد شعرت يوم قدّم لي إخواني هديتي في هذه المناسبة.. شعرت أنها تساوي الكثير.. بل أكثر مما تصورت..

 في السنوات الأخيرة.. بدأنا ندعو بعض زملائنا الأتراك من جماعة النور لمثل هذه اللقاءات.. وهم طلاب متفوقون في دراستهم.. أخلاقهم عالية.. والتزامهم بدينهم جيد.. وباختصار فهم مثلنا غير أن لغتهم مغايرة.. هذه هي عظمة هذا الدين.. المسلم أخو المسلم بغض النظر عن اسمه أو جسمه.. عن لونه أو بلده أو لغته..

رابطة الطلبة العرب

بدون قصد منا أصبحنا من عشاق السياسة.. نقرأ مجلات الشهاب والمسلمون وحضارة الإسلام.. ونقرأ جريدة المنار التي تصدر من دمشق والكفاح الإسلامي التي تصدر من عمان.. نتابع فيها أخبار الحركة الإسلامية.. ماذا يجري في مصر.. وما هي فصول المذبحة التي يتعرض لها الإخوان على يد رجال الثورة.. تحركات الأستاذ السباعي في سوريا ولبنان.. تآمر الناصرية على الأردن وتدبير أكثر من انقلاب عليه وفشلهم جميعاً.. الانقلابات المتتالية في سوريا.. هذه الأحداث الساخنة جعلتنا من عشاق السياسة.. فلما انتقلنا إلى استانبول للدراسة.. افتقدنا هذه الصحف والمجلات..

وبعد البحث وجدت ضالتي في رابطة الطلاب العرب.. شقة تحت الأرض في منطقة أكسراي القريبة من جامعتنا.. فيها مجموعة متراصة من الكراسي والطاولات.. يستطيع القادم إلى الرابطة أن يشرب الشاي وأن يسمع بعض فضول القول.. وما كان يهمني في زياراتي المتكررة شبه اليومية إلا قراءة الصحف العربية التي تصل للرابطة.. كنت أستمتع بهذه الأوقات التي أمارس فيها هوايتي بقراءة الصحف ومتابعة الأحداث.

بعد فترة قصيرة، انتقلت الرابطة إلى مبنى أكبر وأقرب إلى الجامعة في منطقة بيازيت، وما زلت أتردد على المبنى الجديد.. أقرأ عندهم الصحف.. وأشرب الشاي.. وأتناول بعض الطعام في بعض الأحيان. ومع انتقال الرابطة إلى مبناها الجديد.. وتسلم إدارتها مجموعة جديدة من الشباب الناصري أو البعثي.. بدأت أوضاعها تسوء.. وتصرفات المسؤولين والأفراد المتواجدين فيها تزداد انحداراً.. كانوا يرافقون صديقاتهم إلى الرابطة.. والصخب والأصوات العالية المنكرة كثيراً ما تلوث الأجواء ببذاءتها..

ولا أنسى يوم دخلت الرابطة في رمضان.. وكان الشباب يأكلون ويشربون، وشاب تركي يعربد بأعلى صوته ويقول: مالنا نحن ورمضان.. فهاهم العرب لم يعودوا يتعرفون عليه..!

وجمعت بعض الشباب وذهبنا إلى قنصلية الجمهورية العربية المتحدة.. وطلبنا مقابلة القنصل، وأذكر أني قلت له:

 إننا هنا في بلد إسلامي، والأتراك ينظرون إلينا كمسلمين.. بل والعرب في نظر جيمع الشعوب الإسلامية الأخرى في موقع القدوة والمثل.. وبما أن الجمهورية العربية المتحدة هي أكبر الدول العربية وهي التي تنفق على الرابطة، فلا يصح أن تنتهك فيها الشعائر الإسلامية. ونظر إليّ القنصل والشرر يتطاير من عينيه.. ونطق أخيرا فقال:

 يا أولاد.. أين تعيشون أنتم.. ألا تعلمون أن العالم يتطور.. ألا تعرفون أن بورقيبة (أز اي جريت مان) أي (رجل عظيم) فقد ألغى الصيام لأنه يتعارض مع التقدم والتنمية. ولم ينس أن ينصحنا بأن نعيش الحياة (ونهيّص).. وندع عنا التزمت ولا نلتفت للمتزمتين!!

أترضى الشعوب المسلمة أن تدفع الضرائب ليبعث النظام أمثال هذا التافه ليمثلها أمام دول العالم؟!

إن السفير هو ممثل دولته في قيمها وأفكارها ودينها وتراثها.. فإذا تحلل السفير من كل هذه القيم.. وانحدر في بؤرة الشهوات والفساد.. وأصبح قدوة لكل انحراف.. فمن يمثل عندها؟

إن مهمتنا – نحن الشباب المسلم- شاقة ومتعددة الجوانب.. وينبغي أن نعدّ أنفسنا لإصلاح هذه الأوضاع الشاذة.. وإلا فلِمن نترك قضايا الأمة؟!

لم تمر هذه الحكاية.. مرور الكرام.. فقد تشبثت في نفسي حتى أصبحت جزءاً راسخاً من سلوكي.. ردة فعلي على حديث القنصل.. استقرت قراراً في نفسي أن أبذل طاقتي في رمضان وأن أحول أيامه إلى مزيد من الإنتاج.. قراءة للقرآن والصلاة جماعة في المسجد.. وقراءة في كتب الجامعة.. وتفوق في الأداء.. هكذا نردُّ على الأفكار التافهة بمزيد من البذل والجدية والعطاء..!

زميل من مكة

ذكروه لي وقالوا: هو من مكة، شاب متدين يصلي بين الحصص.

تعرفت على الرجل وأخذته للبيت.. ولم أبحث معه في أي موضوع، وفي بيتي وجد الشاب نفسه. قال لي.. ذهبت لرابطة الطلاب العرب.. أسألهم عن غرفة أسكنها.. فأخذني أحدهم إلى بيوت الفساد!

كانوا يحرصون على إفساد الشباب.. حتى يسيروا في ركابهم..

هذه هي الوسائل الدنيئة لهذه الأحزاب الرخيصة لا يطمئنون إلى مسيرة الشاب معهم حتى يفسدوه.. فإذا فسد صار منهم وانتسب إلى أحزابهم.. ظلمات بعضها فوق بعض..

ومرّت الأيام وإذا بأخي عمران، الذي رفض الدعوة الإسلامية في بلده لأن أحد كبار رجالها عندما انتقل إلى بلد أخينا تحوّل إلى مرتزق في قصور السلطان!.. يتحول من تلقاء نفسه إلى إنسان داعية متحمس للإسلام.. وإذا به يدرك من تلقاء نفسه أن الإسلام هو الحجة على الرجال.. ولن يكون الرجال حجة على الإسلام بحال..

والدعوة إلى الله فنّ، وعلى الشباب المسلم، أن يتخصص في فنّ الدعوة فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها..

وامتدت الأيام بالأخ عمران.. وأكمل دراسته في القاهرة.. وعاد إلى بلده.. يخدمه بكل صدق وإخلاص.. استضافنا في بيته في الرياض.. أمضينا الوقت في تذكر سويعاتنا الجميلة التي اختلسناها من عمر الزمن في استانبول.. وزرناه بعدها في مكة.. فقد آب إلى البلد الحرام الذي نشأ فيه وكان يطمح أن يعود إليه..

كلما تذكرت هذا الأخ الكريم.. تذكرت معنى هاماً في حياتنا.. هو أن القدوة الصالحة والسلوك الراقي هو الذي يؤثر في الآخرين..

في آخر زيارة لي لمكة المكرمة لأداء سنة العمرة.. اتصلت به فلم أحصل على جواب.. حاولت مرة ثانية.. وثالثة.. فلم أسمع صوته الرقيق العذب سألت أصدقاءه ومعارفه.. فأخبروني بأنه توفى.. لقد توفى شاباً.. وفي ذلك عبرة لهؤلاء الذين يغريهم طول الأمل.. فيتيهون في سراب الحياة.. ناسين المحطة الأخيرة..! رحم الله الأخ عمران.. فكم أحببته في الله.

في انتظار القطار

كان قطار الشرق السريع الذي يربط البلاد العربية بتركيا، يصل إلى محطة حيدر باشا في القسم الآسيوي من استانبول، يومي الإثنين والأربعاء من كل أسبوع.. كنا نذهب في هذين اليومين إلى محطة القطار.. ننتظر الطلاب العرب القادمين للدراسة في استانبول، فإذا عثرنا على بعض الطلبة الجدد القادمين، أخذناهم، وأنزلناهم في الفندق، وقدّمنا لهم كل أنواع المساعدة التي نتمكن من أدائها.. وماذا يريد الغريب عندما ينزل في بلد كبير مثل استانبول.. بلد يجهل لغته.. ولا يعرف مسالكه.. ولا كيف يتصرف فيه.. ولا أين يذهب..؟

لقد أدركنا هذا بعد سنين طويلة.. فعندما يذهب أحدنا إلى بلد أجنبي.. وهو يعرف اللغة.. وزاره مرة بعد مرة.. وله فيه إخوان وأصدقاء.. ومع ذلك عندما يجد أحد إخوانه في انتظاره يسعد كثيراً.. ويعرف أن رحلته قد تيسرت فلا ضرورة إلى ركوب التاكسي.. والبحث عن الفندق.. والتعرف على مطعم يقدم المأكولات الإسلامية.

كنا نسأل هؤلاء الطلبة ونتعرف عليهم.. ونأخذ بأيديهم إلى السفينة التي تنقلنا إلى استانبول الأوروبية.. ثم نأخذهم إلى فندق يتناسب وإمكاناتهم.. وبعد أن يستريحوا.. نأخذهم إلى حمام السوق.. وحمامات استانبول مشهورة..

وبعد هذه الإجراءات نجلس إليهم ونضع برنامجاً لخدمتهم.. من يرافقهم من شبابنا.. من يقضي حوائجهم.. من يقدم لهم وثائقهم للجامعة.. من يدرسهم اللغة التركية وأين..

أذكر من هؤلاء الأخ عبد العزيز خصاونة.. قال لي بعد أن اطمأن واستراح وشعر بالثقة: هذه أخلاقيات الإخوان.. وأنا ممتن لهم.. ولكني لن أكون واحداً منهم.. ولم تتغير معاملتنا لأحد.. بعضهم نصارى.. وبعضهم قوميون أو بعثيون.. ولكنهم كلهم أخوة لهم على إخوانهم الذين سبقوهم واجب خدمتهم.. سيدنا علي بن أبي طالب يلتقي بأبي ذر رضي الله عنه، فقد جاء إلى مكة يبحث عن النبي، فيأخذه إلى بيته.. وفي اليوم التالي قال له: أما آن للغريب أن يعرف داره؟! هذه هي أخلاق الإسلام التي كنا نفتخر بأدائها..

وهكذا كسبنا عددا كبيرا من الإخوة والأصدقاء.. والداعية المسلم ينبغي أن يكون لطيف المعشر، حلو الحديث، رقيق العاطفة، أسرع الناس في تقديم المساعدة للآخرين..

وعندما ينسى الدعاة واجبهم في تبليغ الإسلام، ومحاولة نشره بين الناس، والدعوة إليه بالسلوك والقدوة الحسنة، ويحصرون أنفسهم في دائرة الأوامر.. افعل أو لا تفعل.. وتبدأ المصلحة الحزبية تطغى على مصلحة الدعوة.. عندها نكون في مرحلة سلبية أكثر مما نكون في الايجابيات.

جاء أحدهم إلى سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه وهو معتكف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فشكا له أمره.. فنهض عبد الله بن عباس من فوره.. وقام لخدمة أخيه وقضاء حاجته.

وذكره الرجل أنه معتكف.. وأن المعتكف لا يخرج من المسجد إلا في حالة الضرورة.. فأجابه عبد الله ابن عباس إجابة الفقيه الداعية: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سعى في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهراً.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر.. فقد كنت في القطار عائدا إلى بلدي.. وركب معنا اثنان من المغاربة.. ليس عندهم ثمن تذكرة القطار.. وهم ذاهبون إلى حلب يبحثون عن عمل.. لغتهم ثقيلة لم نكد نفهمها.. دفعنا عنهم ثمن تذاكر القطار.. ومضينا في خدمتهم لمدة يومين.. ودفعنا عنهم أجرة التاكسي عند الوصول والفندق الذي سيقضون فيه ليلتهم.. أليست هذه هي الدعوة المؤثرة؟!

قضية الأمن

من السياسات الخاطئة التي كنّا نؤكدها في عملنا أن لا يتم اتصال بيننا وبين الأتراك في ميدان الدعوة.. وعللوا ذلك بالأمن.. وهذا فهم خاطئ.. فالأمن لا يكون على حساب الدعوة..ولا على حساب تبليغها، أو نشرها، أو تقديمها للآخرين.. هل كان الرعيل الأول من المؤمنين بدعوة الحق في مكة.. آمنين على أنفسهم عندما كانوا يتصلون بمحمد صلى الله عليه وسلم..؟ ألم يكن طغاة قريش يراقبونهم وإذا علموا أنهم تركوا دين قريش وأقبلوا على الدين الجديد.. كانوا يصبون على رؤوسهم صنوف العذاب..؟

هل كان الأمن هو هدفهم.. أم نصرة الحق مهما تكن النتائج..؟

ولماذا نذهب بعيداً.. فكيف تعاملنا نحن مع الأمن في بلادنا..؟

لماذا نقوم بالدعوة وبلادنا من أكثر دول الأرض إرهاباً وضغطا على الدعوة والدعاة.. ومن ثم لماذا نستهين بالأمن في بلادنا ونحرص عليه في بلاد الآخرين..؟

أليس في ذلك بعض التناقض..؟

بدايات العمل الدعوي

والدعوة الواعية الهادئة لا تعكر صفاء ولا تثير أحدا.. وهي أمر يختلف عن التشنج في الدعوة.. واستخدام العنف في القول والعمل..

إن وجود الدعاة، لأي سبب كان، خارج مناطقهم هو فرصة ذهبية لنقل الدعوة ونشر الرسالة الإسلامية في هذا القطر أو ذاك.. وبالفعل فإن النتائج التي حصلنا عليها من لقائنا مع إخواننا الأتراك كانت أكثر بكثير مما كنّا نتوقع..

هل رأيت الأرض العطشى.. كيف تحن إلى الماء العذب..؟

هل رأيت القوة الصادقة.. إذا أحسنت توجيهها..؟

كم كان الإثم عظيما لو تركنا هذه البلاد دون أن يقوم بعضنا بالواجب فيسقط عن المجموع. لقاءات كثيرة مع (م. صبري) رحمه الله.. ومع آخرين غيره من الأحياء، ليال قضيناها نبحث في أحسن الوسائل وأسلمها للعمل الإسلامي.. كنّا نزور ونشجّع الصحف التي بدأت تذكر الإسلام بخير.. نكتب بعض المقالات حيث يتاح لنا ذلك.. نترجم بعض الرسائل ونتركها معالم للطريق، نتصل بمن نتوسم فيهم الخير.. وكانت النتائج أكبر بكثير مما كنا نتوقع. ولقد صارت البذور التي احتضنتها الأرض المعطاء أشجارا باسقة تظلل عملا عظيما، هو مضرب المثل في الأرض التي أريد لها أن تشع علمانية، وتعلّم الآخرين كيف يحاربون الإسلام.

هل يتصور أحد هذا المشهد، فقد اجتمعت كل القوى المحلية والعالمية فتسقط الخلافة، وتشرد الخليفة، وتقيم دولة علمانية.. فيأتي بعد خمسين سنة من يقف  في عين المكان ليعلن عودة الإسلام إلى تركيا.. نقلة عظيمة ومسافة هائلة قطعتها تركيا في هذه السنين. وبكل تأكيد فقد كان للبذور التي غرسناها دور في هذا المشهد.. قد يكون دوراً صغيراً.. ولكنه مؤثر!!

ماذا سيقول هنتنغتون اليوم بعد أن كتب شهادة وفاة الإسلام بعد سقوط الخلافة.. هل سيقول إني كنت أجهل طبيعة هذا الدين وأن الإسلام لا يموت.. هل سيقول أن أربكان اليوم هو عبد الحميد الآخر؟

ذهبت لزيارة أربكان رئيس وزراء تركيا في مجلس الوزراء.. في أنقرة.. فقيل لي ذهب إلى صلاة المغرب.. يا سبحان الله هل أصبح في قلعة العلمانية مسجد!! شعرت يومها بالفخر ودعوت لأربكان بالسؤدد والتمكين.

الشعبة الأولى

ولكنك لا تعرف أهوال الشعبة الأولى..

قالها لي الرجل الذي استدعاني للتحقيق ، بتهمة العمل الإسلامي.. جلست أمام المحقق، سألني الأسئلة نفسها، التي سألنيها الآخرون.. في أماكن أخرى..

سبحان الله كيف يسأل الجميع الأسئلة نفسها..؟

ما علاقتك بالإسلام، لماذا تخدم الإسلام، هل تتصل بالآخرين باسم الإسلام..؟ إلى أي جماعة تنتسب..؟ هل تعرف فلاناً وفلاناً..؟

هل اجتمعوا واتفقوا على نوع الأسئلة.. أم أن المعلّم واحد، والمخطط واحد، وما على هؤلاء الصغار سوى تنفيذ الأوامر؟ (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).

ألا تفهم..؟

نعم فهمت..

وقّع إذن.. ومرّت أمامي صورٌ كثيرة لرجال وقفوا مثل موقفي هذا.. نطقوا بكلمة الإيمان التي يكرهها الطغيان، فحاكموهم عليها وإذا بهم في غياهب السجون.. أو على أعواد المشانق.. إنه المصير.. وسألت نفسي.. هل تقبل بهذا المصير؟ وعندما كنت أوقّع.. كانت الصورة واضحة أمامي.. صورة تليق بالرجال أصحاب المبادئ السامية.

كانوا على غير فكرنا.. ولكنهم كانوا ينظرون إلينا بعين ملؤها التقدير.. ويتساءلون: كيف يستطيع هؤلاء الشباب الصغار أن يفكروا بهذه الطريقة..؟

تلبيس إبليس

ولكني لا أستطيع أن أجمع بين الأمرين.. فوالدي أرسلني للدراسة وأنا مضطر لصرف الوقت في هذا المجال.. أما الدعوة، فبعد التخرج سأجد لها وقتا إن شاء الله..

كلا يا أخي.. فالمسلم إنسان متوازن منظم.. وحتى هؤلاء الذين يشكون من ضيق الوقت.. فهم في الحقيقة يشكون من عدم تنظيمه.. فالله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم.. هيأ له الوفرة في كل شيء.. الوفرة في الرزق إذا سعى وجاهد، والوفرة في العقل إذا فكّر وسدّد، والوفرة في الوقت إذا نظم واجتهد.. والإنسان المسلم هو إنسان عاقل ومنظم.. يستطيع أن يتفوق في دراسته، ويحرص على دعوته، ويزور إخوانه، ويؤدي لكل ذي حق حقه..

أما الذين يزعمون أن كل وقتهم للدراسة.. فهؤلاء غير صادقين.. يتسترون بهذا الكلام للابتعاد عن إخوانهم.. وصرف أوقاتهم في العبث وبما لا طائل وراءه..

وإذا كانت يد الله مع الجماعة.. والواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب.. إذا كان ذلك في جميع الأحوال.. فإن الجماعة في بلاد الغربة ضرورة لحفظ الدين والدنيا. وكم هم الطلاب الذي تغربوا وانصرفوا عن دينهم، فصرف الله قلوبهم.. فما حصّلوا دراسة ولا شهادة، أضاعوا الدنيا والآخرة.. كنا نرقب الأخ من هؤلاء حتى إذا انقطع عن إخوانه أياما ذوات العدد.. نجده بعدها بصحبة فتاة.. يتسكع معها في طريق الانحراف..

فتنة المرأة

لأول مرة أفتح النافذة لتستقبل أشعة الشمس بعد انقضاء فصل الشتاء البارد الطويل.. واستغربت لما رأيت..

وهل في استانبول اليوم مناسبة تخرج فيها النساء شبه عاريات؟

وضحك محدثي.. وقال: بل هذا هو لباسهن!

إذن، فالفساد استشرى، وبدأ بالمرأة التي تعرّت باسم التحرر، وفسدت باسم المدنية.. في شارعنا، وفي البناية المقابلة كانت تجلس فتاة جميلة في مقتبل العمر، وكنت أجلس في غرفتي مقابلها تماما.. والنظرة تستتبع النظرة.. ولم يكن صاحبنا يجرؤ أن يتبع النظرة بالحركة فاستعجل الرحيل، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

وعلمت بعد ذلك أن الشاب الذي أخذ مكاني في هذه الغرفة تعرف على هذه الفتاة.. وأضاع معها وقته وماله وجزءا هاما من دينه وأخلاقه..

وحادثة أخرى تعرضت لها في استانبول.. فقد سكنت في بيت آخر تملكه امرأة عجوز.. وكنت أقضي أكثر وقتي بالقراءة.. وفجأة اكتشفت أن الغرفة المجاورة لغرفتي تسكنها امرأة شابة جميلة ومعها طفل.. أما زوجها فمتزوج من امرأة أخرى.. ولا يجيز القانون الحديث للتركي بأن يتزوج بأكثر من واحدة..

يجوز أن تكون لك خليلة أو عشيقة أو أكثر.. ولا يجوز أن تكون لك زوجة ثانية..!

كان الزوج يزور زوجته (المتريس) كل عدة أيام، وأحيانا كل عدة أسابيع. والمرأة شابة.. وتحتاج الزوج الغائب..وضاق الأمر بالساكن الجديد.. والأمر فصل وليس بالهزل.. فغادر البيت دون سابق إنذار وللسبب نفسه.. من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه..

واليوم أحمد الله أن منحني القوة في هاتين الحادثتين وفي حوادث كثيرة مماثلة.. وكانت كل واحدة من مثل هذه الحوادث منزلقا خطيرا لا يأمن الإنسان عواقبه.

والمرأة أكبر فتنة للشباب.. وليس لها من علاج إلا الصحبة الصالحة.. والزواج المبكر لمن استطاع.. والصوم لمن لا يستطيع.. أما إذا تصور الشاب أنه قوي، وذهب يرافق إحداهن إلى السينما، أو إلى البحر، وتساهل في قراءة الصحف التي تنشر الصور الخليعة.. إذا فعل ذلك فبإمكانك أن تقرأ عليه السلام!!

وفتنة المرأة من أكبر الفتن.. وما من أمة استسلمت لها، وما من شاب سيطرت عليه شهوته.. إلا وسيطرت على عقله.. وحسّه.. وفكره.. وأنسته نفسه وأهله ودراسته..

وإذا ألقيت على أمثال هؤلاء نظرة إشفاق، فاذكر معها قول الشاعر الأخطل الصغير:

هذا قتيل هوى ببنت هوى           فإذا مررت بأختها فحد

(7)

على ضفاف البوسفور

في فصل الشتاء يطول الليل… ويحلو السهر كما يقولون… وبخاصة في البلاد التي شتاؤها شتاء… وبردها قارس… ورياحها تلسع الوجه واليدين فتجمد الدم في العروق..

مضيق البوسفور

وفي ليلة من هذه الليالي.. وفي غرفة صغيرة قريبة من بحر البوسفور في استانبول يمتزج فيها صفير الريح بهدير الأمواج جلسنا مع مجموعة من الطلبة تجمعوا من مختلف المناطق يسلمون ويستفسرون… عن الأهل والأصحاب… فقد طال عهدهم… وعظم شوقهم… وأحسست عند الشباب بعض الشعور بأن العمل الإسلامي في تراجع مستمر… وأن في نفوسهم قدرا كبيرا من الإحباط… وإن نظرة سريعة على الحركة الإسلامية في أنحاء العالم تؤكد لهم هذا الإحباط… وذاك التقهقر..

فماذا ترى يا شيخنا؟

تصوروا معي… لو كلفنا إنسانا مثقفا عالما بأحوال الناس وأوضاعهم السياسية.. وطلبنا منه أن يعد لنا تقريرا عن أحوال المسلمين في جزيرة العرب وهي كل الأرض التي يسيطر عليها الإسلام يومذاك.. في عهد سيدنا أبي بكر.. فماذا سيكتب؟

سيقول: لقد تولى أبو بكر رضي الله عنه خلافة المسلمين بعد أن كادت تحدث فتنة في سقيفة بني ساعدة… وأنفذ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أسامة بن زيد رضي الله عنه وهو يضم الأنصار والمهاجرين… وما أن علمت العرب بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتدت… ولم يبق أحد متمسكا بدينه منهم إلا قريش بمكة وثقيف  بالطائف وقليل من غيرهم…

وظهر في العرب من ادعى النبوة. كطلحة بن خويلد الأسدي الذي تبعه بنو أسد وطئ وغطفان.. ومسيلمة الكذاب الذي تبعه بنو حنيفة… والأسود العنسي الذي تبعه أهل اليمن وكثير غيرهم..

حتى القبائل القريبة من المدينة كعبس وذبيان داهموا المدينة وأغاروا عليها… فخرج إليهم أبو بكر رضي الله عنه ومعه بعض من بقي في المدينة من إخوانه على النواضح (الإبل التي يسقى عليها)… الموقف عصيب.. فالعرب ارتدت.. وهي تهدد عاصمة الخلافة.. والأنصار والمهاجرون في جيش أسامة حيث التهديد من دولة الروم (العظمى يومذاك)… والخليفة وحده في المدينة يصر على قتال من فرق بين الزكاة والصلاة ويقسم بأنه لو منعوه عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه…

ثم تصوروا، لو استدعينا الكاتب نفسه بعد عدة أشهر من الزمان وطلبنا منه أن يعد لنا تقريرا عن أحوال المسلمين فماذا سيكتب؟

سيقول:

إن أسامة بن زيد رجع إلى المدينة ظافرا بعد أربعين يوما..

وإن أبا بكر سيّر سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه ووجهه إلى طليحة بن خويلد الأسدي فإذا فرغ منه قصد مالك بن نويرة بالبطاح (ماء بني أسد)..

كما وجه عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه إلى مسيلمة باليمامة (جنوب الرياض).. وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنه وجهه في إثر عكرمة..

والمهاجر بن أبي أمية رضي الله عنه وجهه إلى الأسود العنسي… ثم يمضي إلى كندة (شرقي صنعاء ومأرب)..

وحذيفة بن محصن الغطفاني رضي الله عنه وجهه إلى أهل دبا (مدينة بعمان).

وعرفجة بن هرثمة رضي الله عنه وجهه إلى أهل مهرة..

وسويد بن مقرن رضي الله عنه وجهه إلى تهامة اليمن..

والعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه وجهه إلي البحرين..

وطريفة بن حاجز رضي الله عنه وجهه إلى بني سليم ومن معهم من هوازن..

وعمرو بن العاص رضي الله عنه وجهه إلى قضاعة.

وخالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه وجهه إلى مشارف الشام.

وسيقول هذا المحلل السياسي: وقتل القادة المسلمون مدعي النبوة… وقاتلوا المرتدين. فمنهم من عاد إلى الإسلام… ومنهم من قتل… وارتفعت راية الإسلام مرة أخرى خفاقة فوق ربوع جزيرة العرب… ليس ذلك فقط بل وأمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه الجيوش الإسلامية بالتوجه إلى حرب فارس والروم في بلاد العراق والشام… وهما الدولتان العظيمتان في ذلك الزمان وقد بدأتا تعتديان على تخوم الدولة المسلمة الفتية… وسيقول المحلل السياسي:إنما النصر من عند الله… وأسبابه وقفة سيدنا أبي بكر الخالدة.. وإصراره الكبير.. وصبره العظيم.. علي حماية الإسلام والدفاع عنه..

وإن الشباب المسلم اليوم الذي ترتفع هاماته عالية فوق كل أرض الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها… يتوق إلى الشهادة… وإلى رفع راية الإسلام.. هذا الشباب إذا صمم تصميم أبي بكر.. وجاهد جهاد خالد وإخوانه… وأيقن أن النصر مع الصبر… فسينتصر لا محالة…

قد يكون النصر أسرع مما نتصور… فوراء كل موقف انتصار.. ووراء كل صبر نصر. مع حديثي كنت أرى:  العزائم تشتد… والوجوه تتصلب… والتصميم يتأكد.. فقرأنا معا ( وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)( العصر- (1-3)).

(8)

شخصيات التقيتها في استانبول

واستانبول هي فاتنة الدنيا.. ومركزها.

وما أن تطأ قدم المرء أرض استانبول (مدينة الإسلام) حتى يخيل له أنه بات في عالم مختلف ذي عبق تاريخي ساحر، تعكسه حيوية ذات نكهة فريدة امتزجت فيها أصالة الماضي الرائعة مع روح العصر المتطورة، عبر امتزاج حضارات وثقافات تعود إلى آلاف السنين وتستمر استمرار الدهور.

استانبول هي أكبر المدن التركية وأكثرها حيوية، وهي إحدى أهم مدن العالم وأكبرها وأكثرها تميزاً بسبب موقعها الجغرافي الفريد الذي جمع بين القارتين الأوروبية والآسيوية في إطلالة بديعة على بحر البوسفور، وإحاطة ذات روعة خاصة  بالقرن الذهبي واحتضان للحضارة والتجارة، ورابط بين البحر الأسود وبحر مرمرة.

كانت مركز الخلافة الإسلامية العثمانية قرونا من الزمن.. ومازال القائد نجم الدين أربكان يحتفل يوم التاسع والعشرين من مايو في كل عام بعيد فتح استانبول.. التي اعتبر العالم فتحها نهاية عصر وبداية عصر جديد..

أهالي استانبول يتغزلون بجمالها.. والغرباء من كل أنحاء العالم يشدون إليها الرحال في سيل لا ينقطع، يتعرفون على آثارها ويملأون صدورهم من طيب هوائها وجمال غاباتها وسحر بحورها.. ويتركون لخيالاتهم العنان وهم يعبرون البوسفور الذي يصل البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط . متاحفها جزء من التاريخ.. منتزهاتها.. مساجدها.. كل شيء فيها يشدك ويأخذ بلبك.. في هذه المدينة الفاتنة عشت فترة من أجمل سنين العمر.. مع ثلة من الأخوة الطلبة الذين جاءوا للدراسة من مختلف البلدان العربية والإسلامية.. كنّا في العمر الذي تتكامل فيه الشخصية.. ولقد كان للجو الإيماني الدعوي الذي عشناه أكبر الفضل في استقامة هاماتنا.. وثبات وجداننا مع الحق، لا نريم عنه مهما تكن الخطوب.

ولقد تهيأت لنا فرص طيبة للتعرف على العديد من الشخصيات الذين يزورون المدينة للسياحة.. أو للدراسة.. أو للعمل.

مع الأستاذ عبد البديع صقر

عبدالبديع صقر

مازلت أذكر زيارة أخينا وأستاذنا (عبد البديع صقر).. زرناه مع بعض إخواننا في فندق هيلتون.. فقد كان إمام الشيخ علي آل ثاني حاكم قطر وواعظه.. فرأيناه يغسل بعض ملابسه، وعنده مكواة صغيرة يكوي بها ملابسه، واستغربنا الأمر.. فهو جزء من حاشية ملك.. وكل شيء من ملبس ومطعم وخدمات رهن إشارته.. ولكنه فضل أن يغسل وأن يكوي ملابسه بيده.. فالرجال الكبار يتحكمون بالظروف.. ولا يسمحون للظروف أن تتحكم بهم فتضعفهم.. اجتمع بالشباب في بيت من بيوتهم وكان معنا الأخ الكبير عبد المنعم عبد الرؤوف اللاجئ السياسي في تركيا.. والتقى الرجلان بعد فراق طويل.. كانا يوما في بؤرة الأحداث.. فنأت بهم الديار.

هل رأيت الجدول الرقراق العذب.. كذلك كنا نرى الحب ينساب من خلال دموع الرجلين.. دموع الحب في الله ودموع الخشية من الله.. هذه الدموع هي التي تميز الركب المؤمن الذي يسعى لخدمة دعوة الله، (عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله).

ذكّرنا أخونا عبد البديع صقر بعبارات خاشعة رائعة بليغة عميقة.. قال: إن مما حفظ علينا استمساكنا بدعوتنا، رغم الظروف القاسية، تلك الذكريات التي عشناها مع إخواننا في الله.. وسنظل على العهد ما كانت هذه الرؤى تملأ خيالنا.. وكذلك فافعلوا.

وقال لنا: إن المسلم هو أذكى الناس، فقد اختار الطريق الأقوم على صعوبته.. ولا يستطيع ذلك إلا الأذكياء..  والذكاء نعمة وابتلاء.. والدعوة تقوم أساسا على الرجال الأذكياء، أصحاب المواقف، الذين يستطيعون أن يدركوا الأمور ويحللوها، ويتخذوا الرأي وينفذوه، فلا قيمة للرأي إذا تردد فيه صاحبه.. ولا قيمة للتنفيذ إذا حدث في غير وقته المناسب. والذكيّ المتحرك هو الداعية الحق.. وبقدر حركته تزداد ساحة ذكائه، وتنمو معارفه..

صدق الرجل.. فلقد واجهنا منذ اليوم الأول في دراستنا معركة خفية بين مجموعة من المتخلفين وآخرين من الأذكياء المتقدمين في هذا الميدان.. فلم يغفر لي مثلاً بعض إخواني الذين كانوا يدرسون في الهندسة الكيماوية أن اجتاز الصف الأول وامتحان اللغة التركية في سنة واحدة.. فقد كانوا يعللون فشلهم في الدراسة، بصعوبة المنهاج.. وصعوبة الدراسة في هذا التخصص الجديد.. فلما جاء من يثبت عمليا عدم جدية هذا الادعاء.. صغروا أمام أنفسهم.. وأضمروها في قلوبهم.. ومثل هذه القصص تتكرر كثيرا في قضايا الدراسة.. وتنعكس بالتالي على قضايا الدعوة..

فإذا استطاع هذا النفر المتخلف دراسيا، المهزوم نفسيا، الحاقد على الآخرين بسبب تفوقهم، أن يصبح في موقع المسؤولية، صبّ على الدعوة وعلى أبنائها المتحركين جام غضبه وحقده.. ومن المصلحة بمكان أن يحال بين هؤلاء وبين الوصول..

مع البروفيسور محمد حميد الله

محمد حميد الله

كنا نهرع لحضور محاضرات السيرة والتاريخ الإسلامي يلقيها في كلية الآداب في جامعة استانبول البروفيسور الدكتور محمد حميد الله. وحميد الله عالم زاهد عابد فاضل من الهند. كان يلقي محاضراته ستة أشهر في جامعة السوربون في باريس وستة أشهر أخرى في كلية الآداب في جامعة استانبول كل عام، كان يحضر عنده النفر القليل.. وكنا وإخواننا ذلك النفر.. صبر الرجل وبعد سنتين من بدء محاضراته صارت المدرجات الكبرى لا تتسع للحاضرين، إذا ذكرنا بدايات البعث الإسلامي في تركيا.. وأحببنا أن نذكر طليعة العاملين الصامتين فلابد من ذكر البروفيسور الدكتور محمد حميد الله..

زرناه في الفندق مع الدكتور مصطفى الأعظمي عالم الحديث الهندي الأصل، كان يتحدث قليلا وبصوت خافت ولكن كلماته كانت عميقة ومؤثرة.. حدثنا عن الحركات الإسلامية.. وعن أولئك النفر من حزب التحرير الذين يأخذون وقته ويفرضون أنفسهم عليه فرضا ينتقدون ويشككون، يحاسبونه على الكلمة يفسرونها على هواهم.. أنهم قوم جدليون وما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل..

في إحدى هذه المحاضرات حاضرنا الأستاذ جاويد إقبال وتكلم عن العلامة والده  إقبال صاحب فكرة باكستان الذي رأى أن تعايش الهندوس مع المسلمين في ظل حراب الإنكليز أمر مستحيل.. وأن الآلام التي يتعرض لها المسلمون هناك لا علاج لها غير إيجاد دولة مستقلة للمسلمين.. هكذا تصورها بخيال شاعر.. حتى جاء محمد علي جناح وقاد العمل السياسي من خلال حزب الرابطة الإسلامية وحقق استقلال باكستان..

مازال منظر الأستاذ محمد حميد الله يشدني.. وهو ينتظر الأذان في مسجد بيازيت.. يفطر على حبات من الزيتون الأسود.. ويصلي المغرب ثم يذهب للفطور.. الصمت والسلوك القويم أرقى من كل كلام.. والعلم والتواضع أرقى من كل فلسفة.

كتب الدكتور سعيد رمضان عن محمد حميد الله، إحدى خواطره في مجلة (المسلمون)، بعنوان: بقية من السلف الصالح.. وصف غرفته الصغيرة في باريس التي تملأها الكتب والمراجع.. والحياة المتواضعة التي يعيشها.. والزهد البين في كلماته ولباسه وطعامه ومعالم حجرته.. كتب عن علم الرجل وفقهه وكتبه.

وكم سررت مؤخراً يوم قرأت أن اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا.. قد أحيوا ذكرى الرجل الذي كان له دور رئيس في تأسيس اتحاد الطلبة المسلمين في فرنسا.

نداء الغرباء

وبمناسبة مرور سنتين على وفاته، في السابع عشر من شهر كانون الأول (ديسمبر) 2002م أعاد الأستاذ عصام العطار نشر مقالة له كتبها في حق هذا العالم العظيم محمد حميد الله، ننشرها هنا لمزيد من التعريف بالرجل. قال الأستاذ عصام:

تحيةٌ إلى الإنسانِ العظيم ، والعالمِ العظيم ، والمسلمِ العظيم الدكتور محمد حميد الله ..

تحيةٌ إلى الرجل الذي ارتفع بإيمانه الصادق فوق هذه الدنيا حقيقةًً لا كلاماً ، فكان مُذْ عرفنَاه أكبرَ من هذه الدنيا ، وأزهد الناس بها ، في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه ، وفي تواضعه ، ونأيه بنفسه عما يتهافت عليه الناسُ ، من المتعِ والملذّات ، والمكاسبِ والمناصب، والشهرةِ والتكريم ؛ وهو لو أراد شيئاً من ذلك لبلغَ منه الكثيرَ دونَ عناء..

تحيةٌ إلى الرجل الذي وسعَ بقلبه الكبير، وعقلِه الرشيد ، وخلقِه الرفيع، وأفقِه الواسع، سائرَ الناس، وأحبَّ لهم ما أحبّه لنفسه من الهدايةِ والخير، وبذلَ في إرشادِهم وخدمتهم، من قلبِه وفكره وعلمه وجهده، ما تَنُوءُ بمثلهِ العصبةُ أولوا القوة، فثبَّتَ الله به من ثَبَّت على الهدى ودين الحقّ، وأخرجَ به من أخرج من الملحدين والكافرين والضائعين، من الظلمات إلى النور ، ومن الضلالة المهلكة إلى صراطِهِ المستقيم .

تحيةٌ إلى الرجل الذي عاش في الغرب فلم يفتنه الغرب، ولم يلوِّثه الغرب، وكان حيثما وُجِد منارةً هادية، ودعوَةً دائبة، وتعريفاً حيّاً بالإسلام، وفضائل الإسلام، بلسان الحال، لا بمجرد المقال : تعريفاً رائعاً ما يزالُ له في كثيرٍ من النفوسِ أجملُ الآثار، وما يزالُ يفتحُ القلوبَ لدعوةِ الله عزَّ وجلَّ، ويُوَلّد لها عند المنصفين المحبةَ والإعجاب والإكبار.

تحيةٌ إلى الرجل الذي استنفدَ عمرَهُ وقواه في خدمة الإسلام والمسلمين والإنسان، ووهبَ حياته لخدمة دينه وأمّته بقلمه ولسانه وعمله، في كلّ مكان، وعلى كل صعيدٍ يراهُ أَولى بالجهد، أو يرى نفسَه أقدرَ على الإفادَةِ فيه؛ مُسَلّحاً في ذلك كلّه بالإيمان والإخلاص، والعلم والوعي، والإرادة والدأب، والتضحية والصبر، وعددٍ من اللغات الحيّة منها العربيّةُ والأرديةُ والفارسية والتركية والفرنسية والإنجليزية والألمانية.. يَفْهَمُ بها العالم، ويُخَاطِبُ بها العالم، ويخدم بها دعوة الله أجلّ الخدمات .

تحيةٌ من أعمقِ أعماق القلبِ والحبِّ والعرفانِ إلى محمد حميد الله ، وهو يحملُ الآنَ على كاهِلِهِ المكدودِ ، وهيكلهِ العظميِّ الناحل ، أعباءَ سِنِيه الثمانيةِ والسبعين ، ويفتِّشُ حيثُ يعيشُ من عشراتِ السنين في بـاريس ، عـن (مأوى عجزة) متواضعٍ ، يقضي فيه ما بقي من أيّامِ شيخوخته ، بعد أن أعطى صِباهُ وشبابَهُ وكهولتَه وخيرَ أيّامِ الشيخوخة والحياة للإسلام والمسلمين : فلا يجدُ (مأوى عجزة) يقبلُه براتبهِ التقاعديّ الضئيل .

لا أكتبُ هذا الكلام – كما قد يتبادرُ لبعضِ الأذهان – لأستثيرَ شعورَ المسلمينَ بالمسؤولية عن هذا الرجلِ العظيم، ولأدفعَهم إلى الوقوفِ معه في هذه المرحلةِ من شيخوخته، ومساعدتِه على توفيرِ الشروطِ الملائمة لوضعه الصّحيّ، ولاستمرارِ إنتاجِه وعطائِه الجليلِ الذي لا يُعَوِّضُه في مجاله سواه؛ فالأستاذُ الدكتور محمد حميد الله لا يقبلُ مساعدةَ أحدٍ مهما اشتدّتْ به الحال؛ بل لقد كان – وما يزال – يقتطع من ضروراتِ حياتِه الأساسية ما يساعدُ به الناس، ويُحَوِّلُ رَيْعَ كتبِهِ – إن قَبِلَ أن يأخذ لكتبه ريعاً – إلى الجهات التي تخدم الإسلام والمسلمين ..

إنما أكتبُ لأُسجِّلَ واقعاً مأساوياً، ما أَمَرَّه وما آلَمَه منْ واقع، وما أَدْمَاهُ للنفوسِ التي لم يمتْ فيها كلُّ إحساس، ولم ينعدمْ فيها كلُّ وفاء، ولم تفقدْ كلَّ الفقدِ أدنى شعورٍ بالمسؤوليةِ والواجب.

أَيْ محمد حميد الله!

أيّها الشمسُ التي أنارتْ طويلاً ، وبدأت تَجْنَحُ الآنَ للغروب..

أيّها الشَّفَقُ الملتهبُ على الأُفُقِ بالإيمانِ والمحبّةِ والإخلاص والذي يَتَهَيَّأُ الآنَ للمغيب ..

أيّها الفارسُ القديمُ الذي حملَ رايةَ الإسلامِ في بلاده التي حُرِمَ منها ( حيدر آباد ) وفي ديار الغرب ، وفي بقاعٍ أخرى متباينةٍ من الأرض ، بثباتٍ وصبر ، وتواضع وصمت ؛ والذي يوشِكُ ضعفُ الجَسَدِ أن يَنْزِلَ بِهِ الآنَ قسراً عن جوادِه العتيد ..

أيّها الخُلُق الرفيع ، أيّها الزُّهد الصادق ، أيّها التواضعُ النادِر ، أيُّها العمل الدائب ، والعطاءُ القلبيُّ المتواصل ، على صعيد البحث والتأليف ، والتوجيهِ والتعليم ، وخدمةِ كلِّ محتاجٍ بما تستطيع ؛ من مالٍ أو جاه ، أو مشاركةٍ عاطفيّةٍ فكريّةٍ أخوّية ، تَأْسُو الجراحَ وتُسَدِّدُ الخُطى، وتُعِينُ على متابعةِ الطريق .

أيْ محمد حميد الله !

إن كانَ قد عقَّك المسلمون، وقصَّرَ في حقّك المقصّرون، ولم ترَ أقلَّ القليلِ مما تستأهلُهُ من العرفانِ والتكريم، والمساعدةِ على القيامِ بالواجب ؛ فإنَّ الأجيالَ الإسلاميةَ الجديدة، والطلائع الإسلاميةَ الأصيلة ، لتُعَبِّرُ لك في هذه المرحلة المتقدّمة من مراحل حياتِك وجهادِك الطويلِ النبيل، عن أعمقِ مشاعرِ المحبّةِ والعرفانِ والشكرِ والتقدير، وتُرْسِلُ إليكَ – عبر الرائد – بهذهِ التحيّةِ الصّادقةِ الخالصةِ المنبعثةِ من أعماقِ القلوب، وإنْ كنتَ قد عملتَ ما عملتَ في حياتك المباركةِ كلِّها ، وأنتَ لا تنظر إلاّ إلى الله ومرضاةِ الله، ولا تريدُ من أحدٍ من النّاس جزاءً ولا شكورا، فجزاكَ الله عنّا وعن الإسلامِ والمسلمينَ خيرَ الجزاء.

ومدَّ الله في حياتِك الغاليَة، ومتَّعَكَ بالصّحةِ والعافية، وأبقاكَ بيننا، وحفظكَ فينا، أخاً حبيباً كبيراً، وقُدْوَةً عزيزةً وذُخْراً، ولا حَرَمَنا منْ ثَمَرَاتِ علمِكَ وفكرِكَ وعملكَ النافع.

والسلامُ عليكَ حيثما كنتَ ورحمةُ اللهِ والبركات (مجلة الرائد- عصام العطار).

مع الداعية سعيد رمضان

مازالت المثالية تسيطر على تفكيرنا.. فلان في الحركة الإسلامية.. معنى ذلك أنه كماء المزن طهور.. إذا قال أصاب.. وهو بعيد كل البعد عن المطامع والانحراف.. في هذه الأثناء جاءتنا المسلمون مجلة الشباب المسلم الأولى.. وفي صدر صفحاتها مقال بقلم سعيد رمضان صاحب المجلة ورئيس تحريرها بعنوان (أين أخوة الإسلام).. والمقال يضج بالشكوى من ظلم الصديق وجفوة الحبيب واتهام القريب.. وانقسمنا فريقين واحد مع سعيد رمضان باعتباره لا يخطئ!

وفريق مع الدكتور مصطفى السباعي (رحمه الله) الذي ردّ عليه في مقال عنيف تحت نفس العنوان في مجلة حضارة الإسلام.. وإذا كان الزمن يملك وحده حق البراءة والاتهام وتصديق الأحكام.. فإني أقول بأن الذين تطاولوا على سعيد قوم أخطأوا مرتين.. مرة بحق شخصه، فما كان يجوز لهم تضخيم الهفوات حتى تصير جرائم، والإسلام أمرنا بالستر ووعدنا بالغفران.. وأخطأوا مرة أخرى بحق الدعوة.. فالحركات السياسية والحزبية في الدنيا تحافظ على رموزها.. أفلم يكن الأجدر بنا أن نحافظ على هذا الرمز الكبير؟

لمصلحة من وقفنا رتلا نحارب سعيد رمضان كما يحاربه الطاغوت؟

لقد وصلت إلى هذا الحكم بعد أن تكرر الفعل مع الرموز الأخرى.. بل لم أجد رمزاً إسلامياً في القديم والحديث إلا وحاول إخوانه تشويهه.. والنيل من سمعته.. وقديماً قال سيدنا علي رضي الله عنه: هلك في ّ رجلان، عدو قال ومحب غال.. الأمر بين الطرفين السيئين: البغض.. والحب الزائد عن الحد. فأدركت أن القضية ليست غيرة لله وعلى دينه.. بقدر ما هي مواقف شخصية للبروز على حساب سعيد أو غير سعيد..

نعم.. رأيت زعامات لا تستطيع أن تبرز إلا إذا أزالت من طريقها هذه الرموز.. وهكذا كان.

القيادة نوعان

يوم كتبت كتابي القيادة في العمل الإسلامي قلت أن القيادة نوعين.. نوع يبرز على ظهور إخوانه.. ونوع يكبر مع إخوانه فيصبحوا جميعهم كباراً. وكنت استنتجت هذا الدرس من قصة سعيد رمضان.

ولسعيد رمضان علاقات خاصة مع الطلبة الذين كانوا يدرسون في الغرب. فلقد اضطرته الظروف أن يخرج من مصر، واضطرته ظروف أقسى أن يخرج من سوريا.. فلجأ إلى جنيف.. أسس المركز الإسلامي وأصدر مجلة (المسلمون) ومن موقعه بدأ ينشط ويرعى الحركة الطلابية في الغرب.

اتخذ من جنيف موقعا متقدما يصدّ منه العاديات عن الإسلام والهجوم الغربي على الحضارة الإسلامية، يكمّل في ذلك الطريق الذي سار فيه أمير البيان الرجل العملاق شكيب أرسلان.

وسعيد رمضان كان يوصف بأنه وزير خارجية الإخوان فقد كان الإمام حسن البنا، وسعيد صهره بالمناسبة، يرسله إلى البلدان الإسلامية لحل بعض المشاكل عندهم. كان قلمه أصيلاً، وفكره متقدماً، ولا أستطيع أن أنسى ذلك اللقاء الذي دعينا فيه إلى اللقاء بسعيد رمضان في منطقة (توزلا) قرب استانبول.. حدثنا وأشربته قلوبنا.. وبعد اللقاء أدركت لماذا خرجت مظاهرة تحمل سعيداً بعد محاضرة ألقاها في كلية العلوم السياسية في أنقرة يوم كان مجرد الحديث عن الإسلام في تركيا ولو بالإشارة من الجرائم التي يحاسب عليها القانون.. هذا هو سعيد الكبير الذي حطمه إخوانه بسوء الظن وتضخيم الهفوات.. ما أجمل القول المنسوب لسيدنا المسيح (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر)!.

مازلت أذكره عام 1954م وكنت حدثا.. وكان رفيق الأستاذ المرشد حسن الهضيبي عندما زار مدينة حماة في أثناء زيارته لسوريا.. تحدث الأستاذ المرشد حديثا مقتضبا.. كلمات معدودة لو وزنت بالذهب لرجحت عليه.. ولكن الجمهور المتحمس كان يريد الخطاب القوي.. وفهم عليهم الأستاذ الهضيبي فقدم لهم سعيداً.. الذي صال وجال وألهب مشاعرهم وأخذ بألبابهم.. مازلت أذكر أحدهم يقول لصاحبه: هذا هو الكلام!

التقيت بعد سعيد، بأبنائه (هاني وطارق).. إنهما صورة من أبيهم: فهماً للإسلام، وإشراقة في البيان، وحماساً ينتقل إلى قلوب السامعين.. رحم الله سعيداً.. وأمد الله بأعمار أبنائه.

مع الأخ عبد الكريم جريم

زارنا من ألمانيا عبد الكريم جريم.. طويل القامة مفتول الساعد بهي الطلعة يتكلم الألمانية والإنكليزية بطلاقة والعربية والتركية واليوغسلافية بشكل أقل.. كان مصارعا فاز مرات بميداليات المصارعة في أوروبا.. عمل بحارا على إحدى السفن التجارية.. حدثنا عن نفسه فقال:

(لقد رأيت عجبا، على ظهر الباخرة التي كنت أعمل على ظهرها.. كان معنا عامل سنغالي أسود، يقوم بحركات لم أفهمها، تارة يغسل أطرافه وتارة يقف ويأتي بحركات خاشعة أدركت فيما بعد أنه يصلي.. وأخبرنا بعدها أنه مسلم.. ووقع الإسلام في قلبي فقد كنت أرى نورا ينبعث من وجهه الأسود.. وعندما وصلت الباخرة إلى شواطئ السنغال ذهبت هناك وأعلنت إسلامي.. لم ألتق بعبد الكريم مرة أخرى.. ولكني علمت من أخباره أنه نشيط وأنه يدعو للإسلام في ألمانيا وأنه يعمل إماماً في أحد مساجد هامبورغ. وهكذا تكون الدعوة بالقدوة.. بالعمل والإخلاص، تكلم وجه العامل السنغالي فآمن معه الرجل الضخم المفتون بقوته وجماله وعنفوانه.

لا أستطيع أن أنسى روايته عن زيارته إلى مدينة اللاذقية في سوريا.. عندما نزل في مينائها.. وسأل عن مركز الإخوان المسلمين.. في عنفوان الاضطهاد الناصري للإخوان!

ظن الأمور كما هي في بلاده.. اختلاف الآراء لا يفسد للود قضية.. ولا يتحول الخلاف إلى أحقاد تقضي على كل شيء.. وهيأ الله له أحد الإخوة.. فأفهمه الأمر وأبعده عن أجواء الخطر.. ووجهه إلى باخرته..!

مع الشيخ الجليل أمجد الزهاوي

وفي استانبول التقينا بالشيخ العالم المجاهد أمجد الزهاوي عالم العراق.. حدثنا عن السلطان عبد الحميد، فقد عاصره، وعن المؤامرات التي قسمت الدولة فقد عايشها وقاومها، وعن الحكم الجديد في العراق بزعامة فيصل الأول والثاني ونوري السعيد ووصاية بريطانيا على مقدرات البلاد.. وعن جولاته مع علماء المسلمين في البلاد الأخرى لنصرة القضية الفلسطينية.. وكان يرى (رحمه الله) أن فلسطين لا تسترد إلا بالطريقة التي أخذتها بها عصابات اليهود.. وكل حديث غيره حديث خرافة.

إذا جلست مع الزهاوي أدركت عظمة (أبو أيوب الأنصاري)، الشيخ الذي جاوز  التسعين، وعندما أراد الخروج إلى الثغور قال له أبناؤه بأنهم يكفونه قال: وماذا أصنع بقول الرحمن: )انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً((التوبة-41).. وعندما أشار عليه قائد الجيش بأنه يعرّض نفسه للقتل وقرأ عليه: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ((البقرة- 195). اعترض وقال: فينا معشر الأنصار نزلت هذه الآية عندما سولت لنا أنفسنا القعود عن الجهاد.. تلك هي التهلكة..

وكذلك كان الشيخ الزهاوي ابن التسعين عاماً – يوم لقيناه – شابا في همته وقوته وعنفوانه، يحث الشباب على اتخاذ أسباب القوة.. فأدركت يومها أن الإنسان إنما يشيب رأسه وقد يضعف جسمه.. ولكن ذلك لا ينال بحال من قلبه وروحه وعزيمته.

لا بأس أن يقرأ الشباب المسلم سيرة الإمام الزهاوي من خلال الكتب التي كتبت عنه.. أو من خلال ما كتبه عنه الأديب الكبير علي الطنطاوي في مذكراته، فقد رافقه في أسفار كثيرة لشرح قضية فلسطين وواجب المسلمين في الدفاع عنها. أو ما كتبه الشيخ محمد محمود الصواف عنه في مذكراته.. وكيف تحملا معاً مسؤولية العمل الإسلامي في العراق في الظروف الصعبة.. والانقلابات وتحكم الشيوعيين وسحل المواطنين في الشوارع..

الشيخ الزهاوي هو واحد من هذه القيادات الفكرية الربانية.. وهي المعالم الحقيقية التي يهتدي بها طلاب الحقيقة..

ولقد ألفت كتاباً عن رموز الأمة.. وكتبت فصلاً عن شيخنا الزهاوي.. فلا قيمة لأمة بغير رموز.

 مع الجنرال عبد المنعم عبد الرؤوف

عبدالمنعم عبدالرؤوف

وفي استانبول التقيت بالجنرال الطيار عبد المنعم عبد الرؤوف.. فقد كان لاجئا سياسيا في تركيا.. في ظروف في غاية القسوة. وعبد المنعم عبد الرؤوف هذا هو الضابط الطيار الذي قام بدور رئيس في التنظيم العسكري (أو ما سمي بعد ذلك بتنظيم الضباط الأحرار)، ثم أبعده جمال عبد الناصر عن هذا التنظيم باعتباره من الإخوان المسلمين.. وعبد المنعم هو الذي احتل قصر رأس التين في الإسكندرية حيث كان الملك فاروق.. وبعد نجاح الثورة أبعده جمال عبد الناصر إلى قطاع غزة.. وعندما بدأت محاكمات الإخوان.. حكم عليه بالموت.. فهرب إلى الأردن ثم هرب ثانية إلى تركيا. وهناك عاملته السلطات التركية في منتهي الحذر.

ولا بأس أن نلقي بعض الضوء على سيرة هذا الرجل الشجاع، لنعرف أي الرجال هؤلاء الذين حكم عبد الناصر عليهم بالإعدام..!

ولد عبد المنعم في القاهرة عام 1914م.. والتحق بالكلية الحربية ثم التحق بمدرسة الطيران وتخرج منها عام 1934م.

كان زملاؤه يسمونه منعم الأسد لإعجابهم بشجاعته وجرأته.

شارك في الحركة الوطنية ضد الإنكليز المحتلين مع العديد من زملائه. وفي 16 مايو 1941م قام مع زميله حسين ذو الفقار بتهريب الفريق عزيز المصري بطائرتهما للالتحاق بثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد الإنكليز، وسقطت الطائرة بهم نتيجة لخلل فني، وألقي القبض عليهم، وأودعوا السجن، وصدر قرار بإعادة عبد المنعم إلى الجيش في سلاح المشاة.

في العام 1942م وبعد صدور قرار إعادته إلى الجيش ذهب إلى إدارة الجيش بوزارة الحربية لاستلام بعض المبالغ المجمدة له بالوزارة، وقابل الموظف المختص، والذي لم يعرف اسمه، ولكنه استراح إليه وإلى أسلوب استقباله له بمودة ومحبة وأخوة، وفي أثناء جلوسه في مكتبه وجد عنده جريدة مكتوباً عليها (الإخوان المسلمون لسان الحق والقوة والحرية)، فسأل الرجل باستغراب: وهل يوجد في مصر من يعرف أو يعمل من أجل الحق والقوة والحرية؟ فأجاب الرجل بهدوء: نعم الإخوان المسلمون، فطلب منه أن يعرفه بهم فأعطاه عنوان المركز العام بالحلمية واسم الأستاذ حسن البنا، والتقى بالإمام البنا في زيارة حضرها الصاغ محمود لبيب والدكتور حسين كمال الدين، وفي هذه الزيارة عرض على المرشد فكرة البدء بتكوين مجموعة من الضباط تعتنق مبادئ الإخوان المسلمين، واستحسن الإمام البنا ذلك، وقال له: إن أخاك الصاغ محمود لبيب سيعينك على تحقيق هذه الفكرة، وسيكون المشرف على تكوين هذه المجموعة.

الجهاد في فلسطين

شارك عبد المنعم عبد الرؤوف في الجهاد مع قوات المتطوعين في فلسطين، والذين كان أغلبهم من شباب الإخوان المسلمين، وبعض المتطوعين الآخرين من ليبيا والجزائر وغيرها، والتي كانت قيادتها العامة للبطل أحمد عبد العزيز، وكانت الأوامر قد صدرت باعتبار المتطوعين قوات خفيفة الحركة تنتقل بسرعة أمام الجيش وتقوم بالأعمال الفدائية، فلما وصلت القوات إلى بلدة العوجة استقرت بها فصيلتان من الليبيين ومجموعتان من المتطوعين المصريين تحت قيادة البكباشي أركان حرب: زكريا الورداني الذي اختار موقع القيادة لنفسه في العوجة، ووجد أن قرية العسلوج محاطة بعدد من المستعمرات، وأن استيلاء اليهود عليها يهدد بقطع الطريق بين الخليل وبئر السبع، فأرسل اليوزباشي: عبد المنعم عبد الرؤوف لاحتلالها واستخدامها قاعدة للقيام بعمليات فدائية ضد مستعمرات العدو وطرق تموينه.

ثم سحب أحمد عبد العزيز معظم القوات التي تركها في العوجة والعسلوج إلى الخليل وبيت لحم وقامت القوة بعمل كمائن ليلية ضد دبابات ومصفحات العدو.. كما قامت باحتلال الموقع المشرف على الطريق البري الرابط بين العوجة وبئر السبع.. وكذلك قامت القوة باحتلال مئذنة المسجد الوحيد بالقرية، ورابطت فيه قوة من حملة القنابل اليدوية لضرب أي تجمعات للعدو تنجح في التسلل للقرية.

وفي أول يوم من أيام الهدنة غدر اليهود كعادتهم وقاموا مساء يوم 11 يونيو 1948م بالهجوم على القرية، واشتبكت معهم قوات كمائن المتطوعين، واستطاعوا تدمير 11 مصفحة يهودية بمن فيها، وقام الإخوة الثلاثة المرابطين بالمئذنة بقذف قوات العدو بالقنابل اليدوية مما سبب له خسارة كبيرة في الأفراد.. واستمرت المعركة حتى الفجر، ثم انسحبت باقي القوة إلى العوجة حيث مركز المتطوعين.. وذهب الأبطال الثلاثة الذين كانوا بالمئذنة شهداء في سبيل الله بعدما قاموا بتفجير مخزن الذخيرة بعد دخول قوات اليهود فيه وامتلائه بهم(مذكرات عبد المنعم عبد الرؤوف، ص- (54-59)).

مع المجاهدين في القنال

كان يعمل في كتيبة بالقرب من السويس، ولم يتأخر في دعم ومعاونة قوات الفدائيين من الإخوان بكل ما يستطيع في شجاعة وتضحية أشاد بها مؤرخو هذه الفترة كالأخ المجاهد كامل الشريف في كتابه القيم (المقاومة السرية في قناة السويس).

المشاركة في أخطر عمليات الثورة

في صباح يوم 26 يوليو  عام 1952 م قام بمهاجمة وحصار قصر رأس التين بالإسكندرية، وأرغم الملك على التنازل عن العرش ومغادرة البلاد، وفي يوم 28 يوليو 1952م رجع إلى القاهرة وشارك في حصار قصر عابدين.

وفي يوم 2 أكتوبر 1952م أبعد إلى فلسطين، ورغم إبعاده فقد قام بعمل بطولي هام إذ قام بتدريب أعداد ضخمة من أبناء فلسطين تدريباً عسكرياً مركزاً وكوّن منهم قوات مقاتلة على درجة عالية من الكفاءة، شاركت بعد ذلك في مواجهة العصابات الصهيونية.

وفي 18  يناير 1954م  تم اعتقاله وأودع في السجن الحربي.

وفي 17 أبريل 1954م عقد مجلس عسكري عالي لمحاكمته، وأثناء المحاكمة تمكن من الهرب، واختفى داخل مصر لمدة عام تقريباً.

هل ستقف مشدوهاً أمام هذه الصورة التي رسمتها لك لضابط واحد من الإخوان المسلمين.. يتطوع لمشاركة العراقيين في ثورة رشيد عالي الكيلاني.. وهو أسد في فلسطين.. ويدرب الفلسطينيين للقيام بواجبهم ضد المحتل.. ويحتل قصر رأس التين ويجبر فاروق على المغادرة.. وقصر عابدين.. ثم يقدم إلى المحاكمة ويحكم عليه بالموت.. هل نقول أن أعداء الإسلام كانوا يحاكمون أبطال مصر..؟!

الخروج من مصر

في عام 1955م تمكن من مغادرة البلاد والهجرة إلى لبنان، ثم انتقل إلى الأردن حتى عام 1959م، ثم انتقل إلى تركيا وأقام بها حوالي ثلاث سنوات، ثم رجع إلى لبنان عام 1962م وظل مقيماً بها طوال فترة غيابه عن مصر.

عاد إلى مصر يوم 12 سبتمبر 1972م، وكان في استقباله بالمطار وزير الداخلية ممدوح سالم، وقابل الرئيس أنور السادات يوم 2 نوفمبر 1972م بمنزله بالجيزة، وصدر بعدها قرار جمهوري بإلغاء حكم الإعدام الصادر ضده عام 1954م في عهد عبد الناصر.

وبقي مقيماً في مصر لم يغادرها إلا لأداء فريضة الحج عام 1978م، وبعدها أصيب بشلل نصفي ونقل إلى مستشفى المعادي، ثم أمر الرئيس السادات بنقله للعلاج في فرنسا، حيث أجريت له عملية جراحية، ثم عاد إلى مصر، وعاش معاناة طويلة مع المرض حتى وفاته في 31 يوليو 1985م.

ذكرياتي مع الأسد

التقيناه بالصدفة في الأتوبيس.. وبعد التعارف دعانا إلى بيته.. بقايا بيت مهلهل.. وأثاث بسيط مثل ألبسته، استنفذ عمره..

هي العظمة التي تعيش شامخة في كل الظروف.. تعاونا معه.. ونقلناه إلى بيت أوسع وأجود.. ومن هذا اليوم صرنا له أسرة كبيرة يأنس بها.. وصار لنا رجلاً كبيراً نلجأ إليه..

مازلت أذكر الليالي الطوال التي كنت أقضيها مع الرجل.. فقد كان بيته قريباً من بيتي. حدثني عن الثورة.. وعن جمال عبد الناصر.. وعن الإخوان ومحنتهم. كان إذا تحدث تخاله يتفجر. كنت متعاطفا معه.. أحس بكلماته اللاذعة تلسعني.. ومع ذلك فقد كنت ألتمس له الأعذار.. لقد كانت أحلامه أكبر من ظروفه.. وتخطيطاته أقرب إلى التكتيك العسكري..

في كثير من الأيام كنا نخرج معا في ساعة متأخرة من الليل، نطوف بأسوار استانبول.. وطالما علق على الفتح العظيم الذي قاده السلطان محمد الفاتح واستحق به ثناء القائد الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم.. (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش)..

أحببته في الله.. وكان يبادلني نفس الشعور.

قرأت مؤخرا مذكراته.. التي كتبها بنفس العفوية التي عاشها.. والتي تميزه في كل ما يقوم به من أعمال..

تزوج عبد المنعم من سيدة لبنانية من آل الخالدي.. بعد أن منع جمال عبد الناصر زوجته في مصر من السفر إليه.. ولقد نصحني أن أزور هذه الأسرة وأطلب يد ابنتهم للزواج.. وفعلت ما طلب مني.. ولكن زوجتي التي لم أكن قد تزوجتها بعد.. كانت تنتظرني على الضفة الأخرى.. فما خيبت ظنها. كان عبد المنعم يثني على موقف أنور السادات من أسرته أثناء غيابه الطويل عن مصر.. وعندما استلم السادات السلطة أصدر عفواً عنه وعاد إلى مصر إلى أسرته وأبنائه..

من الأمور التي تفيد الإنسان في بناء شخصيته.. أن يطلع على مثل هذه التجارب الإنسانية التي تساهم في رسم حركة الحياة..

ولكن من يسجل هذه الملاحم

في أواخر أيام الخلافة الإسلامية العثمانية.. أخذ النصارى على عاتقهم إحياء أمجاد العرب.. في المجالات الثقافية نشروا أو أعادوا نشر ما يناسبهم من الثقافات العربية.. وفي التاريخ نشروا كتباً تصور عظماء رجالات الإسلام، وهم لا هم لهم إلا التآمر والنساء والقصور والعبث ويأتي على رأس هؤلاء جورجي زيدان.. وانتقل من لبنان أرباب المسرح والممثلون والممثلات.. ليغيروا القيم الأصيلة وينشروا قيم الانحلال والانحراف.. وفي الأدب فتحوا الصالونات تديرها غانيات جميلات فتنوا رجالات الفكر والأدب في مصر.. وأخيراً في السياسة قالوا العرب أحق بالخلافة من الترك.. مرحلة قبل السقوط.

وما زال تلاميذ هؤلاء يعملون في المسرح والتلفزيون والسينما ودور النشر وصالونات الأدب.. يزورون التاريخ.. ويبذرون في تربتنا القيم الساقطة والمنحرفة..

أما أصحاب الهامات العالية.. صنّاع التاريخ المجيد.. قادة الحروب الأبطال.. رجال العلم الإنساني.. بناة الحضارة الإسلامية.. فليس مسموحاً لأحد أن يبرز دورهم لأن هذا الدور سيوقظ الشعوب.. فتستدرك ما فاتها..

هل يأخذ جيل الشباب الإسلامي هذه المهمة على عاتقه..؟!

هل نرى قريباً مسلسلات عن الأوطان.. والرجال العظماء.. والقيم الخالدة.. بدلاً من هذا الغثاء الذي زوّر كل شئ..؟!

وهل نرى قريباً في السينما أو التلفزيون سيرة عبد المنعم عبد الرؤوف وحسن البنا ونجم الدين أربكان ومحمد الفاتح وصلاح الدين الأيوبي.. فنتعرف من خلالهم على عبق التاريخ الحق، والقيم الأصيلة..؟

مع الأستاذ غالب همت

غالب همت

وفي استانبول التقيت بالأخ (غالب).. الشاب الوديع الذي أحببته منذ لقيته. كان طالبا في ألمانيا.. وكانت له اهتمامات دعوية، يتفقد إخوانه في المناطق المختلفة بين الحين والحين. ولقد امتدت بيننا العلاقات بعد ذلك.. وكانت كلها طيبة وخالصة لوجه الله والإسلام.

أذكره يوم قرر الزواج من تركيا.. فقد كان يبحث عن المسلمة الملتزمة.. وأذكره في إطار الاتصالات التي كان يجريها مع الآخرين.. لحضور المؤتمر التأسيسي للاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية الذي أقيم في مركز آخن في ألمانيا الغربية في يونيو 1969م..

وأذكره يوم زارنا مرات ومرات في الكويت يبحث عن تمويل المشروع الذي كان يشرف عليه.. وهو بناء مركز ميونخ الذي مازال صرحا شامخا للإسلام في تلك البلاد.. الأستاذ غالب همت هو اليوم شريك في بنك التقوى الذي يديره مع شركائه الآخرين في لوغانو في سويسرا..

زرته مرات عديدة في لوغانو.. واستضافني في بيته الجميل الذي يتربع على قمة الجبل المطلّ على بحيرة لوغانو.. كان وأخوه وشيخه يوسف ندا من المحطات الرائعة في حياتي.. نتحاور في أمورنا وخاصة الطلابية منها.. نتجول في أرجاء العمل الإسلامي.. وباستمرار كنت أجد للحديث والحوار معهما معنى آخر..

هو هو.. يوم كان طالبا مثلنا.. ويوم أصبح مديرا هاما في عالم المال والأعمال.. وقليلون من يثبتوا في مثل هذا الاختبار.

ولقد آذته الأحداث الأخيرة التي افتعلتها الاستخبارات  يوم 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001م في أمريكا.. فقد أعلنتها أمريكا حرباً على المؤسسات الإسلامية.. ومن بينها بنك التقوى.. جمدوا البنك وصادروا ممتلكاته.. وعاش الأخ غالب وأخوه يوسف ندا في ظروف صعبة.. مثل الظروف الصعبة التي واجهوها من قبل.. ولهم أجر الخير الذي تدفق عليهم فاستفادوا منه وأفادوا.. وأجر الصبر على الظلم.. والله سبحانه وتعالى يقسم بالعصر.. أن الإنسان لفي خسر إلا المؤمن العامل الذي يتواصى بالحق، ويتواصى بالصبر.

في لقاءات عديدة في ألمانيا وفي إيطاليا وفي ايرلندا كنت ألتقي مع الأخ غالب.. أو مع أسرته التي كانت تحضر أو تدير بعض الندوات.. أو مع بناته النابهات في مخيم لأبناء الجيل الثاني في ايرلندا. أمة بعضها من بعض.

مع الصحفي شوكت ايغي

من أبرز الشخصيات الإسلامية في استانبول في تلكم الأيام كان الأخ الصحفي القدير (شوكت ايغي)، كان يصدر مجلة (يني استقلال) نصف الشهرية.. كانت جريئة في طرحها.. وكان صوتها الإسلامي مميزاً، بدأت القلوب الشابة المتعطشة للإسلام تميزه عن غيره من الأصوات وتلتقي معه وتلتف حوله. ثم تطور الأمر فأصدر الأخ شوكت جريدة يومية باسم (بوجون) ثم جريدة يومية أخرى باسم (صباح)، وأصبح بلا منازع رائد الوعي الإسلامي في تركيا. التقينا بالرجل وتباحثنا معه في شؤون وشجون تركيا.. ولقد تحمّل في سبيل إيمانه بدعوته المحاكمات ونزع جنسيته والخروج من البلد.. وإذا كانت قسوة الأيام قد خففت من حماس الرجل.. أو أعادت تشكيل قناعاته.. فقد عاد إلى تركيا شخصا آخر.. ومع ذلك فلابد من أن نذكر الرجل ولا ننسى مواقفه الأولى.. يوم كانت الكلمة تكلف صاحبها غاليا. كنت أكتب في مجلته (يني استقلال)، فقد ترجمت مع الأخ (محمد ارطغرل) مجموعة من مقالات سيد قطب من كتابه (دراسات إسلامية)، وكان أثرها كبيرا في طلائع الوعي الإسلامي في تركيا.

ولقد ألّف شهاب طان كتاباً بعنوان (درويش جريدة بوجون) تعرض فيه لسيرة الأستاذ شوكت أيغي واتهمه بحبه للمال، وسعيه للنفوذ.. وأنه حضر عام 1962م المؤتمر الإسلامي في القدس ليبتز الشخصيات الإسلامية التي حضرت المؤتمر.. وحتى جريدة يني استقلال التي أظهر فيها الغيرة على الإسلام فقد كانت بأموال الحاج نظيف جلبي(أحد الشخصيات الإسلامية التركية المحترمة)..

وعندما أسس جريدته اليومية (بوجون) حصل على أموال كثيرة من البلاد العربية وخاصة من السعودية ومن مصطفى الطحان في الكويت(وهذا هو الكذب المحض.. فمصطفى الطحان يصح فيه قول الشاعر: لا خيل عندي أهديها ولا مال .. فليسعد النطق إن لم يسعد الحال).. وبعد سفره إلى خارج تركيا بعد الحكم عليه حصل على أموال طائلة من الشخصيات الإسلامية في الكويت والسعودية. لقد كرس شهاب طان حياته لتشويه شخصية شوكت التي عملت بجدية حقيقية لخدمة العمل الإسلامي في تركيا.

وفي كثير من الأحيان ينجح بعض المنحرفين في الهجوم على الآخرين الصالحين.. متهمين إياهم بالفساد.. فالفساد بعض ما عند هؤلاء يلقونه على غيرهم.

عندما يكتب المؤرخ عن الصحوة الإسلامية في تركيا سيضع الأخ شوكت في مكان بارز لا ينافسه فيه أحد..

مازلت أذكر موقفه السلبي من بعض الأمور الإيجابية التي حدثت في تركيا أثناء غيابه.. وموقفه السلبي من الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية يوم عقدنا مؤتمره الثالث في استانبول عام 1975م.. ومع ذلك فسلبيات الموقف.. لا تمنع من الاعتراف بالفضل والمواقف الأولى هي الفضل الأكبر.

كان يدعو المسلمين عبر جريدته إلى التجمع في صلاة الفجر في هذا المسجد أو ذاك في استانبول أو أزمير أو غيرها.. في محاولة لإظهار البأس والقوة..

كانت لنا لقاءات كثيرة مع شوكت، تحدثنا فيها عن خططه ومشاريعه، وحاولنا قدر الإمكان تشجيعه ومساعدته.. وحكمت الظروف على شوكت بالخروج من البلاد بسبب مقالاته النارية ضد العلمانية، وذهب إلى بيروت ومن ثم إلى ألمانيا.. التقيت بالرجل في

بيروت.. والتقيته في ألمانيا.. وفي ألمانيا بدأ التغير في فكر الرجل.. فكتب إلى رئيس الدولة التركية فعفا عنه.. وليس مستغرباً أن تتغير أفكار الرجال في الوسائل والأساليب.. لا في المبادئ والمنطلقات وأحسب أن التغير الذي أصاب أخانا هو من هذا النوع.. مجرد تغير في الأساليب. ويمكنني – لمعرفتي بالرجل – أن أذكر بعض الأسباب التي ساهمت في هذا التغيير.

وأتساءل: هل حدث بعض التقصير من قبل إخوان شوكت.. تجاهه أثناء غربته..؟ لا أستبعد.

المهم أن الرجل عاد (بعفو) إلى تركيا وهو ما زال ينافح عن الإسلام قدر الإمكان.. وإن كان بشكل آخر..

مع الشيخ محمد زاهد كوتكو

وفي استانبول التقيت بالشيخ محمد زاهد كتكو شيخ الطريقة النقشبندية وإمام مسجد اسكندر باشا.. وهو رجل عظيم.. هادئ كالبحر.. قوي كالتيار.. جمع حوله أئمة الفكر والعلم.. ووجههم للسياسة لإصلاح ما أفسده الآخرون.. لقيته أول مرة بصحبة الشيخ أمين سراج في مسجده (اسكندر باشا). وما زرته يوماً إلا ووجدته هادئاً مبتسماً يرحب بضيوفه الذين يحضرون إليه للسلام وطلب الدعاء. والشيخ محمد زاهد له من اسمه نصيب.. فهو زاهد بالفعل.. غرفة صغيرة.. وأثاث بسيط للغاية، وعدم تكلف في أي شيء. تحادثنا بالقدر الذي يسمح به المقام.. مقام طالب علم مع رجل الإيمان والجهاد في تركيا.. فالطريقة النقشبندية التي يرأسها هي التي قاومت جميع المحاولات التي عملت على إقصاء الإسلام عن الحياة في تركيا.

في أواخر الستينيات.. رأى ببعد نظره وثاقب فكره.. أن الوقت قد حان ليشكل مريدوه حزباً سياسياً.. يعمل على إصلاح الأمور قدر الإمكان.. وهكذا بدأ البروفسور نجم الدين أربكان رحلته السياسية التي بدأت بإنشاء حزب النظام الوطني عام 1970م، بتشجيع منه.

قابلته مرة في الكويت.. فقد كان مسافراً إلى الديار المقدسة.. مروراً بالكويت.. ولقد استضافه التاجر المعروف الداعية الكبير عبد الله علي المطوع في بيته في السالمية.. حديثه عذب.. وكلماته قليلة.. ودعواته للمسلمين بالنصر والسؤدد تشرح الصدر وتعطي الأمل.

يحتاج الحديث عن الرجل مساحة أكبر.. فلا يمكننا الحديث عن البروفيسور نجم الدين أربكان بغير الحديث عنه.. وسيكون له مكان في صفحاتنا القادمة.

مع الشيخ أمين سراج

الشيخ محمد أمين سراج

وفي استانبول التقيت بالشيخ محمد أمين سراج.. الذي يعرف نفسه فيقول: مدرس في مسجد الفاتح. الرجل في غاية التواضع.. والزهد.. ولقد أكسبه ذلك حسن سمعة وحسن أحدوثة.. يحبه معظم الناس فهو لا ينظر إلى ما في أيديهم.. ولا إلى مراكزهم.

حسبه جلسة علم مع طلابه في مسجد الفاتح يدرسهم اللغة العربية والفقه والحديث والتفسير.. انتشر طلابه اليوم في أنحاء تركيا.. واقتبسوا من شيخهم العلم والزهد والتقوى.. يحبه الأصدقاء.. ويقدره لتواضعه الآخرون.. ويحسب حسابه القادة والكبراء.. ومنذ عرفت الشيخ أمين لم أفارقه.. نحن رفقاء في المسجد عندما نكون في استانبول.. أو شركاء جلسات طيبة في بيوتنا المتجاورة في منطقة الفاتح.. أبناؤه كأبنائي.. وأسرته كأسرتي.. هكذا الحياة تضع في طريقها أقواما يتآلفون ويتحابون.. والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.

حدثني عن رحلته مع القرآن الكريم.. يوم كانت قراءة القرآن وحفظه جريمة يحاسب عليها القانون.. وعن رحلته إلى مصر للدراسة ولقائه بالشيخ علي يعقوب وشيخ الإسلام مصطفى صبري الذي ترك البلاد بعد انهيار الحكم الإسلامي فيها فهاجر إلى مصر.. حدثنا عن أيامه في الأزهر الشريف.. يوم كان السفر لمثل هذه المقاصد يعرض صاحبه لأشد الابتلاء..

وكما حدث لكل الدعاة في مصر.. فقد اعتقل معهم.. وككل داعية يستشعر مسؤوليته مارس الدعوة في بلده بعد عودته..

يمكنني أن أتحدث الكثير عن الرجل.. فهو أهل لأن يعرفه الشباب من جيلنا يقتدون به وبسيرته.. ويتعلمون منه ومن آثاره..

حدثني كيف زاره الشهيد سيد قطب في بلدته (طوقات).. ونام في بيته.. وعندما استيقظ الشيخ من نومه عرف أن الشهيد موافق على عمله بترجمة كتابه العظيم (في ظلال القرآن).

وقف مع المجاهد نجم الدين أربكان من أول يوم.. وما زال ثابتا على العهد.. صامدا في وجه الإغراء فهو لا يحب المناصب.. صامدا في وجه الردة.. متمسكا بالعروة الوثقى لا انفصام لها..

مع الشيخ علي يعقوب

وفي استانبول التقيت بالشيخ علي يعقوب.. شخصية تاريخية عظيمة.. عندما تدخل بيته، تحسب نفسك في كهف  من كهوف التاريخ.

مجموعات من الكتب القديمة.. بلغات متعددة من تلك التي يتقنها.. أقام في مصر فترة طويلة حصل من أزهرها على شهادة أصول الدين عام 1936م.. وعمل باحثاً في المكتبة المركزية في جامعة القاهرة.. ثم مترجماً في السفارة التركية في القاهرة.. وفي عام 1960م استقال من عمله وشد الرحال إلى استانبول. في مصر تعرّف على الإمام حسن البنا وشيخ الإسلام مصطفى صبري.. إذا تحدثت معه ينقلك إلى مجموعة عجيبة من القصص والمعارف.. فيه صلابة الألباني.. ونكتة المصري.. وذوق العثماني.. فقد جمع المكارم كلها في رجل.. (رحم الله علي يعقوب رحمة واسعة).

الشيخ علي يعقوب والشيخ أمين سراج وقلة من أمثالهم مسؤولون عن تربية جيل من الشباب.. بعلمهم الواسع.. وأخلاقهم العظيمة.. وتواضعهم الجم.. وكرمهم الحاتمي.. كل نهضة أو حركة عبر التاريخ تبدأ بمن يمهد لها.. يمهد لها بالعلم والتعليم والفهم السليم والقدوة المؤثرة.. ولقد كان شيخنا علي يعقوب من هؤلاء الذين مهدوا للنهضة الإسلامية في تركيا.

كتبتُ عنه بعض الصفحات في كتابي نظرات في واقع الدعوة والدعاة.. والرجل يستحق أكثر.. فمن أهم وسائل التربية هي القدوة.. وعلي يعقوب كان قدوة رائعة بفكره الإسلامي المتميز.. ونظراته السياسية الذكية.. وأخيراً بأدبه الجم وتواضعه الكبير..

ولد علي يعقوب في كوسوفو عام 1913م.. وتوفي في استانبول في 27 مايو 1988م.

وقبل أن يرحل الشيخ عن دنيانا ربط بين بلدين عظيمين تركيا ومصر.. ربط بين أسرة تركية مع أسرة مصرية هي أسرة الإمام حسن البنا.. واليوم حسن البنا الحفيد مصري الأب تركي الأم، هي إحدى طالبات علي يعقوب.. أليس هذه خدمة حقيقية لربط الشعوب..؟

عندما أزور استانبول.. كان لابد من زيارته.. أستمتع بحديثه وحكاياته.. وكان يبادلني الحب بمثله.. وعندما يعلق على كتبي.. كان يستغرب أن يكتب شابٌ في مثل سني مثل هذا الفكر العميق الناضج!!

مع المهندس علاّن بلال

علان بلال

لم تكن استانبول بالنسبة لي مجرد محطة للدراسة..

أغادرها يوم أتخرج من الجامعة كما يفعل الطالب المغترب.. يؤوب إلى وطنه..

وإذا كان لبنان الذي ولدت فيه وأحمل جنسيته.. هو الوطن الذي تعارف الناس عليه.. فإن استانبول التي عشت فيها أجمل أيامي أصبحت وطناً آخر.. اشتريت بيتاً فيها.. وأزورها سنوياً مرات عدة.. أتنقل بين بيتي للاستجمام.. وبين أنقرة حيث يتواجد البروفسور الدكتور أربكان نزوره ونتزود من علمه وسعة أفقه.

في هذه الفترة تعرفت على الأخ المهندس علاّن بلال.. وكان نعم الأخ.. ونعم الصديق..

في عام 1977م عقدنا المؤتمر الثالث للاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية في استانبول.. وكان هو وزوجته أم عمرو دينامو المؤتمر.. ويومها أدركت أننا عثرنا على رجل يمكن الاعتماد عليه..

تقلبت بنا الأيام.. وكنّا معاً دائماً.. في العسر واليسر.. والنشاط والعمل.. هو يعيش لفلسطين مهتمُّ بتحريرها وأنا معه.. وإذا كان هو دينامو النشاط كما كان دائماً.. فأنا رفيق دربه أساعده ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

في يوم جئت إلى استانبول، محطة أتابع بعدها سفري إلى تونس، ولم أجد علاّن، سألت زملاءه في البيت.. فقالوا هو في السفينة للتدريب ولن يعود قبل أسبوع. كنت أريد أن أراه.. فصليت العصر ودعوت الله أن يحقق أمنيتي.. وانتهيت من الصلاة وعلاّن يطرق الباب.. الأشواق جاءت به، والله يجيب المضطر إذا دعاه.

يوم غزا صدام حسين الكويت في أغسطس 1990م.. كنت في استانبول وأبنائي الأربعة في الجامعات.. وليس معنا عقد على نقد إلا ما يسد الرمق..

اتصلت بالأخ علاّن بلال وطلبت منه أن يدفع أقساط ابني محمد في جامعة عجمان في دولة الإمارات.. وكذلك طلبت من بعض إخواننا أن يفعلوا مع بقية الأبناء.. الجميع فعلوا جزاهم الله خيراً.. وعندما عدنا إلى الكويت بعد التحرير.. وسحبنا أموالنا من البنك وأعدنا لكل أخ ما أقرضنا.. إلا علاّن أبى أن يفعل.. فقد اعتبرها عربون أخوة وصداقة.. هي ما زالت ديناً في عنقي لا أستطيع أداءه..

مع بعض أساتذة الجامعة

في استانبول التقيت بمجموعة من أساتذة الجامعات..

بهاء أردم.. أستاذ مادة الكيمياء العامة..

وصباح الدين الزعيم.. أستاذ الاقتصاد في جامعة استانبول..

وأعداد أخرى من الأساتذة.. كانوا في منتهى التواضع والعظمة.. بعضهم إسلاميون.. وكثير منهم علمانيون لا يحقدون على الإسلام.. ولقد استفدت كثيرا من الصنف الأخير.. فنحن لم نعرفه من قبل.

زواج بالمراسلة

في استانبول أحسست أكثر من أي وقت مضى بمعنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج).. شباب وفتوة.. وفتنة رخيصة تملأ المكان.

المرأة في الشارع.. في الكلية.. رهن الإشارة.. في المنزل المجاور.. تطل من النافذة، تزاحمك في الأوتوبيس، تتصور عارية في الجرائد والمجلات.. عارية أو شبه عارية على شاطئ البحر..

وصدق رسول الله حيث قال: ما تركت فتنة أشد على الرجال من النساء…!!

إذا أردنا القيام برحلة إلى الحمامات (يولوا) مثلا..كان علينا أن نحجزها قبل فترة حتى لا تزاحمنا فيها النساء شبه العاريات.. إذا أردنا السباحة في البحر، كان علينا أن نشد الرحال إلى منطقة بعيدة لم يعرفها أحد بعد.. وكان من الطبيعي في مثل هذا الجو أن يفكر أحدنا بالزواج.

في السنة الأخيرة من سني الدراسة (عام 1963م) عزمت على الزواج، وكتبت ثلاث رسائل إلى ثلاثة من الإخوة عندهم بنات جيدات، وكانت تربطني بهؤلاء الآباء علاقات مودة ومحبة.. رسالة إلى الحاج علي الصالح وأخرى للأستاذ عبد الباقي الشريقي والثالثة للأخ عدنان منلا.. وجاءت الأجوبة كلها بالموافقة، والفتيات الثلاث فيهن الأجمل، والأكثر ثقافة، والأكثر التزاما بالإسلام.. وفكرت وشاورت واستخرت.. والذي أريد أن أذكره هنا هو أني عشت لحظة صدق مع النفس لم أندم من أجلها أبدا. مشكلة شبابنا أنهم يبحثون دائما عن الأجمل حتى إذا وجدوها وانقضت أيام قليلة وجد أحدهم نفسه وجها لوجه مع مشاكل لا نهاية لها..

وعدنا الأخ (عدنان) وكان مسؤولا مرموقا في استانبول أن يزورنا مع زوجته زيارة عائلية.. وانتظرنا ومرّ الموعد وأخيرا جاء واستدرك قائلا: منذ ساعة وأنا أحاول إقناعها بأن تلبس الإشارب على رأسها.. لقد كانت غلطة فالجمال ليس كل شيء.. وصدق رسول الله إذ يقول: (لا تزوجوا النساء لجمالهن، فعسى جمالهن أن يطغيهن).

ومن الشباب من يفتش عن المال، بالزواج من امرأة غنية يساعده مالها في إتمام دراسته، ولقد واجهت نماذج شقية من هذا القبيل، وكان أخونا (بديع) يهزّ رأسه استنكارا كلما ذكر أحد هذا الأمر وأراد أن يكرر التجربة.. لحظة الصدق هذه.. لا يمكن أن تمضي بغير مكافأة.. والمكافأة هي سعادة حقيقية وطاعة كريمة وبيت مسلم ترفرف عليه السعادة بأجنحتها البيضاء.

ولا يعني ذلك أن يهمل الشباب عنصر النسب والحسب أو المال والجمال.. كلا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تنكح المرأة لجمالها ومالها وحسبها.

وعندما يختار المسلم زوجته من الفتيات ذوات الدين لا يهمل بالطبع العوامل الأخرى التي ترغبه بالاقتران بها ومنها حسن المظهر وجمال الشكل وطيب المنبت والثقافة.. كل ما في الأمر أن لا ينحّي عامل الـدين جانبا أو يعتبره ثانويا.

أقول هذا بعد تجربة مارست فيها لحظة الصدق مع النفس فلمست عمق وعظمة هذا التوجيه النبوي الكريم.. وكيف يثمر مودة ورحمة وسكنا حقيقيا، ومن ذاق عرف.

والزواج المبكر نعمة عظمى.. لم يقل بها غير الإسلام.. أما الأيديولوجيات الأخرى الرأسمالية والشيوعية والعلمانية شأنها شأن المانوية والزرادشتية إنما هي شهوة تقضى.. وما لنا وللمسؤوليات..!

ولقد هيأ لي الصديق الكريم (مصطفى) أسباب الزواج من أخته.. وذهبت للكويت حيث تستقر أسرته.. وفي حفل بسيط حضره عدد من الأصدقاء والإخوان.. عبد الله العلي المطوع.. عبد الله العقيل.. الحاج رسلان الخالد.. وغيرهم..  تمت الخطبة.. وتمّ العقد.. وكذلك الزواج.. بعد أيام.

لقد كنت ساذجا إلى حد ما.. غريبا عن أجواء النساء.. جاهلا بأعراف الخطبة والزواج.. لم ألتق بزوجتي إلا بعد الزفاف.. ومع ذلك فإني أوصي الشباب بإطالة فترة الخطوبة، والالتقاء بالفتاة التي اختارها قلبه أكثر من مرة.. وأن يناطقها بحضور محرم لها حتى يقتنع بها وتقتنع به.. كل ذلك أباحه لنا شرعنا العظيم.. والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.

ولقد لمست من بركة الزواج المبكر فوائد عظيمة.. وحاولت فيما بعد تزويج أبنائي على الطريقة ذاتها لمن رغب منهم.. استجابة لنداء الحبيب.. يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج.

جئت إلى استانبول وحيدا.. وها أنا أغادرها اليوم، متزوجا من امرأة صالحة.. ومازلت أعتبر يوم زواجي في الثامن عشر من أغسطس من كل عام عيدا لي ولأسرتي.. تزيد فيه المودة والمحبة عاما بعد عام.

كانت هيفاء أول الهاتفين

في استانبول رزقت بمولودتي الأولى (هيفاء) في أول يوم من أيام يونيو (حزيران) عام 1964م، وفي الموت والحياة عبرةٌ لمن أراد أن يعتبر. وأن تصبح أبا وترزق بمولود حادثةً كبيرة في حياة الإنسان.. تنتابه مشاعر جديدة ما كان يدركها من  قبل.. الحب والحنان والفداء والتضحية كلها معان لن تفهم على حقيقتها إلا إذا اقترنت بأحداث الموت والحياة.

لقد لونت هيفاء أيامنا.. بألوان بهيجة حبيبة.. وإذا كان الثلاثة ركب.. فقد اكتمل ركبنا بحضور هذه الفتاة الجميلة الأنيقة الحبيبة.. كنت مع أمها في مستشفى الولادة.. وانطبعت في ذاكرتي صرخاتها الأولى التي هتفت بالقدوم على الحياة.. وما تزال.. ومع تزايد نغمات الإعلان عن ميلاد جديد.. وجدت الأسرة الصغيرة تغدو أكبر وأكبر.. وكذلك هي سنة الحياة.

أول حزيران (يونيو) 1964م

 

5 responses to “تركيا التي عرفت من السلطان إلى أربكان

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *